ادب وفن

رواية «الحمامة».. الحقيقة في رمزية المخيف / غازي سلمان

يعمد الكاتب الالماني باتريك زوسكند الى تبني الشخصية الواحدة "الميلودرامية" في روايته القصيرة "الحمامة" وهو ما منح الكاتب حرية التركيز على هذه الشخصية باعتبارها محور عمله، وان يدير الحبكة بقليل من الاحداث الجانبية وبعدد أقل من الشخصيات التي تظل هامشية، بأسلوب سردي قائم على التكثيف والاختزال في الصياغة، وبلغة تتميز بدقة معرفية وجمالية، مستعينا باستبطان العالم الداخلي للبطل والافادة من فاعلية تياري الوعي واللاوعي في البوح والاعتراف واستدعاء بعضا من ذكرياتها من خلال الهذيان والتداعي الحر في تعرية الذات، فضح هشاشة علاقتها بما يحيط بها، وخصوصا فيما يتعلق بتعايشها المستمر مع عقدة الاضطهاد لأنه من اسرة يهودية "على ما تبين"، نالت نصيبها من شوفينية النظام النازي في معسكرات الاعتقال. فحين عاد بطل الرواية "جوناثان نويل" من صيد السمك الى البيت وهو يخوض مستمتعا ببرك الماء المتخلفة من المطر عصر يوم من تموز عام 1942، متوقعا ان يجد امه، لم يجد سوى مئزرها المعلق على الكرسي، الأمر الذي سلب منه تلك المتعة التي سوف يستعيدها وهو في الثالثة والخمسين من عمره، ويبدو أن شعوره المتلازم بالاضطهاد بعد حادثة الاختفاء القسري لأمه ومن ثم لوالده، هو أحد الأسباب الرئيسة في نزوعه الى الانطواء والعزلة والى الالتزام المنضبط الصارم في سلوكه كفرد مهادن دائما، ميال إلى الرتابة، متخوف من المفاجآت اتقاء لشرور الناس، وهي الرغبة الوحيدة التي يتوق الى تحقيقها.
كان الكاتب حاذقا حين استطاع ان يسرد حياة "البطل" كاملة في سطور قليلة، وفي غضون يوم واحد، هو زمن الرواية كله، بدءا من استعراضه طفولته وشبابه ابان الحرب العالمية الثانية وانتقاله إلى العيش مع عم له بعد فقدانه والديه، ثم زواجه بشكل مهين حسب اختيار و أوامر ذاك العم، متأملا من الزواج السكينة والانطواء بعيدا عن اية احداث لكن زوجته تتركه هجرانا هي الأخرى بعد عدة أشهر من زواجهما مع تاجر خضار تونسي، حتى يرتحل الى باريس وهو الذي لم يجرؤ قط على أن يتخذ قرارًا في شأن يخصه، إلا بعد ان شعر انه خذل فعلا وتيقن من:" أن الناس لا يمكن الوثوق بهم، وأن عليه إذا أراد الهدوء و السلامة أن يبتعد عنهم". حينئذ نلتقي بـه وهو في سن الثالثة والخمسين، يسكن شقة احبها لأنها اشبه بجزيرة نائية عن عالمه الجائر المتقلب، ويعمل حارسا في مصرف بباريس، وهي المهنة التي تأكد له انها ضيقت كثيرا من مساحة الاحتكاك بالأخر، لكنه وفي لحظة اكتشافه حمامة تحط امام عتبة باب شقته وهو يهم بالخروج صباحا الى عمله ادرك ولأول مرة في حياته، ان نمطية حياته سلوكا وتفكيرا ومشاعرا قد تعرضت الى زلزال اهتز له توازنه الداخلي وبانَ هزالُ نسيجه، محدثا شرخا في ستره الذي يتحصن فيه لدرء تدخلات العالم الخارجي، ادرك فعلا ان نمط عالمه الذي حافظ عليه طيلة اكثر من ثلاثين عاما كاد ليستمر في نعيم ركوده، لولا ان القى حادث وجود تلك الحمامة الحصاة فيه على غير ما يتوقع، فلم يكن يتخيل ان يحدث اي طارئ مهم سوى موته هو. لقد تَهَدّمَ بناؤه النفسي الذي انفق عقودا من عمره في تشييده، تجنبا لأي فوضى من احداث مارقة، فمثل هذه الفوضى تكمن فقط في ماضيه البعيد، ابان طفولته وشبابه والتي لم تعد لديه رغبة في استعادتها كفعلٍ، او تذكر.
استطاع الكاتب ان يوظف هذا الحدث المفزع سردا للمنولوج الداخلي للبطل المضطرب بانثيالات المخاوف والوساوس جراء هتك العالم الخارجي حصون حياته التي تستقوي بالانطواء، فكان عليه ان يرتدّ بعد صدمته لمرأى الحمامة ويلوذ بغرفته، صومعته، لأنها تسّور طمأنينته انها " الكائن " الوحيد الذي يمكن ان يثقَ به، ليحيل نظام معيشته فيها، عاداته وعلاقته الحميمة الميكانيكية بموجوداتها، الى أفعال فوضوية لم يتخيل يوما انه سوف يقوم بها.
واذ يشعر "جوناثان" انه حوصر عميقا داخل نفسه، وانه ربما يذهب إلى السجن إذا اطلق الرصاص عليها، وانه ربما ينتهي هنا بجلطة دماغية، وما هو ازاؤها الا مجرد كهل لا يرتجى منه ما يفيد في الخروج من محنته، فلا بد من ان يخطط للخروج من قمقمه، ومن غرفته التي بدأت تضيق، لكن عليه ان يتحاشى ذلك الكائن المخيف، الحمامة بأرجلها الحمراء ذات المخالب وريشها الرمادي الأملس والتي تكاد ان تقتله دهشة او خوفا، أن تسجنه في غرفته حتى نهاية عمره. واذ نجح فعلا في تنفيذ عملية الفرار شعر وكأنه انتصر، وان كان مهزوما امام ذلك الكائن القذر، وإن جَعَلَه يرتدي ملابس الشتاء كلها في يوم صيفي قائض، و إن تخلى عن حبيبته، غرفته، التي أمِن اليها طوال ثلاثين عام.
في أول وقفة له على موضعه كحارس للمصرف بعد فراره من غرفته، ينفرط عَقد حبّات افكاره القليلة الذي كان متماسكا حتى قبيل لحظات، انفصلت مكوناته منجذبة بتسارع نحو الفوضى المحيطة بمكانه، لم يستطع بصره التوقف لحظة ليرى تفاصيل المشهد امامه، بل راح يرى جزءا صغيرا من كلية الشيء و ما يلبث ان يضيع في تلك الفوضى لتلتقط عيناه شيئا آخر، أو بالأحرى تتعثر بشيء آخر، وهذا ما لم يعتد عليه "جوناثان نويل" المكتفي بمشاهدة ما يحتاجه في عمله فقط، ابواب المصرف ودرجات السلم وسيارة مديره. فيما العالم الذي كان يتحاشى النظر اليه او الانضمام له اصبح الان اكثر اتساعا وتنوعا وضجيجا، فأشعره بالدهشة والخوف حتى افقده القدرة على تأدية عمله الروتيني الرتيب الا بمشقة، لكنه بقي واقفا بقليل او بكثير من تماسك الجسد، بالرغم من كل هذا الصخب المحيط، والافكار التي تتلاطم في ذهنه، وتخيل ان الموت ربما يغافله على حين غرة، ربما يمرض الان او ان يضحى متشردا.
لم ينفك الكاتب من مصاحبة بطله في دوامة الهرب والنفور من الآخرين، منزويا في قوقعة الخوف والتوجس، وفي بحثه المحموم عن اعادة الانسجام مع عالمه الخارجي الذي افتقده قبل ساعات من دون جدوى ليأتي مشهد الرجل المتشرد الذي يجلس بالقرب منه في تلك الحديقة والذي يعرفه جوناثان جيدا منذ ثلاثين عاما، ليجسد امامه كنه وجوده هو، لكنه الساعة يغبطه بل يحسده.
الا ان مشاعر الغبطة والحسد لم تستمر طويلا حين يتمكن ذهن جوناثان من قلب الصورة، صورة المتشرد المسترخي الكسول المنسجم تماما مع نفسه وعالمه الى صورة رجل محتاج لأن الحاجة بالنسبة لجوناثان هي ما يحدد معنى الحرية.
غير ان الامر ينسحب ايضا على فعل بسيط، تافه حين يتذكر "جوناثان" انه شاهد المتشرد في يوم ما من اواسط الستينات، قابعا بين سيارتين بجوار حافة الرصيف يقضي حاجته ، فتلاشت كل مشاعر الغبطة والحسد في نفسه، ولأنه يمتلكه فانه احس بلذة الحرية الجوهرية. وادرك الفرق في الشعور بالطمأنينة بين من يتغوط في الشارع كاشفا عن عجزه ! و بين مَن يتأكد مِن خلو الحمّام من شخص ما، بين من يتغوط وينام في العراء وبين من يدلف الى غرفته، صومعته ويحكم اغلاق بابها. منذ الان لن يكون نمط حياة المتشرد تجسيداً استفزازياً
لجاذبية الحرية وسحرها ابدا حسبما اعتقد "جوناثان". انه يرى الان صورته المعاكسة التي رسمها لذاته ويعي معناها. اضحت صورة المتشرد حصاة ثانية تلقى في بحيرة حياته، بعد حصاة حادثة الحمامة، بفارق ان الثانية القيت في مياه مضطربة بينما الاولى كانت في مياه ساكنة.
هذه الحادثة التي الزمته التحدث الى الخيّاطة، مع مشهد المتشرد المقزز الذي استذكره " جوناثان " اضافة الى تمسكه بجزئيات سلوكية اخلاقية ينبغي عليه الالتزام بها مثل نسيانه علبة مشروب فارغة على مقعد الحديقة و غفلته عن سماع صوت سيارة مديره في حينه ومرأى الاخرين وهم يؤدون اعمالهم نادل المقهى والزبائن، سائقي سيارات الاجرة، ورواد الحديقة التي كان يجلس فيها ، كل تلك المشاهد وغيرها قد خلقت حالة من المقارنة الصادمة بين شخصه الملتزم بواجباته الاجتماعية وتأديته عمله بدقة متناهية، حتى انه عاد ليتفقد مكانه في الحديقة لمعالجة ما ظنه "خطأ فادحا " ليرمي العلبة الفارغة في سلة المهملات، ومن ثم تأنبيه نفسه بما يشبه جَلدَه ذاته لأنه اغفل سماع سيارة مديره وتأخر لحظات عن اداء واجبه، وكذا انتقاده سائقي السيارات الذين يتسببون في الضجيج والتلوث، وذلك النادل الذي يستحق الرفس، لأنه يستغل الزبائن، الاغنياء الذين يسترخون ويشربون المشروبات بالغة الغلاء، بهذا يكون "جوناثان" قد اكتشف العالم الخارجي من جديد، نشأت علاقة جديدة مختلفة بينهما. و انّ موقفا مغايرا تم تبنيه من قبله. لقد انتهك فعلا حدود عالمه الداخلي متجاوزا ذاته التي بدأت بالانفتاح على محيطها الخارجي، لكنه بالرغم من تمني الاقتصاص منهم بتطرف، لا يستطيع تنفيذ ما تخيل من رغبة في القصاص من الاخر.
لقد أيقضه صوت انفجار الرعد والبرق من سباته فتمزقت حصون دواخله، ليعود إلى غرفته الانيسة الرحبة، عشيقته، التي تنتظره كـ "جوناثان" اخر وقد اغتسل بقطرات المطر خائضا ببرك الماء، حافيا مستعيدانصوص