ادب وفن

البحث في الفوضى (قصص رغد السهيل أنموذجاً) / جاسم عاصي

البحث في الفوضى عنوان يحتمل الكثير من القراءات. غير أننا نقتصره في ما يعنيه النص القصصي في قصص القاصّة رغد السهيل، ضمن مجموعتيها "ضحكة الخاتون/ سايكو بغداد"، وفي كلا المجموعتين، لم تغادر نوع الاهتمام في بناء النص من حيث علاقته مع الواقع، وخلق اقتدار فني له. كذلك لاستكمال العبارة؛ ما يعنيه البحث على صعيديّ المعنى والبناء.
لذا يتضمن بحثنا عن الفوضى ، الكيفية التي تنبهّت إليها القاصة في واقعنا، الذي عشناه جميعاً، كذلك التخلص من شرك وقوع النص في هوّة هذه الفوضى. فالتعالي عن هوّة السقوط ذاتياً اعتمد التحصن المعرفي، بحيث كان السارد المراقب والمشارك، أكثر حذراً في التقاط ما يتوجب التقاطه لدعم النص. صحيح أن الفوضى تحجب كل شيء، غير أن بصيرة السارد الواعية تتماهى مع الأكثر تأثيراً، والأكثر تراجيديا. فالقاصة تحاول اخفاء تراجيديتها المتأتية من واقع مأساوي، بروح السخرية، وتسفيه بعض المفاصل، ليس على حساب بناء النص، بقدر ما كان الفعل السردي هذا أكثر تركيزاً ومواءمة مع جسد النص. في قراءة نصوص المجموعتين، قراءة ثقافية. بمعنى استحصال ما يترتب من وعي ثقافي ومعرفي لدى السارد الذي يُدير مسار النص بوعي فيه مرونة من قبل القاصّة خارج النص. وهذه الملاحظات تنتظم في محايثة للنصوص:
من الملاحظ أن محتوى كل نص عبارة عن ازدحام رؤى فرضها الواقع بكل نتائجه السلبية. فالذي يجري يتسلل إلى النص بكل مرونة وبساطة، دون تعقيد. ذلك لأننا تلمسنا مثل هذا النهج، ليس في هذا النص دون غيره. مما وفّر لنا الوصول إلى مداخلة معرفية بأصول بناء النص عند "السهيل" بمعنى اختيارها بشكل تلقائي مثل هذا المنهج في الكتابة، في أن يكون النص حمّال أوجه، بالرغم من بساطة أحداثه، والكيفية التي طُرح من خلالها هذا المشهد أو ذاك. فهي غير معنية بتصعيد التراجيديا، بقدر ما تؤشر عليها بأسلوب مزيج بشيء من الأسى والتهكم. فهي تمزج بين الفعل وفاعله، بما يضعنا ضمن نقد الواقع وتعرية مفاصله. إن ازدحام الرؤى يمنح نتائج للنقد والنقد الذاتي للبنى الفوقية، والأسى على البنية التحتية، ونعني بهم ضحايا السياسة الخاطئة، وهم ضحايا الارهاب اليومي. مقابل هذا تتوّافر على نوع من السخرية المبطنة بموّقف واضح، معرفي وثقافي، وبشيء من الايديولوجية المتمثلة في صياغة الموّقف الذاتي من كل ما يجري. أي الموّقف المعارض والناقد. إن الوقوف بإزاء الزيف اليومي للعلاقات الاجتماعية والسياسية، يتطلب قدرة على تشكيل الموّقف. كذلك الكيفية في عرضه وعدّه جزءا من تشكّل العقل الأكبر في المجتمع. وهذا ما فعلته "السهيل" في أن تتخذ من الموّقف العام موّقفاً خاصاً. فالإشارة إلى مثل هذا الزيّف والعقم، يتوجب لها رؤى متمكنة أيضاً، لا تعني من خلاله العرض فقط، بقدر ما يتوجب اختيار عرض الرؤى المغايرة. وفي هذا عمدت القاصّة، على أن تصوغ المشهد بما هو مزيج من هذه الرؤى. فالتعاطف واحد من أساليب الطرح الذي يُجسّد الانحياز. فالصدفة التي قادت الباحث في النفايات بعد ضياع تمثال رأس "أبي جعفر المنصور" يعثر على الرأس مطموراً تحت الأزبال. وواضح القصد في عرض مثل هذا المشهد. وتُعاد صياغة هذا المشهد في روايتها "أحببت حماراً" لكن الذي تعثر عليه المرأة هو رأس زوجها الفقيد، الأمر الذي يتطلب العثور على بقية الجسد، كي يوارى التراب كأقرانه المغادرين يومياً. هذه الصياغات تدل على ذاكرة مزدحمة، لكنها عارفة بكيفية توّظيف مفرداتها، وواعية لكيفية توزيعها على النصوص. الازدحام لا يقف حجرة عثرة في تنظيم النص من جهة، ولا يضع عثرات في خلق المناخ المناسب لصياغة هذه المفردة أو تلك. إن القاصّة وهي تعمل على صياغة مفردات نصها، لا تغفل عن البناء النفسي الذي يتركه المشهد بكل مكوّناته. فبناء الشخصية فعل وردة فعل، وهذا ما سارت عليه القاصّة وهي تتبع مجرى الأحداث مما تراه في الوطن، أو تنقله الأصوات من داخل الوطن، وتسمعه وهي خارج الوطن. إن التأثيرات النفسية واضحة الأثر على الشخصية. فالإشكال الذي حدث في قصة "هاتف بغداد" كان وقعه شديداً على الشخصية التي قالت عبارتها "مائة مليون دينار عراقي. .. ستعفيني من الاستجداء أمام الجامع الهاشمي في عمّان. لماذا لم أكن سمر صالح"؟، ناهيك عن القوة الجارفة من الحنين إلى الوطن في المهاجر ذاتها قسراً.
لقد حاولت "السهيل" أن تضع نصها موّضع المعارض للواقع. لكن معارضتها تتم وفق أصول عالية من الأخلاق السياسية والثقافية. إنها تحرص على أن لا تؤدي بالنص إلى هاوية التبسيط في العلاقة مع الواقع، ولا التعالي عليه. وإنما من خلال اتخاذ موّقف العارف المدرك لجدلية حراك الواقع، وما يفرزه من ظواهر، لأنها تحتكم معرفياً إلى العلة والمعلول وهما عماد الجدلية. كما وأنها لا تغفل عنصرا مهما في الكتابة، وهو التخييل الذي يدفعها كثيراً إلى نوع من خلق رؤى الفانتازيا. وهي رؤى تقترب من فن الكاريكاتير، ولكن بأسلوب سردي متوازن لا يضيّع هذا بحساب ذاك. وأرى أن التمكن من طرح الرؤى يأتي من قوة المعرفة وقوّة قاعدتها. كما وانها عالجت العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة، من باب تمكن الأنثى من طرح أفكارها، ومن قدرتها على ممارسة حريّتها باقتدار ذاتي