ادب وفن

تحوّلات الحكاية الشعبية من الشفاهية إلى التدوين / جاسم عاصي

أكد "بروب" على أهمية الحكاية، ليس من باب خصائصها الذاتية، بقدر ما خص أهمية تأثيراتها المتواصلة عبر مسار التاريخ والتاريخ السردي. لذا نجد التأثير واضحاً، سواء من خلال ما أكده الدكتور عبد الله إبراهيم في دراساته الموسوعية للحكاية العربية، وكشف بنيتها وتأثيرها أيضاً.
من هذا نجد في محاولات الباحث والكاتب عبود الشالجي أنموذجا لمثل هذا النمط من الكتابة، لأحياء شفاهية الوسط الاجتماعي العربي وحبه للحكاية والطُرفة، واعتبارها فاكهة اللقاءات منذ حكايات "ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة" من جهة، ومن جهة أخرى أسس لنمط من الكتابة في تأكيده على تواصل الذائقة لاستقبال مثل هذا الضرب من الكتابة، والحكي الذي يتمثل المباشر من الحديث والكلام الفصيح. إذ تعتبر مثل هذه المحاولات نوعاً من إعادة هيبة الموروث الشعبي، وبالأخص الحكاية الشفاهية. وكما أكد الباحث باسم عبد الحميد حمودي في كتابه "سحر الحقيقة" وسواه من مؤلفاته، إنما لتأكيد أهمية الحكاية في العقل الجمعي. أما شدّة السحرية والغرائبية والحرص على ديدن البحث في كوّنه يأخذ بالنادر والاستثنائي من الظواهر، فقد أخذ به الباحث السوري الدكتور إبراهيم محمود في كل مؤلفاته في ما يخص الأديان والمعتقدات. وفي كتابة "المُتعة المحظورة" فقد بحث في ظاهرة اللواط في المجتمع والأدب العربي ومنه على سبيل التركيز في الشعر. وهو جهد يمكن أن يُفيد معظم الباحثين وصائغي الحكايات وتوجهاتهم الناقدة لمجتمعهم.
لعل دربة كتّابنا توجهت إلى مثل هذا النمط من الكتابة. فمنهم الأديب أحمد الجنديل الذي حوّل الكثير من الحكايات والمرويات إلى حقل التدوين السردي، مستفيداً من بنية الحكاية الشعبية. غير أن ما يميّز كتابات الجنديل ؛ هو حدّة أسلوبها في عدم مهادنة المرمى إليه من الحكاية. فالحضور المباشر، يُسفر دائماً عن القصد. وأسلوبه يمتلك حسّاً اجتماعياً وسياسياً واضحاً، لا يستطيع ذاتياً اخفاءه متوارياً وراء بنية تشكّل المروية. وقد طالعنا الأديب علي عريبي محمد في كتابه حكايات شفاهية التي عبّر من خلال هذا العنوان على بلاغة حكاياته، في كوّنها وردت على لسان العامّة شفاهياً، ومن فرط تكرارها بنت معمارها البنيوي، ونقصد بنية روايتها على اللسان المباشر. فما كان منه إلا أن يظمها في كتاب، يحرص على توثيقها. تماماً كما فعل "الشالجي" في "أمثال بغدادية" حكاية "عريبي" توزعت على مساحة واسعة من نقلها من المتن الشفاهي، إلى متن التدوين، فمنها من كان شفاهياً صرفاً، والآخر اقتبس من كتب التراث، والثالث حصراً من كتاب الليالي. إذ تبقى الصياغة الأدبية من ممتلكات الكاتب الذاتية. ما توحي به الحكاية عموماً كدرس يعتمد بنية الذاكرة وما يحفظه العقل الجمعي، في كوّنها ذات دلالة اجتماعية ونفسية وأخلاقية . أي أنها تتبع الدرس الاجتماعي بلغة نقدية حيادية، بالرغم من الحدّة التي تتواصل مع بنية الكتابة أو الحيادية عند هذا الكاتب أو ذاك. إذ يبقى الدرس هو المعنى المطلوب على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.
إن حكايات "عريبي" تميّزت في أول ما تميّزت به ؛ هي الطرافة، فهو من خلال روي حكايته، يعمد إلى وضع الخصائص الجاذبة للتلقي، من خلال استدراج حاجة الإنسان للحكاية ضمن ظروف غير طبيعية من الناحية السيكولوجية. بهذا أستطاع أن يخلق نمطاً جاذبا لحكاياته، عبر مجموعة خصائص ؛ منها الطرافة كما ذكرنا، وسحر النمط والمسرى للحكاية، وأسلوب الكتابة "السهل الممتنع" فلذة السرد والروي تقترب بجهد واضح من حيثيات الإنسان. كذلك التوّفر على وحدة موضوع في كل حكاية، ومداراة مزاج المتلقي؛ أي ينطلق من الواضح إلى الدال، ومن الدال إلى تعميق الدلالة. هذه المراوحة قادت إلى سبك حكاية جديدة، من خلال اخفاء مصادر حكايته عبر الالتفاف على مسارها بأسلوب ذاتي قادر على خلق النمط. إن حكايته هنا اكتفت بمكوّنها الذاتي، وأبعدت شبهات النقل أو التناص. فقد قدمت رواية مقنعة، والتلقي هنا عبر سحرية السرد، وابعاد عنصر الشك والبحث عن الأصول للحكايات ؛ هل هي شفاهية أو منقولة. تماماً كما فعل "الشالجي" وقبلهما واضع حكايات الليالي. كما وأنه عمّق نمط الشخصية في كل نص، سواء كانت ممثلة في السارد، أو في نموذج النص. إذ خلق له تلقائية قولية تتناسب مع الدرس المرمى طرحه من خلال سرد الحكاية. فقد اعتنى بتشكلها الاجتماعي ومجالها المؤثر، وأرى أنها كانت ضمن التشكل السياسي كتعيين والي، أو الإشارة إلى نموذج ذي منصب اجتماعي وعسكري مثلاً. كما وأكد على موّضع الشخصية وتأثيرها، بخلق مجال حيوي تتحرك فيه، كاسبة ثقة الآخرين. وأرى أن هذا النمط من التقديم، يجتهد في تعميق الشخصية في الوسط الاجتماعي في أزمنة منصرمة/ كما هي في العصور العربية والإسلامية.
إن لذة السرد أو الروي، عنصر مهم في سبك الحكاية. فهما يصقلان المعنى والمجرى ويقرّباه إلى حاضنة لحقيقة، لتأكيد القناعة بما يجري في الحياة عبر ما يجري في النص. هذه الموازنة، أكد عليها "عربيي" في حكاياته أثناء نقلها إلى كتابه هذا. كما وأن هذا النمط من تقديم اللذة، قد استند أولاً على لذة تلقي الكاتب للمعنى في النص الشفاهي على مستويات الشفاهية لنصوصه. فهما بهذا المستوى من التوازن، حققا موازنة اللذة في الاستقبال.
استدراج الدلالة في النص
لتعزيز ما ذكرناه في القراءة، نقرأ الدلالة في بعض الحكايات. وهذا لا يعني أن الحكايات الأخرى ليست ذات دلالات واضحة. فحكاية "لا تحزن على الدنيا فإن واليها ابن زنوبة" هذا العنوان واضح المباشرة، لكنه كان قادراً على مراوغة المعنى، من خلال تسلسل روي تفاصيل الحكاية، التي راوحت بين أن تُعلن عن القصد، أو أن تُخفيه في ملابسات أسلوبية. فالحكاية تُقدم تسلسلاً للمعنى بأسلوب جذاب، وتتواصل في سرد مفردات الدرس واختيار "ابن زنوبة" والياً على بغداد مثل:"مجرد أن دلف رزاق إلى الحجرة، تفرّس الحاجب في ضهر الدالف الذي سيتحمل مسؤولية الشعب والوطن، بعد تحمّل أعباء الذكور" وهو قول فيه تهكم برداءة الزمن، فرزاق ابن زنوبة ينتمي إلى اللوطيين. كما وأن الكاتب اهتم بالفعل ورد الفعل على الشخصية. وهذا أمر مهم تميّزت به حكايات "عريبي" فبعد أن طرح عليه القاضي أمر توليه ولاية بغداد بقوله "نريد تعينك والياً على العراق، فهل تقدر على إدارة دفّة أموره"؟ هذه الحقيقة، استجاب لها "ابن زنوبة" بشيء من الدهشة والاستهجان، غير مصدّق ما يسمع، مقابل مراعاته لنزواته في التسلط، بسبب دونية منشأه "لم يجعله قول القاضي يفقد تماسكه ليصفّق بكفيّه فرحاً ويرقص وسط الحجرة منتشياً. وهو مهما قيل له من بشرى صادقة أو كاذبة لا يجهل أن شخصه لقيط مأبون، موّلود في ماخور وابن قوّادة. لذا ساوره اليقين أن القاضي أرسل إليه ليسخر منه" أما استجاباته الأخرى، حيث امتد الأمر لتوليد القناعة في القرار "أنا لي القدرة على إدارة شؤون البلدان العربية كلها لا العراق فقط" والذي يُعزز قوّلنا في بناء الشخصية، المداولة في تداعي ذهن ابن زنوبة "وثق أن المزمن المعافى جدير بالحاكم المعافى، والزمن الوخيم جدير بالحاكم الموبوء" وإلى غير ذلك من حيثيات مسار النص الحكائي الذي استكمل محتواه بالحكمة الاجتماعية والسياسية.
في نص "من لا يدري يقول قضبة عدس" وهي محاولة لصياغة حكاية على أساس مثل شعبي. فالذي يميّز هذه الحكاية، هي قدرة الكاتب على اختيار إناء لحكايته من جهة، وتهيئة مدار حكائي جديد لمرويته المعتمدة على المثل الشعبي منى جهة أخرى. وقد راعى في مسارها البناء السيكولوج للشخصية، راصداً أدق الأفعال وردودها كما وأن في فعل الصياغة واختيار الحكاية، اعتمد على مدخل كتاب "الليالي" وشروع عقدة "شهريار" إزاء المرأة، من خلال خيانة زوجته مع الخادم العبد في قصره. حيث يختم حكايته بعد أن يُسفر الفعل القصصي عن سلبية الموّقف المختوم بالخيانة الزوجية، يتدخل راوي الحكاية الخارجي بقوله "ماذا أقول لكم؟ من يدري بكنه الأمر يدري، ومن لا يدري بالخفيّ يقول قبضة عدس"
هذه النماذج من الحكايات لا تعفي صيرورات النصوص الأخرى، التي امتازت بنفس الخصائص، التي عمل الكاتب على تنوّعها، وتدرّج الدرس فيها. فهي بحق منظومة حكايات مضافة إلى جُهد باحثين في القول الشعبي، والسرد الشعبي المعتق.