ادب وفن

الشعر.. تداعيات الذات وتداخل الصوّر / جاسم عاصي

حين ذكر إليوت بأنه لا يمكن الاستعانة فقط بالوقائع والتطورات الحاصلة عليها ، بل الاستعانة بأنساقها وعناصرها ورموزها . وهو نوع من التداول بين الموضوعي والذاتي . وهذا يعني أن رؤية الظاهر ، غير رؤية ما يتركه من أثر نفسي على الداخل ، أو الذات .
بمعنى أن يكون الانطباع الذي تـُجسده القصيدة يخضع لما هو مضمر ، فهو المحرك الأساسي ، والمترجم والمختزل لما هو مشاهَد ، فنحن بصدد ما هو مضمر في النص الذي يخضع لمكوّنات مختلفة تترك أثرها في نسقه غير الظاهر . أي أن النسق الخطي للنص يحمل وجها آخر لابد من التوصل إليه ، عبر مجموعة مكوّنات ، لعل اللغة مركزها . وفي هذا تكون اللغة الشعرية هي المَعبـْر لمثل هذا التمثيل للواقع ، من خلال تصعيد صورة ما هو مشاهَد ومُعاش وخالق للانفعال الوجداني . لذا نرى أن قصائد الشاعر ( سامي هادي ) تتعامل مع اللغة من باب التفاعل والمزج بين ما هو مرئي وبين ما هو متصور أو متخيّل . فهو لا يكتفي بالمخيـّال مبتعدا عن صورة الواقع ، وإنما يحاول أن يُمسك بالجمرة المركزية التي تعكسها اللغة الشعرية بما تتضمنه من انفعال وجداني ، فلسفي ، يرصد الحضور الذاتي إزاء العناصر المُصادرة لكينونتها ، ويتعامل مع الغياب والحضور على أساس الجدلية القائمة جرّاء دفعات الواقع بكل مكوّناته ، حيث تكون المفارقة ، والجدلية بين الأشياء والصور والأحداث هي ما يُفعّل المشهد الشعري ، ويخلق مناخا متحركا يضفي حيوية عليه من خلال حراك اللغة باعتبارها المثابة الممسكة بمقود التصورات لما هو حادث ومؤثر والمنعكس على الذات، كالحروب مثلا ، التي أراها مسيطرة بفعل ترك آثارها على المناخ الشعري ، الأمر الذي دفع الشاعر إلى تجسيد ما هو جوّاني ودافع لمقاومة تأثيراتها ، ومنعها من السيطرة والاستحواذ على المشاعر والأحاسيس .
إن قصيدة "سامي" تجنح إلى تجسيد المفارقة كما ذكرنا ، ليس في اللغة فحسب ، وإنما في ما هو يُشكـّل العلاقات القائمة داخل بنية الواقع الكلي والجزئي ، محاولا تحقيق ــ من خلال هذه المتضادات ــ المفارقِة التي تـُظهر ما هو فاضح لهذا التأثير . فلغته كثيرة الحساسية ، تصل إلى حد التمرد على مكوّنها الخطي ، كما سنلاحظ ، محاولة عبر تراكيبها الخالقة للمجانسة بين المفردات ذات التعبيرات الذاتية الخالصة ، بحيث يخلق بينها علاقات بالدلالة التي ترمي إليها أو ترمز لها . فاللغة عنده ذات نسق وصيّغ مفارِقة ، بالرغم من بساطتها وابتعادها عن الغريب والمعقـّد سواء كان في المفردات ، أو من العلاقات القائمة بينها لتشكيل الجملة الشعرية .
ففي قصيدة "لا منزل هناك يشبه البحر" نراه ينحو من خلال العنوان إلى أن يؤكد على المُطلق، بدليل المحدود في السعة. إذ يولي عناية بالمطلقات ، لأنها دليل النزوح إلى خارج النمط أو الساكن . فالمنزل هو مكان الاستقرار والألفة . ورغم ذلك نلحظه يبحث عن الحرية في المطلق ــ البحر ــ . وهذا يعكس حالة الحس الوجداني إزاء المكوّن المكاني المنتـِج لقيّم متعددة . ولأنه يبحث عن الحرية الذاتية في المطلق ، نجده يوفر تشوفاً متداخلاً في فضاء القصيدة :
" كانت كمنجة تـُحادث المرآة ، وتبصر رقص ترنيمة ، في ليل أهدأ من نافذة /
تحكي لشمعة ذكراها "
ولنبحث عن صورة المؤثر والأثر المتروك على الذات . فالكمنجة نظير المرآة ، هما مطلقان جماليان . الأول من خلال النغم ، والأخرى من منطلق الرصد والانعكاس والمشابهة . لذا فتناظرهما دلالي . لاسّيما ما ترشحه هذه الرؤى من إظهار نتائج هذا التمرئي الذي يكشف عن مجموعة صور محصورة في جمالية الأشياء كالرقص والترنيمة ، والنافذة والشمعة والذكرى . وهذه المكوّنات اجتمعت لِلـّمْ العناصر وتشكيل صورة تعاكس المؤثر . ولعل مسار القصيدة ، يُظهر صور مؤثرة أخرى كحكاية الطفولة ، والوصول إلى صورة المرآة كرمز لظاهر الحرب ، في كونها لا "تـُدفئها لوحة متشحة بالسواد". وهي صورة أكيدة لما حدث ، أو سوف يحدث . حيث يختم القصيدة بـ
"أية هجرة هي تلك التأملات التي تعرض في كؤوس الغربة ، فيعسر عليَّ
القول على سلــّم الثلج ، لأسأل الحمائم ، ألم يحن بعد أوان العودة بعد ؟
، وأقول للصخر، أولدتَ هنا ، أم أن الريح جرفتك عنوة"؟
وفي قصيدة "حرب أرجأت هجرة الطيور" نلحظ المفارقة أيضاً من العنوان وهو يتصدى للحرب علانية . غير أنه يتعامل مع المؤثر من خلال التأثير على الجمالي وصور البراءة المتمثلة في الطيور . وهي عبارة تمتلك إيحاءات كثيرة ، لعل أهمها براءة الأطفال من براءة الطيور والشجر والماء . فالحرب تمحو المكوّن الأول للحياة ، لا بدماره الوجودي فحسب ، بل بالإبقاء على وجوده الدائم المعلول . ففي مستهّل القصيدة يتصدى الشاعر إلى أهم ما يفرزه هذا المؤثر ، وهو يُجسّد صورته في الأشياء :
"عبث أن تبصر برؤى الحقول ، سماء المرايا التي لا تزال أنفاس أصلب القـُبل،
ملتصقة بها ، أنا هنا أنتظر قلق أنغام الوغى ، حاملاً أشد التواريخ الميالة إلى
اللون المادي ، لا أحد يعرف لِمَ أرنو بالنار إلى معجزات الماء"
وهو مفتتح عكس أول التأثيرات في صورة شعرية جميلة هادئة ، لا يشوبها التعقيد . إن القصيدة تتعرض لظاهرة الحرب من باب الأثر والتأثير ، من دون اللجوء إلى تضخيم الأشياء المشاهَدة ، وإنما ملاحقة الوجداني الذي يسقط عليه الأثر :
"آه .. أنني لا أبلغ ثانية الأحاديث التأملية ، لتلك المدن الفاضلة التي علمتنا
قـُبل الموت ، هنا ... من ذلك الزقاق التي توقد النوارس ، الفوانيس في موهن
الليل ، هنا ... تعترى الشبابيك كلها ، بوجه سماء واحدة"
وتتضمن القصيدة أيضاً مشهداً يُظهر تأثيرات الحرب ، وما تـُسببه من ضياع وسط مفارقات كثيفة ، تضع الإنسان في فضاء التغريب والغربة النفسية :
"رجل ضيّع في الحرب وجوده ،وأسئلة في ذلك المضيق، تستنطق
أكبر القلق . ، أيتها الحروب ، أيتها الحروب ، أي ورد كنتِ ، رجل وحيد
خلف الغيب ، في العصور الجليدية للكرنفال ، مرتدياً زي كهوف التعاريف"
وفي قصيدة "توابيت الفانوس" يسترسل في عكس المَشاهِد الحسية ، وهي لا تبتعد عن تأثيرات الحروب ، بقدر ما ينغمس في أتونها ليُظهر ما انعكس على ذاته :
"الليل لا يلتفت إلى حدائق تتلو دفن الأوراق ،وتقول الأمواج الحمر لليلة القمراء :
إن أكثر أنغام الضياء خجلاً ، دفنتها المواسم ، اشتعلت المدافن ، والنوطات
الخمرية ، تأملن في نوافذ ، أتقنت حكي شيخوخة التفاح"
إلى أن يصل إلى حد وصف شعوره إزاء الخراب ، ليستنطق نهايات الأشياء :
"فلا تنتظريني إذن أمام باب رمانات غاية في الصغر ، والشوارع ، ضيعّتها
الظلال ، اعثري عليَّ تحت تلك الأحاديث ، حين قال لهنَّ الندى : ما العشق
يا ترى ؟ ، فقلن ، كان ثريا من مطر ، أدى في عربات لهفة الأوراق ،
رقصة الردى".
وفي قصيدة "نوطة نبيذ معتق" يستظهر الذات ، من خلال ولعها بالوجود ، وما يضمره من صور خفية مؤثرة ، حيث نجده يتصل بالذات مباشرة ، ليكشف مثل هذا الولع ، وبروز التغريب لتاريخ وجوده ، وتاريخ الأشياء من حوله :
"يا طائر حلمي البارد الأكثر توغلاً في الشرق ، متى يحين موسم الدفن ، ها أناذا
في غابة طاعنة في السن ، أبحث عن شيخوختي"
إن الاغتراب الذي يعيشه الشاعر حسياً ، متأت من المفارقات التي ينتجها الوجود ، فلا يكون له إزاء هذا سوى الامتثال والدنو من الحقيقة ، بسبب القهر الروحي والنفسي الذي يكابده الإنسان نموذج القصيدة . فهو تواق للتمرد والسمو بذاته ، لا الانصياع لتأثيراتها الدائمة :
"أبصر بلاغ أحلام غربتي ،وفي غياب اللحظات ، يجلب لي نغم خافت
سكوت النوافذ ، ذاك أنا ، في سلـّم السفر لم أعثر على خطى أقدام
سماء، ما عدا العيون المتحجرة ، لم يحك لي أي جسد حلم الأبدية،
ما زلت أتلقى صوت شذى آلاف الورود، في المياه المفتقرة إلى الأناشيد"
ما نود أن نؤكده في مكوّنات قصيدة الشاعر ؛ كونها تستجمع أسسها عبر مستويين من الاستخدام الأول : يميل إلى التوغل في بنية المجريات التي تخزنها الذاكرة ، والثاني : ذو ميل إلى التركيب اللغوي ، الذي يعتمد الخروج عن مألوف الاستخدام والمواءمة بين المفردات ، بحيث يخلق لها مجالات تعبير أكثر تأثيراً في شعرية القصيدة كما في العيّنات أدناه :
"نحن نسرد سيرة تفتح حدائق فواميس"
"رجل يسرد جليد أديان العشب"
"غالباً ما تعرض وجه فحولتها خارج النزوات ،أيتها الفتاة ، يا كتاب
نهارات أديان الفحم"
لا نهجع في أزقة الأقنعة"
"نردد ترانيم الثلوج الهامدة على النيران"
"خليلي قامته أشبه بالنحيب الأخير لجايكوفسكي الذي صيّر الرجل مرآة
في نهنهة السمفونية الخامسة ، والمرآة ، بحراً ضاعت فيه معاني
الوسوسة كلها في عربة شرقية"
والأمثلة كثيرة على ذلك ، حيث يُغني الشاعر جملته الشعرية ، بسعيه إلى وضعها ضمن مصافي الدلالة خارج نسقها الخطي .