ادب وفن

نصف الرماد ../ ربعي المدهون.. في روايته (مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة ) / مقداد مسعود

لدينا ست روايات في هذا المطبوع :
*تحيلني رواية (مصائر...) إلى رواية (السيدة تل أبيب ) للمؤلف نفسه
فالروايتان تقتسمان المهيمنة الفلسطينية نفسها
*الرواية الرئيسة (مصائر....) للمؤلف ربعي المدهون
*رواية يكتبها وليد الدهمان...
*رواية (فلسطيني تيس ) تكتبها جنين ويطلع عليها الروائي وليد
*ورواية أهداف سويف (التحديق في عين الشمس ) التي تقرأها جولي زوجة وليد
* العلاقة بين جنين وباسم ، تحتاج قراءة نقدية خاصة ، وحين نلملم السرد الخاص بهما نحصل على رواية قصيرة ، باسم فلسطيني بجواز أمريكي لاحق له بالعمل في إسرائيل ولايتمتع بالضمان الصحي أو الإجتماعي ولا يحق له السفر مع زوجته لم يحصل بعد على موافقة وزارة الداخلية الإسرائيلية .وبشهادة باسم (كأننا زوجان تراجعا عن طلاق مؤقت أجبرا عليه ../88) ..وتنقض على باسم كل هذه الإختناقات وزوجته جنين حاملة الجواز الإسرائيلي تعمل في معهد يافا الذي (يعمل على تشجيع المواطنة المشتركة بين سكان البلاد ويؤمن لها توازناً نفسيا في مواجهة التمييز السائد ضد العرب ../99) والسؤال : كم المسافة الإجتماعية بين وزارة الداخلية ومعهد يافا..؟
(*)
وحده محمود الدهمان المتميز بوعي نقابي (شكّل بعد إحتلال المجدل عسقلان بوقت قصير لجنة لعمال النسيج للدفاع عن حقوقهم وانه شجع العديد من سكان المدينة على البقاء ومنع الكثيرين من الهجرة... / 117) المسافة جد قصيرة بين محمود الدهمان الحقيقي ومحمود الدهمان الشخصية الروائية ومحمود الدهمان ، فلسطينيا، هو الشخصية المضادة لإيفانا في السلوك وفي المواقف ..
(*)
في الروايتين(السيدة تل أبيب) و(مصائر....) يتم سرد فلسطين بتراجيدياتها النازفة ، وكيف يتعامل أدعياء القومية العربية مع الشتات الفلسطيني ..(البهدلة في البلاد ياحاجة حتى مع اليهود، أشرف وأرحم ميت مرّة من البهدلة والشرشحة في المخيمات ../ 117) ..(عليّ الطلاق بالثلاثة العيش تحت حكم إسرائيل أحسن ألف مرّة من حكم الإدارة العسكرية المصرية اللي موريانا نجوم الظهر .هذيك عدو وأحتلنا .بس هذه تبيعنا عنجهيات قومية على الفاظي ../119)..
(*)
، في رواية .(مصائر...) خلية السرد الموقوته هي لحظة تاريخية حادة كشفرة الحلاقة ،أعني 1948 وهي لحظة تشتغل التاريخ لتدحض فنيا : الوعي الزائف المفروض اسرائيليا على تسمويات الأماكن والشوارع والآثار التاريخية ..أما البيت الفلسطيني فبشهادة وليد الدهمان (جمع الأسرائيليون فيه ملامحنا القديمة مثل مقتنيات تراثية من ماض لايعود جعلوه حاضراً ووضعوا فيه ملامحهم التي جاؤوا بها من كل بقاع الأرض ../60) ..في يوم معين من زيارته لفلسطين يقرر زيارة المجد عسقلان ، بحثا عن بيت العائلة ،فلم يجده وحين أتصل بوالدته ، حاولت تعينه بتوصيفاتها للجغرافيا ، لكن توصيفات الأم منبثقة من جغرافية راسخة في ذاكرتها هي ، لاالجغرافيا المسرودة اسرائيليا بجرافات كاتر بلر الامريكية ، تلفت وليد بحثا عن الجامع الكبير الذي وصفته له أمه حين كان يتصل بها ..يتلفت وليد ويسأل نفسه أين الجامع الكبير الذي بناه الأمير المملوكي سيف الدين سلار عام 1300؟! لقد رأى وليد (مئذنة ترتفع قليلاً عند زاويته اليسرى مثل منارة قديمة هجرتها السفن ،بضع قباب مثل طاقيات من الصوف شاحبة اللون وقد تآكل وبرها../ 55) ماتبقى من الجامع صار أسمه (خان أشكلون موزيم ) هنا يصرخ وليد (ياإلهي كيف أصلي ركعتين أنذرهما لأمي في مسجد أصبح متحفاً وحانة ) وصدمة وليد غير مقنعة ..بالمرة ، فصدمته تفضح عدم متابعته لمايجري في الارض الفلسطينية من تخريب الجغرافيا وتشويه معالم التاريخ وفن العمارة الإسلامية ..
(*)
لايتم العودة إلى شفرة تلك اللحظة بتذكرها بل عبر العودة الحقيقية إلى مكان ذلك الزمن ويتم عبر تنفيذ وصية الفلسطينية الأرمنية (إيفانا أردكيان ) بنقل نصف من رماد جثتها ،إلى بيت مانويل أردكيان جدها لأمها في مدينة عكا ، ومن أجل هذه المهمة جاءت جولي وزوجها وليد الدهمان من لندن .
(*)
والازدواج الشرس بين الهوية الفلسطينية و(حق المواطنة الأسرائيلة ) للشعب الفلسطيني وهناك إزدواج آخر لدى أقلية فلسطينية ، تعمل في الجيش الاسرائيلي وتقتل برصاص فلسطينيين !! كل ذلك يتحرك في شبكة سردية متنوعة ، حيث بتنقل القارىء من سرد المؤلف في روايته (مصائر...) إلى سرد (فلسطيني تيس )رواية الروائية جنين ..والرواية تتنقل بين المدن الفلسطينة تنقلها بين غزة كقطاع تابع لمصر حتى هزيمة حزيران 1967 وهناك لندن كما هناك موسكو ومونتريال
(*)
يتغلب في الرواية الجانب السياحي كأنني أقرأ نصا من أدب الرحلات ،حتى الاشخاص معظمهم بوظيفة ذواكر أمكنة ، الكل منشغل بالمكان وكينونته مكانية بنسبة عالية مما يجعلنا نقرأ سردا سياحيا للمتغيرات الاسرائيلية في المكان ، هنا تتراجع وظائف الشخصيات الروائية ،فهي شخصيات لم نعرفها من الداخل ، قدر ماعرفنا الامكنة من خلال ماتتذكره هذه الشخصيات ..وكل ذلك يصب في وعاء آيدلوجية الرواية وفي الغالب سرد الذاكرة يترهل كما هو الكلام عن المطاعم الفلسطينية وحمام الباشا وعن الراديو في المقاهي ضمن قطاع غزة / ص155وقبل ذلك ذلك الترهل في الحديث قضايا غسل العار / ص88..وكذلك أثناء الحديث عن سيرة محمود الدهمان يحشر السارد المشارك بالحدث ( حكاية يوم ختانه هو .../ 118) !!ليس السارد وحده من يزور الأمكنة بل يصطحب القارىء معه طوعا أو كرها ..كل الشخصيات تسعيد حياتها بتوقيت ذواكر الامكنة ..والسارد يعاني مرض ،،تثبيات السعادة ،، يريد الرؤية الأولى للأمكنة حين زارها فهو حين يزورالقدس يعلن بمرارة ، دون الأ خذ بمؤثرية الزمان على الأمكنة ..(كانت القدس التي في ذاكرتي قد ابتعدت عني ../ 211) كأنه يلوم المكان على المسافة الفاصلة ولايلوم المكين الذي لم يحتمل فغادر المكان ..والسارد يتمرن على معرفة الامكنة من خلال الكتب ..(قرأت ضمن قراءاتي المكثفة عن القدس في الاسابيع الاخيرة التي سبقت حضوري / 211..) وهكذا يتقدم السادر بين عتمتين : عتمة التاريخ البعيد ،التي تصعّب رؤية التفاصيل ، وعتمة جنود الإحتلال وهو يحجبون الرؤية لكن المعرفة الميدانية للمكان الفلسطيني ، شاخصة بقوة في (فاطمة معارف) وهي فلسطينية اليد والقلب واللسان ، وهي ذاكرة المكان الحقيقي وبها سيستعين وليد من أجل زوجته جولي ..يطلقون عليها (فاطمة معارف ) ..وهي( مرشدة شعبية تحفظ ملامح عكا وتفاصيلها أكثر من كتب التاريخ والجغرافيا وهي توزع الحقائق التاريخية على السياح الأجانب مجانا ../ 12) وبهذه الطريقة تتصدى هذه المرأة العكاوية لتزييف فلسطينية التاريخ والجغرافيا ..
(*)
المسافة بين بيت عائلة وليد والشارع الطويل ، هي نكبة 1948 وسوف تسرد جرافات كاتر بلر محو البيوت و ستحاول ذاكرة وليد إستعادة سردها والقارىء العراقي لايحتاج تصنيع مخيلة في هذا الفضاء الشرس ، بعد فشل إنتفاضة 1991 كانت جرافات طاغية العراق وهي كاتربلر بالمناسبة ، تهدم البيوت التي إنطلق منها شبان الإنتفاضة :..(صرخت ُ في أعماقي التي لايسمعها أحد غيري وتجولت بنظري في شارع طويل ينتهي بمنازل كانت من طابقين مازال أسفلها يحمل بقايا بعض ماكان يعلوه .في خلفية الشارع إلى اليسار ،ثلاث نخلات عمتي كانت هناك تنتظرني قرب نخلتها تحملني بيدها وتقطف البلح .كان للبيت ،، علية ،، طابق ثان أخذتني أمي إليه ذات مرة حملتني على كتفها .عمتي ليست هناك عمتي ماتت في خان يونس هناك في بيت على حافة مخيم لاجئين ، لم أجد أثرا حين زرت ُ المقابر القديمة...../ 55)
(*)
المفصل (2) من الفصل الأول الذي عنوانه (إيفانا أردكيان ) يمكن اعتباره هو الخلية السردية الموقوتة، وذرة هذه الخلية تنفيذ وصية إيفانا أردكيان ..في المفصل (2) ثمة حكاية يمكن نطلق عليها حكاية ليا وصديقها كواكو:أنحشرت في الرواية لسبب واحد : هو التمرد على نسق التعالي الكولونيالي ،فالشابة ليا ، لاتأخذ بوصية والدتها ..(لاتخالطي الغرباء ياليا ، أبتعدي عن السود والعرب والمسلمين ../22)
(*)
في ص29 يكون السرد على لسان إيفانا أردكيان ، يتحول السرد سلما تهبط عليه إيفانا متوجهة إلى بئر ماضيها في عكا و المدينة هنا مبأرة بتوقيت زمانها الشخصي / العاطفي ، زمانها الذي غدرت به وغادرته ، تاركة لإهلها لطخة أخلاقية لاتمحى وهو زمانها الذي لم تحاول زيارته وهي في حياتها ، بل قررت زيارته من خلال نصف موتها / نصف رماد جثتها ، إذن إيفانا لاترى من زمان مكانها الشخصي سوى مقبرة / مغفرة ، وهي بهذا تصوغ بتفرد حكاية / عودة الإبنة الضالة ميتة إلى المكان / الرحم وهي في سردها لاتقدم سوى منولوغ غير موجهة للحاضر بل إلى الزوج الميت ..(تستحضر ماضيها البعيد ، تسرد حكاياته وعيناها مثبتتان على مقعد الراحل حون / 28)..وسردها شهادة مجروحة !! وهنا يستلم الدفة السارد العليم ليخبرنا عن إيفانا التي ..(كتمّت على تفاصيل الحرب الحقيقية التي اشتعلت آنذاك داخل كنيسة سان جورج وبين أفراد عائلة أردكيان وسكان الساحة وحرقت مشاعرهم وفحمّت نفوسهم ،لم تحدثهم عن لحظاتها الأخيرة في عكا التي ماتزال بعض سكان الساحة يحفظون تفاصيل منها تتناقلها الألسن منذ عشرات السنين ../29)..كقارىء أرى أن إلزام القاطنين في بيت جد الميتة إيفانا بأن يحتفظوا بنصف رماد جثمانها ،تمثل مسألة مقززة فمن يسكن البيت لاعلاقة له بأهل إيفانا وفي مثل هذه فأن إيفانا مرتين لم تراعي مشاعر الناس في منطقة سكناها ، الأولى حين هربت مع الضابط الطبيب البريطاني ،والثانية بعد موتها حين ثبتت في وصيتها أن يكون نصف رمادها في بيت جدها لأمها !! ويبدو أن إيفانا وهي في لندن كانت تعيش خارج التغطية وذاكرتها الفلسطينية متخثرة على لحظة هروبها من عكا وهي تتصور ان نصف رمادها سيكون ممحاة لكل ما اقترفت !! ومازالت هذه المرأة تريد الأشياء تأتيها طوعا أو كرها (أقيموا والمشيعون المحتملون حفلا صغيرا في المنزل الذي سيتقبل رمادها../ ) !!
(*)
بخصوص استقبال نصف رماد من قبل العائلة التي تقطن بيد جدها لأمها سيحصل القارىء على سردين :
*الأول الذي تخبر به جولي زوجها وليد ، ان سيدة جميلة في العقد الثالث رحبت بها واسمها سمية ولاحظت ان عائلة سمية قد حافظت على كل مافي البيت منذ زمن والدتها وان هذه السيدة قررت تحويل البيت التي كانت تعيش فيه أمها إلى نزل للسياح وتطلق عليه اسم (نزل إيفانا ) ../ ص46..
*السرد الثاني : تستعيده جولي لنفسها ، انفتح الباب خرجت امرأة تحدث معها ، ثم برز رجل كبير ، أوضحت له قصدها من الزيارة ، فرفض ان تحتفظ العائلة بنصف رماد أمها ..ثم انتزع التمثال من يد جولي وقذفه ..(أرتفع التمثال بضعة أمتار في الهواء وسقط سمعت صوت تهشمه على درجات السلّم ، راقبت رماد جسد أمها يصعد إلى الفضاء في سحابات صغيرة../265) .. يبدو ان إيفانا تتقن صناعة أفعال عنيفة في حياتها ومماتها ، ومن الملاحظ انه لاأحد أوقف ابنتها عن فعلتها هذه ؟! لازوج جولي ولا فاطمة معارف ولاغيرهما ، الكل تصرف بآلية مع الوصية ، ولم يفكر بردود افعال الآخرين بخصوص نصف الرماد !!
(*)
إيفانا هي فضيحة في عكا وحين أختفت تحولت إلى ذاكرة فضيحة في عكا أيضا ..إيفانا التي تخلت عن عكا (في لحظة نزق عاطفي../ 50) إيفانا التي عاشت رفاهية انكليزية بتوقيت محنة الفلسطينيين و نكبتهم 1948، بريطانيا تسلم مفاتيح عكا للمنظمات اليهودية المسلحة ، إنترانيك ،عم إيفانا يقاوم الصهاينة ويستشهد دفاعا عن عكا والد إيفانا وأمها يعلنان البراءة من ابنتهما .. والسؤال السردي هنا هل تستحق إيفانا أردكيان ان تكون محور هذه الرواية ؟ أم لأن الموضة الروائية صارت تتحدث عن مظلومية الأرمن ، فإستيقظت الرواية في كل مكان يقظتها المتأخرة لتتناول الأرمن في السرد ..فتناولهم أورهان باموق ..وورد ذكرهم في روايات أخرى وهنا الآن امام شخصية سلبية إنانية تخلت عن كل شيء وانتجت عارا اخلاقيا وسياسيا لعائلتها الأرمنية البطلة تلك العائلة التي قاتلت دفاعا عن عكا إبنة إيفانا تدرك جيدا ..(أن والدتها خشيت أن تلعنها عكا في مماتها كما لعنتها في حياتها حين هربت ../35)