ادب وفن

الصورة الشعرية بين التأصيل والحداثة - الصورة الفارغة أنموذجا –/ د. وليد جاسم الزبيدي

المقدمة
أن نعودَ إلى التراث " لا بقصد الجمود والرتابة" بل لغرض التأصيل، لنؤصلَ وضعاً أو ظاهرةً أو أسلوباً يطوّر أو يفسّر أو يعلل للحاضر، وأن ينفي ما في التراث من تخلف هو تأصيل جديد يُعنى أن نُشبعَ الموضوعَ دراسةً وعلماً، أي أن نحوّل هذا الأصل الذي فهمناه وتقبلناه الى قوةٍ مؤثرةٍ لها جذورها العميقة.
ليسَ عيباً أن نرجع الى تراثنا البلاغي والنقدي في فهم وتفسير المفاهيم الجديدة الحداثوية وما لها من جذور أصيلة في تراثنا المعرفي، دون أن نحتكم على احادية المفهوم على الجانب المترجم من الآداب الأوربية بل أن نقرأ ونربط بين الظواهر.
الرجوع الى التراث بين حين وآخر، أجدُ فيه وقفة لمعرفة ما يمكن أن نواصل به يومنا وفكرنا وامكانية تطوير أو تشذيب الجديد ليكون أقوم . ولا أدري لماذا ينزعجُ البعض من كتبنا القديمة، وتراثنا في الأدب والنقد، وما توصل اليه القدماء في بحوثهم ودراساتهم ليعرفوا ما يمكن اضافته أو اقتباس ما يمكن أن تكتسب منه الفائدة.
سنقف اليوم لتسليط الضوء نحو مفهوم صور قد يجدها البعض بنت الحاضر أمثال "كسر التوقع"، أو "الإدهاش"، أو صور الومضة، كونها الوليد الشرعي للحداثة دون وجود أصول في تراثنا النقدي القديم. وسنقف عند البلاغة العربية وما أضافته إلى النقد، والأدب، وكذلك ما أضافه نقدنا العربي في القرن الرابع الهجري في مفاهيم التنظير النقدي وفق متطلبات عصره. وسنقف عند صور مملحة في الشعر العربي مازالت تؤشر وتظلل جمالاَ في أدب ما بعد الحداثة، وهي الصور المتنافية والمتناقضة والمتعاكسة، ثم الصورة الفارغة.
 بدايات التنظير النقدي
لقد شهِدَ النقد القديم في بدايات القرن الرابع الهجري محاولات للتقعيد والتنظير بما يتواءم مع التطور الذي واكب العلوم المختلفة في الإحصاء والخوارزميات والفلسفة، وما اطلع عليه العرب من فلسفات الإغريق والرومان، حيث لم يقفوا عند العلوم النقلية، بل حاولوا تأصيل هذه الأصول وأخذ الظواهر بالتحليل والتفسير على مستويات متعددة ليواكبوا عصرهم في العلوم العقلية.
ودليلنا على هذا التطور الكتب الثلاثة الكبرى ، كتاب "عيار الشعر" ابن طباطبا العلوي، كتاب "نقد الشعر" لقدامة بن جعفر، وكتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" في القرن السابع الهجري – حازم القرطاجني، فهي لم تكن كتباً منغلقة، بل كانت تحاور المحاولات السابقة والمعاصرة فتفيد منها بقدر ما تضيف اليها. وهذه الكتب تدورُ حول مفهوم الشعر ووضع الجانب النظري وتأصيله، بالإفادة من تجارب الأمم السابقة والإنجاز المعرفي الجديد وما تحقق للفلسفة من مكانة وعلو كعب آنذاك.
كما كان عصر "ابن طباطبا" يسمى عصر "محنة الشعر" تتمثل في ضيق المجال أمام المحدثين خاصة بعدما سبقهم المتقدمون في مجالات كثيرة، وترجع أسباب هذه "المحنة" - كما يسميها الدكتور جابر عصفور، في كتابه، مفهوم الشعر- الى الوظيفة الاجتماعية للشاعر وما فرضته من قيود على نظم الأغراض المتصلة بالسلطة التي يتوجه اليها الشاعر بشعره.
 بين البلاغة والنقد
البلاغةُ العربيةُ فنون جماليةٌ، وأساليبٌ بيانيةٌ، وما النقدُ إلاّ ضبطٌ وتقديرٌ لهذه الفنون والأساليب حتى يصحّ أن يقالَ مجازاً أن البلاغةَ تشملُ جزءاً كبيراً من علم الجمال في بنية الكلام عند العرب، والبلاغةُ هي العلمُ الذي يتفاضلُ به الكلامُ ويتفاضلُ على أساسهِ المتكلمون.
والبلاغةُ علمٌ يعطي الشاعرَ والناقدَ رؤيةً حصيفةً فيستطيع كل منهما تمييز الغث من السمين. والنقدُ هو نظرٌ في علم الجمال، نظرٌ في المعايير البلاغية التي تحققت في أي نصّ فنيّ، وحازت على اعجاب ذوق الناقد أو لم تعجبه، فيكون الحكم بين الاستحسان والرداءة. وهذه هي مهمة النقد- آنذاك-.
 الفروق بين النقد والبلاغة
1-البلاغةُ تغلبُ فيها الناحية الفنية، والنقد يوضح النظريات والأصول التي تقاس بها قيمة النص من الناحية الجمالية.
2- تُعنى البلاغةُ أكثر ما تعنى بقوالب الكلام وصوره. أمّا النقد فيتعلق بما وراء قوالب الكلام وأشكاله وصوره، أنه يتعلقُ بالعناصر الأساسية التي هي أدوات الناقد.
3- تُعنى البلاغةُ بالنظم وتأليف الكلام وعناصر الأسلوب. أما النقد فيعنى بعناصر الكلام ومقومات التعبير والأسلوب، من فكر وخيال وغير ذلك، مما لا يمت الى الشكل بصلة، وكذلك يعنى بمدى نجاح أو فشل نظم الكلام وتأليفه.
4- يخوضُ النقدُ في الشعراء والكُتّاب، في حياتهم وثقافتهم، ويحلّل آثارهم وكل ما يتصل بالنّص من عناصر جمالية وثقافية ونفسية، ويبحث في خصائص كل شاعر وسمات شعره، كل ذلك ليس من اختصاص البلاغة.
 الصورة في البلاغة والأدب
الصورة هي جوهر الأدب وبؤرته الفنية والجمالية، كما أن الأدب فنٌ تصويري يسخّرُ الصورةَ للتبليغ والتوصيل من جهة والتأثير في المتلقي سلباً أو ايجاباً.
لكنّ الشّعر ليس هو الفن الوحيد الذي يستثمر الصورة في التعبير والتشكيل والبناء بل تشاركهُ في ذلك مجموعة من الأجناس الأدبية والفنية كالرواية والقصة القصيرة، والقصيرة جداً، والقصة الشذرية، والفنون:المسرح، والسينما، والتشكيل، .. ويعني هذا أن الصورة لم تعدْ حكراً على الأدب فحسب، ولم تعد تحتكم فقط الى مقاييس البلاغة التقليدية، سواء كانت عربية أم غربية، بل تطورت الصورة البلاغية وتوسعت مفاهيمها وتنوّعت آليات الفنية والجمالية وتعددت معاييرها الإنتاجية والجمالية والوصفية..
إن الصورة أصبحت قاسماً مشتركاً بين هذه الحقول المعرفية والعلمية، إذ كل تخصص يدرس الصورة في ضوء رؤية معينة يفرضها منطق التخصص المعرفي.
مفهوم الصورة
عرفت الصورة البلاغية أو الأدبية أو الفنية، دلالات متعددة عبر التطور التاريخي، فقد كان الفيلسوف اليوناني "أرسطو" يعتبر الصورة استعارة قائمة على التماثل والتشابه بين الطرفين ، المشبه والمشبه به، بل كان يسمى التشبيه والاستعارة صورة، وبهذا تكون الصور البلاغية أو الخطابية قائمة على التشبيه والاستعارة، وتشترك الصورتان معاً في عنصر المشابهة والتماثل.
وبعد أن كانت الصورة مرتبطة بمولد الحس والعقل والخيال، انتقلت من السرياليين لترتبط باللاوعي والمتخيل اللاشعوري، إلاّ أنها ارتبطت في القرن العشرين بتيارات اللسانيات والتداوليات والسيميائيات والشعرية الإنشائية. كما اقترنت بالمكون البصري والأيقوني مع السيميائيات المرئية والبلاغة الرقمية.
وعليه تُعرّفُ الصورة: أنها انزياح عن المعيار أو خروج متعمّد عن القواعد المعتادة، أو تحويل الألفة الى غرابة، كما يرى ذلك – جون كوهين ، في كتابه بنية اللغة الشعرية- فالصورة عملية تحويل وتغيير وتعويض واستبدال.
وفي ثقافتنا الإنسانية ارتبطت وتبلورت الصورة بالتشبيه والاستعارة والمجاز المرسل والكناية والمحاكاة والتخييل والتكرار والتوازي والرمز والأسطورة والرؤيا والعلامة.. وتتألف الصورة عند "فرديناند دي سوسير" من الدال والمدلول.
وهكذا فإن الصورة قد تكون حسية بصرية أيقونية، أو عبارة عن اتساق سيميائية غير لفظية تتجسد بشكل جلي في الجسد والسينما والمسرح والفوتوغرافيا والحاسوب وغير ذلك من الانساق الحسية.
آليات الصورة البلاغية
تنقسم البلاغة العربية القديمة الى علوم ثلاثة، : علم البيان: يدرس التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل والمجاز العقلي والكناية بانواعها. بينما يدرس علم المعاني: الخبر والإنشاء وأسلوب الحصر والقصر والمساواة والأطناب والإيجاز. كما يدرس علم البديع: مجموعة من المحسنات اللفظية والمعنوية مثل: السجع والجناس والطباق والتكرار والتشاكل والتضمين والتورية والمقابلة والالتفات. وهناك صور لم تدرسها البلاغة العربية: الرمز، الأسطورة، الأيقون، المخطط. وتستخدم الصورة بشكل عام بغية التأثير والإمتاع والإقناع وتمويه المتلقي.
وأنواع الصورة: الشعرية، السردية، المسرحية، الإعلامية أو الإخبارية، الفوتوغرافية، التشكيلية، السينمائية، الأيقونية، الرقمية، التربوية...
- الصورة عند "ابن طباطبا –ت 322هـ"
الصورة هي التي تميّز مادة عن مادة فهي التي تميّز المتأخر في علاقته بالمتقدم أو المحدث من غيره من المحدثين. وهناك بابٌ تلقّفهُ "ابن طباطبا" من "طيفور"، وفتحهُ للمتأخرين وأصبح مادةً للتأليف هناك ما يمكن أن نسميه عكس الاستخدام القديم، وقد أشارَ اليه "ابن المعتز"، فإذا وجد الشاعرُ المحدث معنىً لطيفاً في تشبيه أو غزل استغله في المديح وإن وجده في المديح استغله في الهجاء... وهكذا.. فإنّ عكس المعاني على اختلاف وجوهها غير متعذر على منْ أحسن عكسها واستعمالها في الأبواب التي يحتاج اليها.
صحيح أن "ابن طباطبا" لا يستخدم مصطلح الصورة الشعرية بالمعنى المعاصر الذي نستخدمه فالصورة عنده مرادفة للشكل والهيأة التي يتخذها المعنى بعد صياغته .
ولكن حديثه عن الوصف وعن أنماط التشبيه والمجاز – فضلا عن التعريض- يمكن أن يندرج تحت مصطلح الصورة الشعرية بمعنى من معانيها.
والمهم أن الصورة عنده سواء أكانَ المقصود بها الدلالة البلاغية أو الوصف ترتبط بمفهوم الصنعة وتتصل بالمبنى الخارجي للصياغة في حالة انفصاله عن المعنى.
والصورة – بوجه عام - تصوير لغوي وعقلي وذهني وخيالي وحسي، قد تنقل العالم الواقعي أو قد تتجاوزه نحو عوالم خيالية وافتراضية أخرى. وأهم ما في الصورة هو طبيعتها اللغوية والفنية والجمالية الخاصة وارتباطها بمتخيلات غنية وثرية، كما أن للصورة آليات تعبيرية تجعل من مبحث الصورة عالماً منفتحاً وخصباً.
الصورة المتناقضة أو المتنافية أو المتعاكسة
ما المقصود بالصورة المتناقضة أو المتنافية: هو أن يأتي الشاعرُ بصورة ثم يأتي بصورةٍ أخرى تهدمُ الصورة الأولى وتنقضها مع كونها متممة لها، وهذا مخالف لقواعد البيان عند العرب والغربيين، التي تقضي بأن تتلاءم الاستعارة الثانية "الصورة الثانية مع الصورة الأولى كما جاء في كتاب الشريف الرضي –للدكتور محفوظ".
وأصول البيان تقضي علينا أن نذكر من الصفات والأعمال ما يتلاءم مع الاستعارة الأولى –بلاغياً-. وعلى هذا ظهرت في الأساليب القديمة عند شعرائنا العرب ايحاء المعاني بواسطة الألفاظ المختارة والصور المفاجئة. وحسب مبدأ النقد الحديث القائل بأن تحليل الصورة هو تحليل العبقرية، اي تحليل الصورة في عبارة الشاعر انما هو تحليلٌ لعبقرية الشاعر، وتظل الصورة مقياس عبقرية الشاعر أينما كان وفي أي عصر.
 الخاتمة
بعد هذا البحث يتضحُ لنا أن الصورة الشعرية لم تقف في زمن أو عصر أو لدى فئة أو مجتمع عند حدود وقوالب ، بل هي تتطوّرُ وتنقلبُ على البلاغة والنحو، وتخرجُ على المألوف بأسلوب يجعل منها إبهاراً يمثل عقلية وفكر المنتج سواء في الشعر أو النثر أو الفنون المختلفة التي تكون الصورة احدى أدواتها التعبيرية لتوصيل الرسالة الى المتلقي، فتأخذ الصورة دلالات وتقلب المفاهيم والصور المستخدمة في عصر ما وكنا نُدهش ونعجب بها فيجعلها شاعر آخر فيصنع من هذه الصورة صورة أجمل وأكثر ابهاراً بصيغ جديدة وفق أدوات وتقنات يتفنن فيها .
ويعني هذا أننا بدراستنا للحداثة وما بعد الحداثة وكل مناهج النقد الغربية المتطورة بسعينا نحو تقبل الآخر والانفتاح لأخذ ما ينفع أدبنا، علينا في الوقت ذاته الرجوع الى تراثنا البلاغي والنقدي الذي أسهم بشكل كبير في رفد الساحة والمشهد الثقافي العالمي بمناهج ونظريات مازالت تعطي ثمارها ولا نبخس حقوق مبدعينا ومنظرينا.