ادب وفن

من آثار الحضارة السريانية ، قراءات في قصص سريانية / جاسم عاصي

استجابت القصة القصيرة العراقية للمستجد والمتغيّر في الواقع، سلباً أو إيجاباً. ومن هذا يمكن اعتبارها مواكبة للواقع بكل مستوياته الموضوعية. ووفق اطلاعنا على القصة التي يكتبها القصاصون الكرد، وأمثالهم من السريان، نلاحظ تباينا في مستوى الاشتغال على وفق محاور واقعية، غير أنها تتباين من منطلق البناء الفني أولاً، ومن طبيعة ما تتناوله نصوصهم ثانياً.
ولأن القصة هذه عريقة النشأة، فقد خضعت لمؤثرات، لعل المؤثر المعرفي واحد من الأسس التي عوّلت عليها القصة في اثراء عالمها الداخلي. ونقصد بالمعرفة هذه استلهام معارف تـُعين النص على النهوض، من مثل التاريخ، والتاريخ الأسطوري والميثولوجي والحكائي. ولعل القاص والروائي الدكتور سعدي المالح واحد ممن أثرى نصه القصصي والروائي بما تداخل فيها من نصوص وبنى أسطورية وميثيولوجية عامة. ولعل الحكاية ببنيتها أسهمت في الارتقاء بالنص. كذلك ما قدمه القاص هيثم بهنام بردى من نصوص، استفادت من التقنية والمعاني.
والقاص نوري بطرس ممن لديه محاولات في القص عبر مخطوطته "نيسان في أول الزمان " التي اجتمعت على مجموعة أقاصيص، تباينت فيها الأساليب والمعاني، غير أنها راوحت في مدار واحد، سواء في المعالجة أو المعـنى. لقد عالجت القصص جملة هموم رئيسة للإنسان، غير أن أهمها بعامة، هو تدوين ما مر به الشعب الكردي والمسحيون من اضطهاد على مر السنين. لذا كانت القصص تقتنص الظواهر والمشاهد لتدونها من خلال حقل الإبداع. فكانت قصصه تتميّز بالبساطة التي ترتقي إلى السهل الممتنع، الأسلوب الذي يترك أثره في النفس ويأخذ الحراك الواقعي بروح هادئة ولغة سلسة لا يرصد تعقيد فيها. وتنثال تداعياته، مستفيداً من أسلوب التداعي، للغور في التاريخ أو الذاكرة لما تحمله من صور. نجد في قصص نوري بطرس عموماً نكهة خاصة، وطرقه في معالجة المشاهد. لكن يندر في القصص نمط تصعيد القصص التسجيلية، ولكن بفنية مختلفة. الخط الدرامي الذي توجبه حالة تصعيد صورة الاضطهاد، لذا نجدها تقترب كثيراً من الثريات ومدلولاتها
لعل العتبات في أي كتاب تعني الشيء الكثير في الكتابة الحديثة. والعناوين هي من أولى العتبات التي يعوّل عليها كخطوة أولى للدخول إلى متن النص. ولما كان كذلك، فالاهتمام بها يعني خلق الصلة الايحائية في تشكلها الذاتي، بما يؤشر علاقتها بالنص كمحتوى. في كتاب القاص نوري بطرس يكون العنوان الرئيس "نيسان في أول الزمان" يعني أنه مؤشر على عمق الاحتفال الذي يرافق أعياد الأكيتو في نيسان. من هذا تكون إشارة "أول الزمان" تعني قدمه في التاريخ البشري. فتخليد الشهر وأولويته، تأتي من أهميته التاريخية من خلال اقترانه بالأعياد تلك. والعنوان وأن استل من أحدى القصص إلا أنه اشتغل على مساحة النصوص، في كونه ارتبط بالمتون من باب الإيمان بتغيير الظواهر السلبية التي واجهت الإنسان في الظروف الصعبة. فالعنوان من هذا إجابة مقصودة لإخصاب الحياة، وانكسار آلة القتل والحرق ومصادرة حياة الآخرين.
المحتوى والدلالـــة
كما ذكرنا، إن النصوص التي تضمها المجموعة تشتغل على محور معاناة الإنسان، وهو يرزح تحت ظروف قاهرة وممضه. لذا كانت المعالجة تعتمد البساطة في الطرح، لكي لا تغلف الحدث بالصعب من الأساليب والمعالجات ، كذلك لمسنا في المعالجة، إنها اهتمت بتحليل الشخصية، وعكس ما بداخلها، سواء كان بالانثيال أو التداعي والاسترجاع، لتحقيق مقارنة بين زمنين. عموماً اتسمت النصوص بكيفية مقنعة، بالرغم من حاجتها لتعميق وظيفة السرد في خلق تجليات أكثر تأكيداً على حالات الفرد والجماعة.
فنص "العربة" بسيط في إشارته، لكنه كبير في ما عكسه من معاناة الإنسان الكادح، وهو يمارس عمله العشوائي مع عربته، منتظراً ما تجود به الصدفة من خير. في النص ثمة استرجاعات أفادت المعنى المراد التعبير عنه. كذلك اعتمد النص تحليل دواخل الشخصية دون تهويل. فهي رحلة يومية مع آلة العيش، أسفرت عن صور ومشاهد يومية.
في قصة "خطوات نحو الأفق" تتواصل بدقة التعبير في البحث في المجهول، بحيث خلق السارد مجموعة توترات إزاء المغيّب أو الغامض. لقد طرح هواجس هذا العالم بشفافية اللغة، وقدرتها على رصد المشاعر والأحاسيس، لكننا فوجئنا بضياع حجم السعي الذي رافق السارد لأنه كشف أيضاً عن غامض، حيث السؤال يلح : ما ذا تعني المرأة ؟ ومن هي ؟ أسئلة لم تجد لها إجابة في النص. في ما تبدو قصة "السابع من آب" أكثر اقناعاً، لأنها تؤشر الأحداث المتمثلة بالحرب الشرسة على الإنسان، فهي قصة مراجعة وربط بين الماضي والحاضر. لقد وثق القاص ما جرى في الماضي، وما أنتج من مقابر جماعية يندى لها جبين التاريخ. إن القاص راصد جيد، وذو قدرة على جمع ما سمع وربما شاهد من أروع ما جرى، فقد كان طرحه مؤثراً. وتزيد قصة "الطريق الصحراوي" مشهداً آخر على ما أتت عليه القصة السابقة.
في الكتابة ثمة علة ومعـلول، سبب ونتيجة . هذه القاعدة لم نجدها في قصة "سيرة ذاتية لرجل ميت". لقد كان العنوان مثيراً، ووصف الرحلة ممتعاً، لكن الأسلوب القصصي لم يقدم لنا الدليل المقنع على ما هي عليه الشخصية. هذا النموذج المقهور، ولا نعرف من أي شيء يأتي القهر، فقط وجدناه كما أشارت القصة "ألقى بجسده المنهك على الأرض، جثة هامدة، توقفت نبضات قلبه أخيراً، نبضات سرعان ما تهبط رويداً مثل حبات المطر، تنقر على صدره المفتوح المكشوف. وعيناه ما زالتا تنظران إلى السقف، وكأنهما تطلبان شيئاً ما".
وتكون قصة "الملاذ الآمن" قد منحتنا صورة على العكس مما أوحى به العنوان. فجملة ما انعكس على داخل النص، هو تلك الهجمات الشرسة، هجمات الإبادة الجماعية التي تعرضت لها منطقة كردستان العراق. فثمة وصف ورصد لحالات إنسانية بالغة الحيوية، استطاع القاص أن يعكسها ويكثف صورتها. فاقتحام المدن، كان يجري بعشوائية مدمرة، لا تعطي الإنسان فرصة تدبر أمره، لذا يحدث اقتطاع في جسد العائلة. إنها قصة تؤرخ لمرحلة مهمة في تاريخنا.
وتعالج قصة "رحلة نحو المجهول" البحث عن مدينة آمنة، أو تتميّز باليوتيبيا. فهي الحلم المرتقب، والمنقذ المنتظر. وبطلها تنتابه الهواجس والمخاوف، إذ استطاع القاص أن يرصد هواجسه، ورغباته الدفينة، وشدة تأثير ظواهر القهر على حياته. غير أننا نبقى بمنأى عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي دفعته إلى مثل هذا الطموح المنكفئ. ولا تختلف قصة "نافذة في المنزل" عن سابقتها في التطلع إلى المنقذ، والتشوف إلى المدينة المرتقبة. لكنه مزج بين الإرث الآشوري وبين ما يحصل في زماننا "حكاية قديمة من زمن آشور، كانت العربات الآشورية تجوب المكان، والعاصمة القديمة ليست بعيدة من هنا أيها الرجال. ما زالت ترانيم البيت القديم تنوح بأصواتها للأرض والمياه والعشب الأخضر".
يبدو أن نماذج "بطرس" ينزعون إلى مغادرة المكان، باحثين عن ملاذ أكثر أمناً، فأكثر نصوصه الآنفة كانت ضمن هذه العوالم، وتلك المعالجات. وقصة "الأسلاك الشائكة" تدخل نفس العالم من عنوانها :
ــ هل يمكننا أن نصل إلى هناك ؟
ــ إلى أين ؟
ــ تلك الرابية البعيدة.
ــ لا أدري، بالأمس كانت أرضاً خضراء خالية
بهذا الهاجس يعالج القاص ثيمة قصته هذه.
لعل قصة "عودة الطائر المهاجر" تعالج الهجرة المعاكسة، أي العودة إلى الوطن. وكما ذكرنا في دراسة العنوان، كونه كان عنواناً مجازياً. فنموذجه يجوب في أرض الغربة بحثاً عن ملاذ، لكنه يصاب بالخيبة "عندما صعد إلى محطة المترو، كانت هواجسه لا تزال تتزاحم مع ضجيج المكان، لقد انقلبت حياته رأساً على عقب، وفقد توازنه" إلى أن غدا ضمن دائرة قناعته بالعودة "ها هو يرفرف بجناحيه، يغلبه الشوق والحنين، بعد أن دارت الأيام دورتها". إن نموذجه مشدود للماضي، لأنه بنظره أكثر إشراقاً كما في قصة "مدينة الأجداد". ويبدو أن حلمه بالمدينة المرتقبة مزيج من الأحلام التي بناها الأجداد بكل صدق، يناقضها زيف الحاضر وتدهور أواصره.
ويتوافق اسم نموذج قصة "المرفأ والملاذ" مع اسم الملك "سرجون الأكدي" فتتماهى مع النموذج التاريخي. لقد أدار حوارية بطلها مع الملك المتخيّل بكل دقة وطرافة. وتكون أزمة النموذج هي العودة إلى الأرض والعيش بأمان أيضاً. ويأخذ المتخيل السردي القاص إلى حافات تخيّل وجوده ضمن حقبة تاريخية، ضمن أعياد الأكيتو، مستلهما وموظفاً الأناشيد والدعاءات والترتيل التي كانت تـُردد في نيسان. إنه تعشيق جميل من أجل استرداد القيمة الأخلاقية المفقودة، وسط التفجيرات وأعمال الإرهاب. ولعله يعيش بنفس الهواجس وهو يواجه مدينته والفتاة في "شارع 108" محاولاً استرداد توازنه مع امرأة تخيّل وجوده معها، من فرط مخيلته السارحة بعيداً. إذ لم يحصد سوى طاولة وكرسي وجعة يعيد توازن داخله.