ادب وفن

عرابو الديكتاتوريات / جاسم العايف

أكثر من ثلاثة عقود والشعب العراقي بكل مكوناته القومية - الدينية، وقواه الوطنية - الاجتماعية يتعرض لما يشبه الإبادة الجماعية التي مارسها النظام المنهار، وبعد سقوطه المهين اشتد السعار الإرهابي ضد العراقيين جميعاً، دون تفريق، وإزاء الصمت المريب الذي يحيط بموقف كثير من النخب الثقافية - السياسية العربية، تجاه ما جرى ويجري للشعب العراقي، أتناول موقف وكتاب الدكتور، أحمد أبو مطر :"سقوط دكتاتور.. دراسات ـ تقارير ـ وثائق - دار الأنصار – بيروت - ط2". والذي كان قد أصدره بالتزامن مع سقوط النظام، وأعيدت طباعته ثانية، في ذكرى رحيله، من قبل دار النشر ذاتها، ولا يخفى أن د. أحمد أبو مطر له كتابات ومؤلفات عدة، تنتقد بشدة النظم الديكتاتورية والاتجاهات المحافظة والطائفية المقيتة، والظلم واللاعدالة الاجتماعية والتي يتميز بها العالم العربي - الإسلامي. التذكير بهذا الكتاب وما فيه، لا يرتكز على تنظير لفهم آليات الصعود الفردي - الديكتاتوري، الصاعق، لما حدث في العراق، طوال ثلاثة عقود، كما لا يعني البحث عن ثأر قديم، أو الدعوة إلى قصاصٍ ما، بل يعني أساساً الوقوف بوجه النسيان، والوقوف بوجه النسيان كما يؤكد "جورج سانتيانا" يعني عدم تكرار تجربة الماضي، بطرق أشد قهراً، وأكثر قسوة، وعدم النسيان، لا يعني الانتقام، بل الثقة بحكم القانون، وأن يأخذ القانون، دوره بحيادية وعدل في ما كان قد صمت عنه طويلاً.
ا. د أحمد أبو مطر درَّس اللغة العربيَّة وآدابها في جامعة البصرة في حقبة السبعينيات حتى العام 1982، وخبر بنفسه خروق النظام المنهار في تعامله مع العراقيين، ولمس عن قرب وتجربة ومعرفة دقيقة توجهات وتصرفات الغالبية العظمى من مسؤوليه وشخوصه وعرف، وخبر، توجهاتهم الحياتية الدنيئة، وهمجيتهم ووحشيتهم اليوميَّة، وتعميمهم الخراب المنظم، من خلال فرضهم أيديولوجية واحدة، لا تعبأ بالآخر، ومستنسخة من أظلم ما في التاريخ، عبر التمركز على القسوة والبطش، والولوغ في دماء الناس، لمجرد اختلاف القناعات سلمياً، وتخريبهم كل ما هو مضيء في العراق، من الثقافة إلى الفن ومن الأخلاق إلى التاريخ، وكل ما يمت للإنسان العراقي بصلةٍ، في بلد متعدد القوميات، والديانات، والمكونات - الاجتماعية تاريخياً، ولقد عاين - د. أبو مطر - وتابع عن قربٍ، كيف عاث النظام المنهار في العراق فساداً وتعسفاً واغتيالاً، وتبديداً للثروة الوطنيَّة طوال ثلاثة عقود ونيف.
بدأت مداخلات، ومناظرات، د. أبو مطر العلنية ضد النظام المنهار قبل غزو الكويت، وبعد احتلاله، لم يستطع وهو الفلسطيني التفريق بين احتلال الكويت والمطالبة في الوقت ذاته بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فالاحتلال واحد ولا يوجد احتلال قبيح واحتلال جميل. وفي السنوات التي عاشها - أبو مطر - في العراق، ومن خلال تفاصيل الحرب الثمانينية الخاسرة - المجنونة، وفي مدينة البصرة بالذات أدرك أن هذا النظام مهنته الوحيدة هي التخريب والتدمير والموت.
يتألف كتاب ا. د. احمد أبو مطر من ثلاثة فصول، احتوى الأول منها على مقالات ودراسات نشرها في مختلف صحف المعارضة العراقية، وفي صحف ودوريات عربية وعالمية، وبذا يغدو أبو مطر احد المثقفين والكتّاب والصحفيين العرب القلة، الذين رفضوا إغراءات النظام وشعاراته "القومانية - العنصرية" وكوبونات نفطه الملوثة المشبوهة ودولاراته المغموسة بدم وجوع وعذاب العراقيين، و يوضح انه "فلسطيني.. ولكن من العراق"، وبذا يكون قد اصطف مع الكتَّاب والصحفيين والمثقفين العراقيين الذي شردهم الديكتاتور في كل بقاع العالم. في بحثه لملف "صدام حسين" السياسي يراقب أبو مطر الأحداث التي أعقبت سقوط الشاه في إيران مباشرة، ودور صدام "الجديد" في تلك المنطقة لأن ما تعيشه المنطقة ليس مقطوع الجذور عما سبقه، وهو ليس بعيداً عن أن يكون نتيجة حتمية مباشرة لحيثيات وممارسات السنوات السابقة، مستنداً في هذه النظرة على قناعاته بالتفسير "المؤامراتي" للتأريخ وأحداثه وكذلك الكيفية التي يرتقي بها بعض الأشخاص في المنطقة العربية مناصب القرار العليا، عن طريق الدسائس والمؤامرات والانقلابات والصفقات المشبوهة التي يلعب قرب هذا الشخص أو ذاك من أجهزة سرية تسعى إلى تحقيق مطامح وخطط دول كبرى لها مصالح دائمة في المنطقة، حيث إن كل تحرك للأفراد وبعض الجماعات إنما يهدف إلى خدمة أهداف،،خارجية، محددة.
وحول علاقة نظام صدام بالمقاومة الفلسطينية، يؤكد ويثبت بالوثائق أن المخابرات العراقية غذت ومولت انشقاقات عدة في الساحة الفلسطينية، ونفذت أوسع وأبشع حملة اغتيالات لمسؤولين فلسطينيين مستغلة أياد فلسطينية مأجورة في ذلك، فتم اغتيال نعيم خضر في بروكسل، و وائل زعيتر في روما، و زهير محسن في فرنسا وعصام السرطاوي في لشبونة وكذلك اغتالت وديع حداد - عراب خطف الطائرات المدنية - وكان اغتياله عربونا أولياً للتعاون مع أجهزة المخابرات الغربية والرسالة التي مهدت للدعم الذي حظي به النظام، ولقد ساهمت المخابرات العراقية، من خلال "جبهة التحرير العربية" وهو التنظيم - التخريبي في صفوف المقاومة الفلسطينية رعاية اغلب الانشقاقات في الساحة الفلسطينية من خلال الدعم المالي والإعلامي، وقد استجاب بعض المنشقين الفلسطينيين لتكليف المخابرات العراقية في مطاردة واغتيال بعض المعارضين العراقيين في بيروت، وفي أماكن أخرى، وعمدت المخابرات العراقية، المزروعة في سفارات النظام ، على مطاردة المعارضين العراقيين أينما كانوا، كما في اغتيال الكادر الشيوعي العراقي، الأستاذ في جامعة عدن د.توفيق رشدي.
ودأب النظام على استغلال القضية الفلسطينية ، خلال حرب عاصفة الصحراء، لأغراض دعائية مساهمة في إشعال العواطف حينما أطلق بعض الصواريخ على إسرائيل، لم تحدث خسائر تذكر، ولقد قام صندوق التعويضات في الأمم المتحدة، بعد نهاية عمليات عاصفة الصحراء، بدفع مئات الملايين من الدولارات إلى إسرائيل من أموال مشروع النفط مقابل الغذاء، وهي أموال تعود إلى الشعب العراقي، وبذا يكون النظام البعثي هو أول الأنظمة العربية تاريخياً التي ساهمت في تعويض إسرائيل عن خسائر لا قيمة لها.
يؤكد الدكتور أبو مطر في مقالاته السياسية على إن المطالب الديمقراطية التي لا تتجزأ في زمن الحرب والسلم رداً على المستفيدين العرب من الأنظمة العربية القامعة، ويفضح دور منظمات حزب البعث القومية في استغلال الزمالات الدراسية الجامعية للطلبة الذين عليهم أن ينتموا إلى الحزب كشرط للحصول على هذه "المكرمة القومانية" وتعامل الطلبة العرب مع هذا الشرط، بعلم دولهم ودوائر المخابرات فيها، وتصرف اغلبهم على وفق شعار "بعثي.. حتى التخرج" إذ يعملون على قطع صلاتهم مع هذا الحزب بعد تخرجهم وعودتهم إلى بلدانهم. ويتناول كذلك في الوثائق التي ضمنها في الكتاب حملات الإبادة الجماعية التي قام بها النظام أمام صمت العالم اجمع ضد الشعب العراقي - الكردي وجريمة استخدامه الغازات السامة خلال حملة "الأنفال"، تلك المجزرة التي طوقها الصمت - الدولي، تماماً، مع إن "182" ألف إنسان، أزيلوا خلالها من الوجود تماماً.
ويتناول د. أبو مطر قضية تعامل "المثقفين العرب مع الديكتاتور" ويعد صفحة تعامل العديد منهم أسوأ الصفحات في تاريخ الثقافة العربية حينما التف عشرات و مئات الأدباء والكتاب والمثقفين، وبمختلف التوجهات، في العالم العربي، حول حاكم جاهل وحشي، في وقت تم فيه تشريد عشرات الآلاف من الخبرات العلمية والأدبية والثقافية والإعلامية والأكاديمية العراقية، ويبدي دهشته على صعيد الثقافة العربية من قلة الأصوات والأقلام التي تجرأت في التصدي للديكتاتور، ونظامه ومنهجه الإجرامي، لا بل ما هو مثير للرثاء والشفقة، هو تصفيق العديد منهم، لهذا الطاغية وتمجيده حد التأليه وتأليف بعضهم الكتب، التي صدرت بأفخر الطبعات عن أفخر واكبر دور النشر الأوروبية وبأرخص الأثمان، عنه وعن سيرته المتميزة بالإجرام والوحشية والغدر و"البلطجية" منذ صباه، في محاولة لتلميع صورته وسيرته المعروفة لقاء تسلمهم أثماناً بخسة، وبذا يكون هؤلاء قد أسهموا في صناعة هذا "الوحش" ومحاولة ديمومة واستمرارية نظامه المبني على القتل والجريمة والفظاظة وانتهاك الحرمات، ممارسين ازدواجية أخلاقية دفاعاً عن مصالح ومكاسب شخصية لا تليق بمن يصف نفسه "كاتباً أو مثقفاً" وان هذه الصفة لها علاقة وثيقة بالضمير الإنساني ونقاوته الشخصية وان صفحة تعامل هؤلاء حينما اشترى، النظام، نسبة كبيرة منهم ومن العاملين في الحقول السياسية والثقافية والإعلامية العربية، حتى انفرد الشعب العراقي بالعداوة وحده، تحت ظلال التعمية الإعلامية والمخاتلة الثقافية بما هو قومي وأممي وإنساني ؛ وستظل تلك الفترة اسود، وأسوأ الصفحات في تاريخ الثقافة العربية، ولن يصبح الكّتاب والمثقفون العرب فاعلين في نسيج مجتمعاتهم، إلا بعد أن يقرروا الانحياز إلى الحقيقة والحرية والإنسان. بعض هؤلاء يجدون الآن في الخطاب "الطائفي" تغطية على مواقفهم السابقة في خدمة الديكتاتور وشبيهه في دول عربية أخرى، ومستمتعين ومستفيدين بعار تنقلهم المتواصل بين الحكام القدامى - الجدد، وهم يجدون في هذا الخطاب، المقيت، والتوجه الجديد لهم، فرصتهم للنجاح والإفلات من عارهم السابق، ولكل ذلك ومن اجله يهدي د. أبو مطر كتابه، مشفوعاً بالحزن الشديد إلى: المثقفين والكتاب والصحفيين والسياسيين العرب الذين تخصصوا في تمجيد ومدح الديكتاتور، وشمروا عن أقلامهم وقدراتهم للمساهمة في صنع هذا "البطل" المزيف، علّهم، يعتذرون للشعب العراقي علناً، على أن يتعهدوا ألا يسهموا مستقبلاً في صناعة أي ديكتاتور عربي قادم آخر. . تحت أي شعار وفي أي مكان وزمان.