ادب وفن

النص الابداعي احتمال كامن.. اعادة الاعتبار للقراءة / داود سلمان الشويلي

من خلال تجربتي في القراءة والكتابة الابداعية، تكونت عندي مجموعة من الملاحظات التي يمكن ان تؤسس الى تصور عام عن هذين الحقلين، لا اريد فرضهما على الاخر بقدر ما اريد طرحهما للمناقشة، على الرغم من انهما قد اصبحا مقولات شائعة في الوسط الادبي، ولكن الاخذ بهما او تبنيهما يجعل من الحوار عنهما وفيهما ضرورة ملحة لما في مثل هذا الحوار من فائدة كبيرة، مهما كانت النتيجة التي سيخلص اليها هذا الحوار.
1 - بما ان المستقبل هو "احتمال" قائم في الماضي، فالنص الابداعي هو الاخر "احتمال" قائم ليس في الماضي فحسب، وانما في الحاضر عند الكتابة، وفي المستقبل حين الشروع بالقراءة.
وعلى سبيل المثال، فالقصة، او اي نص ابداعي اخر، هي "احتمال" وليس مشروعا متكاملا، ذلك لان "الاكتمال" هو مفهوم نسبي ولا يعني ان ما قيل قد قيل وانتهى كل شيء، وانما كما يذهب الى ذلك هايدجر لا يعني سوى اكتمال الاصل والبدء، لذا فان النص الابداعي – اي نص – سيبقى مفتوحا امام القراءة وناقصا في الوقت نفسه، اذ ان كل قراءة جديدة له تمنحه حدود "اكتماله"، لأنها تأخذه الى منطقة "التأويل" الذي هو فتح افاق المعنى.
2 – وكما ان النص هو "احتمال" فانه ايضا "سر"، "سر الاسرار"، والسر لا يفيد نفسه بنفسه، وكذلك فانه لا يفيد حامله "مبدعه" وانما يفيد الاخر، اذ ان البحث فيه من قبل السامع "القارئ" هو فض لكلماته وما تخبئه من خلال التأويل او التفسير، اي الانفتاح على الحالة الدلالية لما في تلك الكلمات والالفاظ والجمل "مكونات السر – النص" من معان ودلالات مختزنة.
3 – وتأسيسا على هذا نرى ان الزمن الخارجي للنص، ليس هو زمن انتاجه، وانما هو زمن قراءته الذي يصبح في الوقت نفسه زمن "انتاج المكتمل".
ومن خلال هذا الزمن – زمن القراءة – يأخذ النص اكتماله، وفي الوقت نفسه عمقه ورسوخه، في زمن القراءة وليس في اي زمن مستقبلي.
4 – وهذا لا يعني عدم الاهتمام بشروط الجنس الادبي للنص، او نفي لها والعودة الى مفهوم البيان العربي حسب، ذلك البيان الذي يطالب النص بان يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ البسيط، وبالموجز من اللفظ والمعجز من الاسلوب، ويضيق العبارة التي تفضي الى اتساع الرؤية. .. الخ، بالرغم من ان شروط البيان العربي هذه واجبة التنفيذ الى حد ما في النص الابداعي، الا انه لا يعني مصادرة شروط الجنس الادبي الخاصة التي تكونت عبر تاريخ طويل من الممارسة الكتابية، لان البيان العربي بحد ذاته هو ثراء دلالي لا ينضب، كما ان شروط الجنس هي اللحمة التي تلم سداه.
5 – انا ارى ان لا وجود لسلطة النص، وانما السلطة هي للقراءة، او ان النص يولد مجموعة من الحوافز، تلك الحوافز التي تجعل القراءة بواسطة الياتها الخاصة هي المانحة للدلالات التي تستخلص من النص نفسه.
وكما ان "المنطوقات اشارات" كما يقول ابن عربي، فان النص، وبما يحمله من اشارات لا تفيده لذاته وانما هي ذات فائدة للآخر "القارئ"، اي ان النص وكل ما يفيض به – لا ما يفيض عنه – لا يفيد نفسه بقدر ما يفيد القارئ، وهذا يعني ان الالفاظ حقول دلالية لا تنضب بالنسبة للقراءة، او القراءات المتعددة والمتنوعة.
6 – وعود على بدء، فان للقراءة دور كبير في انتاجية النص، وكذلك فإنها تقوم بعملية تجنيس و"تنويع" النص واستخلاص الدلالات، اذ انها لا تحدها الشروط الخاصة بالجنس بقدر ما تحدها شروطها الذاتية التي تنطلق من فكر وذهن مستقلين عن النص "اي عن مبدعه الاساس" ولهذا يدخل التأويل والتفسير. .. الخ، مجال القراءة اكثر مما يدخل مجال الكتابة، ومن هذا المنطلق يمكن القول ان القراءة هي العملية الابداعية الحقيقية لأنها هي المنتجة للنص.
7 – نستخلص مما سبق، ان النص – اي نص كان – هو "مادة كامنة في ذاتها" حتى تتم قراءته.
8 – اذاً، فالقصة هي نص ابداعي له شروطه الاجناسية الخاصة، تبقى "احتمالا مكنونا" و"سرا" من الاسرار، حتى اذا قرئت افتضحت، وافتضح ذلك السر، وانطلق ذلك المكنون، واكتمل ذلك الاحتمال في ذلك الزمن القرائي.