ادب وفن

ترجمة الشعر كإشكال فلسفي / رشيد المومني *

ما اقترن سؤال الترجمة بالخطاب الشعري، إلا وتموضع في عمق إطاره النظري، الغني بدلالاته الفلسفية والجمالية، باعتبار أن فعل الترجمة، وضمن هذا السياق تحديدا، غير قابل للاختزال في مجرد عملية آلية، قوامها نقل نص ما، من لغة إلى أخرى، بغاية تحقيق تواصل، لا يعدو أن يكون عابرا، وخاضعا لشرطه الظرفي والمؤقت، بقدر ما هو فعل يستمد قوته الإشكالية، من اضطلاعه بمغامرة الانتقال بلحظة وجودية، من فضاءاتها المغلقة، إلى فضاءاتها المنفتحة، التي قد تكون ذات هوية زمانية، جغرافية، أو حضارية. وهي لحظةُ تكاملِ مجموع تلك المكونات، التي يمتلك من خلالها النص الشعري، حظوة الاستمتاع بترحاله الدائم، في قلب حركية الوجود، بما تمتلكه هذه الحركية من مسارات متحولة ومتعددة، يحتفي النص على امتدادها، بانبعاثاته المتجددة والمتمثلة في التمظهرات المختلفة، التي يكاشفنا فيها بقابليته التلقائية على تقمصها. وهي تمظهرات، نابعة من قلب التحويلات التي تحدثها قوانين كل لغة، على بنيات الخطاب الشعري، و هي تحويلات جمالية، قائمة أساسا، على أرضية ذلك التشابك المعقد القائم، بين آليات اشتغال الواقع والمتخيل، ضمن خصوصية الرؤية الفكرية والفنية، التي تمتلكها الذات الكاتبة تبعا لانتمائها اللغوي الخاص بها.
ولعل نسبة هائلة من البرودة، التي تعاني منها غير قليل من التنظيرات المهتمة بترجمة الشعر، تعود أساسا، إلى خلل تركيزها على التقنيات العامة، الموظفة عادة في إنجاز فعل الترجمة، من دون الانتباه إلى علاقة هذه التقنيات ذاتها، بجوهر الكتابة الشعرية، الذي يمكن اعتباره السؤال الفلسفي الأكثر إلحاحا، والذي ينبغي إيلاؤه ما يستحق من تمثل وتأويل، مادام الاقتراب من الشعر في ذاته، وحتى خارج إطار الترجمة، هو اقتراب ضمني من أكثر الأجناس الأدبية التصاقا بأسئلة الكائن، وبأسرار علاقاته الغامضة والملتبسة بالكون، حيث تعني الترجمة من هذا المنظور، نقل نص هذه الكينونة، من فضائه الأول إلى فضاء مغاير، وقد أمسى خلاصةَ مكابداتٍ جمالية وفكرية، بها ومنها، يتشكل ما سبق أن وسمناه باللحظة الوجودية، ذات العمق الإنساني، أو تلك المجرة المأهولة بكائناتها، والمؤثثة بشغبها الدلالي.
هذا الانتقال الاستثنائي من الهنا المفرد، أي النص المترجَمً، إلى الهناك متعدد/ اللغات المترجم إليها، هو أيضا، انفلات مصيري، مبطن بنزوع حاد وجارف إلى التحرر من حياة لغة منغلقة على ذاتها، باتجاه لغة حياة، لا تطمئن إلى تجسداتها إلا ضمن حركية هذه الانتقالات، وبما أن كينونة النص الشعري المنذورة للسفر وللرحيل، ولتواصلاتها المنفتحة التي لا حدود لها، هي الأصل في هذه الحركية، وهذه الانتقالات، المنسجمة تمام الانسجام مع استراتيجية الترجمة، باعتبارها الطاقة المؤشرة على حياة النص، كما على إمكانية استمراريته.
ولأن السؤال المركزي للنص الشعري، يتمحور مبدئيا حول بحثه عن مضاعفه المعبر عنه في التلقي العالي، فإنه وتبعا لذلك، لا يكف عن اختبار مختلف أنواع التموضعات والمحاورات، التي تساهم في تلبية تلك الحاجة الوجودية والملحة، بما في ذلك المقترح، الذي تتقدم به الترجمة.
إن حياة النص الشعري، تضيق عموما بالفضاءات المغلقة، كما تضيق بانحسارها داخل مجال لغوي ثابت. وبالنظر إلى تعدد الأرواح والأجساد الذي يتمتع بها النص، وأيضا بالنظر إلى استسلامه لفتنة تحولاته الدائمة، فإنه لا يستقر على شبيه نهائي، بل إنه خلافا لذلك، لا يلبث يستنزف ويستهلك مجموع ما يُقترح عليه من قراءات، ومن مقاربات وترجمات، في أفق البحث عن فضاءات لغوية مغايرة، يحقق فيها امتداداته الممكنة.
من هذا المنطلق، يمكن القول، إن الترجمة تساهم في هدم الحاجز، الذي يحول دون هذا الانعتاق، الذي به تبنى هويته وخصوصيته، وهو ما يضفي عليه مسحة فلسفية وشعرية مضاعفة، تنبثق من جوهرها المتقاطع والمتفاعل مع جوهر الشعر. بهذا المعنى، سيلاحظ تعارض هوية النص الشعري، مع أي تأطير نهائي، قد يؤدي به إلى الالتزام بالإقامة في سكن ثابت ودائم، فحيث تتاح له إمكانية تحقيق حضوره الفعلي، المنسجم مع أسئلته ورؤاه، فإنه لا يتردد في الاستجابة إلى نداء الحضور، علما بأن هذا الأخير، ومهما كانت طبيعته، لا يعدو أن يكون تفعيلا نسبيا ومرحليا، لسؤال ما، من أسئلة هويته المتشذرة في فضاءات المحتمل. والمحتمل هنا، يفيد جماع ما يستقبله من قراءات ومحاورات، في فضاءات اللغات الجديدة، التي يحل ضيفا على جمالياتها، وإشكالياتها الدلالية، بفضل سلطة الترجمة التي تضع حدا- وبشكل شبه قطعي- لعلاقة النص بأصله. إذ بمجرد احتجاب الأصل اللغوي للنص، فإنه يسلم قيادته إلى امتداد لغوي مغاير، يحرره مباشرة من قدر الانتماء إلى لغته الأم، التي ربما قد يكون كتب بها. وفي هذا السياق، يحضرنا إشكال إبداعي وحضاري، يجد تجسيده في الكثير من النصوص الشعرية والإبداعية الكبيرة، التي كتبت رأسا، بلغات أجنبية لا علاقة لها باللغة الأم، بفعل ظروف ذاتية أو موضوعية، تتجاوز الإرادة الشخصية للنص ولكاتبه، كما تتجاوز إرادة اللغة الأم، ولأن السياق الذي نحن بصدده غير معني بتفاصيل هذا الإشكال الخارج نصي، فإننا سنشير إلى تلك الحالة الاستثنائية، والطريفة، والمتمثلة في القضايا النظرية الناتجة عن هذه الوضعية، حيث يكون محتمل الدور الذي تقوم به الترجمة، هو استعادته من قبل اللغة الأم، كشكل من أشكال إرجاعه إلى بيت الطاعة، أو أملا في اندمال جرح اليتم، الذي يحدث أن يعاني منه النص نتيجة كتابته، بفعل إكراه ما، بلغة غير اللغة الأم. علما بأن اليتم الشعري، باعتباره ظاهرة وجودية، قد يكون ضروريا، للتفاعل الفكري مع اللغة الأصلية، عبر مسافة لغوية، تسمح ببناء خطاب متحرر نسبيا، من إكراهات الانتماء إلى شجرة سلالتها.
غير أن السؤال الذي يُطرح هنا، هو المتعلق بهوية النص المستعاد إلى لغته الأم، والذي لا يمكن أن يكون إلا نصا مغايرا للنص المكتوب باللغة الأجنبية، حيث لا مناص من قراءته كنص أصلي، لا يستجيب مطلقا للتأويلات الجاهزة، التي تهدف ضمنيا إلى التكفير، عن ذنب كتابته بلغة أجنبية، وكتحقيق لأمل تصالحه مع اللغة الأم، أو ربما كرغبة عارمة في استفزازها، بإجبارها على تبني عودة توقيع الشاعر من جديد إليها. توقيع ما كان لها أن تسمح له بكتابة ما كتب، لو كان تحت وصايتها، وخاضعا لسلطتها الرمزية، أو كان قد اعتمدها كأصل لغوي في صياغته النص الشعري. بمعنى أن قراءة النص المستعاد، ستكون مطالبة بتفادي إفسادها متعة ولادته الجديدة، خاصة حينما تلح على مقارنته مع النص الأصلي، الشيء الذي سيجعل من النص المستعاد، مجرد تمرين لغوي، وليس نصا إبداعيا، لأن المغامرة بإخراج النص من المسكن اللغوي الذي ولد فيه، بإطلاقه في قلب فضاء لغوي آخر، هي اختيار مصيري، على النص أن يتحمل مخاطره. بمعنى أنه إعلان صريح عن حضور كينونة جديدة، قائمة بذاتها، ومنفصلة عن غيرها. وبالتالي، فإن كل مسؤولية في تألق النص أو شحوبه، تُقرأ على ضوء هذا المعطى، وليس على ضوء أصل ما، بصرف النظر عن هوية هذا الأصل. ثمة إشكال آخر، يتمثل في تعدد إمكانيات ترجمة النص الواحد إلى اللغة الأم، أي في تعدد أساليب وجماليات استعادته، حيث تستقل كل ترجمة باستراتيجياتها الخاصة، الموظفة في عملية الاستعادة، التي تؤثر حتما بشكل مباشر في هوية بنية النص، من جهة اختيار المعجم، وتحديد منهجية التأويل، إلى جانب آلية انتقاء وتفعيل القوانين المتعلقة بالنظم، وكلها عوامل، تؤدي حتما إلى تشحيب اسم الكاتب الأصلي، وإلى تملك النص، من قبل الذات المترجمة، ذلك أن الترجمة، وباعتبارها إعادة تكوين شبه جذري للكتابة النصية، تنتهي بغياب الخالق الأول للنص، الذي يسمى عادة بالشاعر.
إن لغة النص الشعري، سواء كانت لغته الأم، أو مستعيدة له، عبر ترجمته إليها، تكشف عن سلطتها، وعن جموحها، وشراستها أيضا، من خلال رفضها مبدأ تحجيمها في دور وسيط، لا تتجاوز وظيفته حدود توصيل رسالة فكرية، أو إبداعية، وهو ما يُلزم مقاربتها، باعتمادها سندا مرجعيا في ذاتها، وليس في غيرها. مما يزكي قناعتنا بالقول، إن الاختلافات الملموسة في الترجمة المتعددة للنص الواحد، قد تطول جوهر التجربة ككل، وليس فقط مكوناتها التقنية، حيث يصبح لكل ترجمة هويتها المستقلة والمنفصلة عن غيرها، وحيث تصبح جمالية نظمها، هي المتحكمة في كل حكم أو تقييم، باعتبار أن الرسالة المضمرة في النص، تبقى – على أهميتها – ثانوية، إذا ما قورنت بخصوصية التفاعل العام، لمجموع مكوناته، والمتحقق أساسا باللغة، التي لم يعد يعنينا شأنها في كونها لغة أصل، أو لغة فرع، قدر ما تعنينا قوة حضورها داخل مدونة القول الشعري والفلسفي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ شاعر وكاتب من المغرب