ادب وفن

أسطورة الطائر واللوح المفقود / جاسم عاصي

سعت قصص جليل القيسي من خلال غنى تجربته وعمق دلالات رموزه إلى نقد الواقع والكشف عن أهم فواصله. ولم تتخل عن صيرورتها كنصوص إبداعية، بل أكدت سعيها إلى تعميق وجود النص القصصي ورفده بدماء وتوجهات جديدة، على الرغم من تماسّها مع التاريخ والتاريخ الأسطوري والشعبي.
جنداري والطائـــر زو
القصة اعتمدت أسطورة الطائر زو باعتباره إله العواصف الذي اتخذ شكل طائر سرق ألواح القدر التي يظن أن مردوخ استعادها حسب معجم الأساطير/ تأليف ساكس شابيرو ورودا هند ريكس، وبهذا يكون الكاتب قد تعامل مع هذه الأسطورة بكيفية ذاتية اختلفت عن بقية من كان التاريخ الأسطوري للوجود الإنساني مادة المداولة في النص. وذلك من خلال تناصه مع مصادر كثيرة ومنها على سبيل المثال "قصة الخليقة البالية، والعهد القديم بأسفاره وبالأخص سِفر التكوين. مما جعل نصه يساير التاريخ الأسطوري بعامة، أو سار على وفق نظرية الخلق للوجود من باب نظرة المثيولوجيا لذلك. وهذا بطبيعة الحال وضع الكاتب نفسه في أكثر المراكز خطورة، وأقصد به الخطورة السياسية. فالنص له متعلقات موضوعية واكبت حياة الكاتب، لاسيّما حادثة اعتقاله وسجنه، مرافقة لإعدام الكاتب الشاب "حسن مطلك" لا نريد الخوض في ذلك. غير أننا نُشير إلى حساسية توظيف مثل هذه الموضوعة، التي اعتمت النشوء والسقوط. ونعني بذلك نشوء العصر وتردي سلطته، ثم سقوطه بالكامل في حدّة تناقضاته الذاتية والموضوعية. وكان هذا لوحده تأكيد على جدلية الانهيار للطغيان الذي شهده العالم. والكاتب كان محقا ً في توظيفه للثيمة الأسطورية، لكنها لم تبرئ ساحته من الاتهام وإن لم يعلن عنها مباشرة. ورب سائل يسأل حول ما أنتجه بعض أقرانه من نصوص دون المساس بوجودهم، نذكر أن جرأة "جنداري" في هذا النص أكثر وضوحا ً ونبوءة في انهيار النظام. كذلك ما رافق ذلك من ملابسات سياسية. فجنداري استخدم من ضمن ما استخدم من إشارات؛ عبارات فاصلة بين عصر وآخر، كانت لها حساسية وتأثير خاص وعام وهي كالآتي:
" ــ نحن خلقناه فلنر ماذا يفعل.
ــ هل الإرهاب علامة؟
ــ هل السؤال علامة؟
ــ هل الصوت علامة ؟
ــ هل المعابد علامة؟
ــ هل القتل علامة؟
ــ هل أخطأ جلجامش وعوقب أنكيدو؟
ــ هل العيد علامة؟
ــ هل الأبواب علامة؟
ــ هل المجاعة علامة؟
ــ هل الغواية علامة"؟
ففي العبارة الأولى نراه يعني قصة آدم وعلاقته بحواء، وما تلاها من علاقة مع "هابيل وقابيل" وتفضيل أحدهما على الآخر عبر التقدمات الرعوية والزراعية، وابتداء الجريمة الأولى في التاريخ بسبب المرأة التي احتكم بشأنها إلى الأب "آدم" فأخفق في الأداء والحُكم، وفضّل أحدهما على الآخر قياسا إلى نوع التقدمة. بمعنى راعي الطبيعة الإنتاجية؛ الرعوية والزراعية.
والثانية نبوءة تاريخية على شكل سؤال ناتج عن بنية تاريخية شاع فيها القتل كما تروي القصة. وفي هذا تكمن خطورة النص في تأسيس فكرة النشوء والسقوط في التاريخ الأسطوري الذي هو علامة فارقة للسلطة السياسية وهرمها وسقوطها.
وفي الثالثة دال على خطورة أن تسأل لماذا وكيف وما هو المبرر. وهذا أيضاً له متعلق اجتماعي سياسي بلبوس أسطوري. وقد عالجه القاص من خلال نصه.
أما في الرابع فيكمن سؤال تأثير الصوت العالي، أي صوت الاحتجاج على ما هو جاري من وقائع وتشكيل الرؤى.
والخامس يخص الدين عبر المعبد في الحضارات القديمة. والسؤال هنا هل كونه يشكل سبباً في إحداث الإشكالية التاريخية؟ والجواب أيضاً في النص، ضمن حراك المعبد ووظائف الآلهة، وتحول وظائفها عبر العصور.
في السادس واضحة فيه السمة التي أراد أن يُشير إليها الكاتب، وهي كمبدأ الإبادة للمغاير والمختلف وأتى عليها النص كما سنرى.
أما السابع فله أهمية سلطوية خطيرة. بمعنى ثمة مخطئ ومخطَأ. وكما هو معروف في نص ملحمة جلجامش، إن الذي قتل "خمبابا" هو جلجامش، وأنكيدو من قام بمساعدته. كذلك في قتل الثور السماوي. أما في الثامنة، فأنه وضعنا في مواجهة الحزن العراقي المتأصل الذي يكون الموقف الاحتفالي مشوب بحزن داخلي، بمعنى عدم استقرار الذات العراقية في عدم وثوقها بالآخر وبالتطور سلباً كان أو إيجاباً.
أما في التاسعة؛ فثمة تأكيد على ما هو كامن خلف الأبواب. أي انفتاح حراك النص وما يحتويه من تسجيل لحُقب وعصور. إذ تبقى الأبواب علامة للكشف.
أما في العاشرة؛ فهي إشارة إلى تصعيد عنف السياسة وتردي البني الاقتصادية التي خلفت المجاعة والموت المجاني.
وفي الحادي عشرة؛ إشارة إلى غواية الأنثى للآلهة كما فعلت الفتاة بالإله "آنو" كما سنرى في سياق الدراسة.
من هذه الأسئلة أو الجمل الاعتراضية التي هي بمثابة مفاتيح تُعطي سؤالا شاكّا وباحثا عن المبرر التاريخي. وفي مجموع هذه الاعتراضات يتشكّل النص بتداولية تاريخية صياغة ونسقا ومعنى. مستخدما وموظِفا بنية سردية مرّحلة من الكتب المقدسة. وكما ذكرنا وما سنأتي عليه من مبنى قصة الخليقة البابلية والعهد القديم، خاصة سِفر التكوين وصاموئيل. بمعنى واكب النص وبجدارة بنية نظرية التشكيل الأول للوجود وما رافق ذلك من متغيرات موضوعية وصياغة.
التوالي في العصور. . بنية تشكّل النص
ما تشير إليه بنية تشكّل النص، هو نوع التداولية الأسلوبية أولا والموضوعية ثانيا. وكلاهما مصاغ برؤية اتسمت بالتداخل الذي شمل السرد والروي، ثم الأزمنة التي أنتجت حقبا حضارية، صعدت من خلالها قوى، وفُعّلت آلهة واستبدلت وظائف كما هو معروف في سِفر الآلهة والملوك الأسطوريين. وهذا بطبيعته ما أشار وبشكل معلن إلى جدلية التاريخ هذا. فالكاتب تعامل مع التاريخ من باب البني المؤثرة والصانعة للنوع الفعلي في التاريخ البشري. صحيح أنه التزم بالبنية الأسطورية للتاريخ، لكنه وضع اجتهاده من خلال رؤيته هذا التاريخ، الذي حاول أن يطوعه لصالح بنية نصه. من هذا نراه لا تعنيه حالة التسلسل التاريخي بقدر ما تهمه حالة الأثر والمؤثر في التاريخ، لاسيّما أسطورة "آدم وحواء وربطهما بالإله آنو" وكالآتي:
"تضايق آنو وخَفِتَ نوره ولبس نعليه من على منصة التاريخ وقال: اجعلوا من هذه مبولة / وهمَّ بالنهوض ولكنه لمح آدم وزوجه يُطردان من الجنة / في اليوم الثالث من أيام المطر الأربعين ظهر بسن شحر يجر خلفه آدم وزوجه بحبل / باتجاه باب الخروج. وانقضى اليوم الثالث للغيث ومالت محفات الدخان الأبيض والألق الخرافي نحو البحر / وقف الجريد الأجرد الذي حصدته مناجلهم بوجه الريح وامتد بساط من النار على أديم الجنة. وأخرجوا آدم / نحن خلقناه فلنر ماذا سيفعل".
هذا المقطع من النص يُشير إلى انزياحات في مفردات تاريخ النشوء الأول.
بينما في مقطع آخر يكون النظر إلى ما بعد نزول آدم وحواء إلى الأرض أكثر وضوحاً ومباشرة، كذلك شمل الوضوح طبيعة الآلهة وظهور جانب العنف الذي تحلت به، وهذا يقود إلى التطرف في الدين بتوفر النواة المحققة فيه:
"أولدها تؤمان ــ ويقصد حوّاء ــ، نذرا للآلهة نذوراً / خروف وفاكهة فجة / قُـُبِلَ نذر ورفض الآخر. قتل الأخ أخاه وجلس عند رأسه بأسى. وحوّمت روح القتيل في ظلمة الفراغات بين السماء والأرض، فلم تجد لها مكانا لا في السماء ولا في الأرض. وكانت أول روح تُزهق. وكان يوم الحزن الأول / ليكن له ولد غير الذي الذي قُتل / فكان / تغيّر وجه العالم : صار الولد فنهض آنو واقترب من بحر دجلة غاضبا وجلس على منصة الإرهاب".
ولنلحظ الكيفية التي طرح فيها السارد صورة الخلق واشتباكه من جهة، ومن أفضلية ما اختار الإله "آنو" الذي يتحول بحكم مسيرة التاريخ متذبذبا بين السلم والدموية، لكي يحكم السيطرة على الوجود، حيث تنشأ فلسفة الحكم والعمل على تأسيس ونشوء المجتمعات التي لابد أن تفرض عليها قيود القوانين، منحدرة من تنظيم الحياة إلى مبدأ إقصاء وجود الإنسان. وكل هذا تتحكم فيه الآلهة أو مجموع محتوى المعابد وبالتالي الدين.