ادب وفن

التعامل مع قوى جوهرية لعملقة العقل الباطن / قيس مجيد المولى

يُعد الشاعر الإيطالي "سلفادور كوازيمودو" أحد رواد الحداثة الشعرية والتي بلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية ، ولاشك في أن إيطاليا إحدى الدول الرئيسة في مخاض هذه الحرب ونتائجها وما خلفته كذلك الحرب الكونية الأولى فإن موجودات الشاعر لابد أن تكون ذلك الخليط من الخوف والترقب، ذلك الوجه الآخر من الضياع تحت آلة الحكم الفاشي .
وقد كان الموت ومفهومه الصفة الملازمة للعديد مما كتب كوازيمودو بل أن أغلب ما كتب لا يخلو من هذه المفردة التي سماها "بالمدهشة والسّحرية"، إن تأمل الحياة من خلال الفناء و اللا مشروعية في الاحتكام إلى الحرب كوسيلة من وسائل البقاء كان تراثا شعريا فسيحا يتجول الشاعر فيه من الضباب إلى السوداوية ومن الدم إلى الصدى البارد بانتظار سماء لا تسمع لمغفرة ، ولقد وصفَ شعر كوازيمودو بالتعقيد وبصعوبة الفهم وبالتغريب عن المضمون ولاشك بأن عوامل نفسية عديدة قد أطاحت بكيان هذا الشاعر الذي ذهب به قدره إلى الجنون ، ولم يكن خالي المعرفة فقد عمل في بدء الأمر موظفا عند محطة للقطارات ودرس الهندسة ومن بلدة مولده "صقلية" ذهب إلى روما لدراسة فقه اللغة وتنقل بين أحضان الصحافة الإيطالية وأصبح في عام 1939 رئيسا لتحرير مجلة الزمن ، وخلال الفترة "1930 – 1933" أنتج مجموعتيه الشعريتين "مياه وأراضي" و "روائح الأويكاليبتوس" ورغم أن هذين العنوانين يوحيان بحب الطبيعة والانغماس بعالمهما الدافئ والمعبر لكنهما مليئتان بتلك الضبابية التي تعبر عن عدم استقرار الشاعر ويأسه من الحياة فالفزع في هاتين المجموعتين مبثوث هنا وهناك ، مع المراكب ، مع الطيور ، مع الأشجار ، مع الثلج ، مع حيواناته الحلوة الأليفة ،
كان الدم يرتفع مع كل أغنية له ، كان يراه منتشرا في الحدائق ، منتشرا في الأصوات ،بالرعد الذي ترسله السماء ،لقد أقام كوازيمودو شكلا من أشكال المناطق العازلة ما بين الآلة المدمرة وخطابها اللغوي وموجوداتها المباشرة مع ما تعبره به ضمن اتجاه أخر كان مركز الذاكرة فيه لا يتسع إلا لمفردة واحدة هي "الموت" والذي قدمه بقوالب عدة هدفه التعبير ب إنه سيفقد أو بالأحرى فقد كل شيء:
حيث الأشجار تزيد المساء وحشة،
كم كانت واهنة
خطوتك الأخيرة
وهي تتلاشى
حين توشك الزهرة أن تتفتح
على شجرة الزيزفون
وتصر على قدرها
تجربين الصمت في حياتك
الزمن المنعكس في المرآة
يكشف لي عن مغامرة أخرى
يجعلني حزينا كالموت
فقدت كل شيء بريء
حتى في هذا الصوت
ونحن في الصباح من هواء
كان الهم الرئيس لكوازيمودو هو البحث عن جوهر الشعر بعيدا عن الخطابية والبلاغية لأنه يتحسس الشعر بالنغمة الدافئة وبالمطلق الكوني ، ولاشك بأن الشاعر بل الشعر الإيطالي عموما قد تأثر بموجة التغيير الحداثوية وبالآثار الشعرية لـ "مالا رمية، فاليري ، أبولينير"..
لقد تمت المعالجة بإثارة الانطباع الخاص في خصوصية كيانه الواحد الذي لا يتصل بأحد غيره رغم موجة الكآبة والتشاؤم التي طغت في شراكتها الجمعية لدى عدد كبير من شعراء إيطاليا وإسبانيا ومنهم "نيرودا ، أمبرتو سابا ، لويس ثرنودا ، بيدرو ساليناس" وقد يعني خروجا مبكرا للعبث مع قوى أخرى جوهرية على صعيد استخدام اللغة وعملقة العقل الباطن فالوجود الحسي في مغايرة مستمرة وقد يظهره كليا ويخفيه كليا عبر صفات غير مشابهة لجوهر الشيئيةِ ووظيفتها ، فلا صوت يأتي ليتردد ما بين العالم الحسي والعالم العقلي إنما السعي إلى تنمية المناطق المعزولة غير المرئية لتعميم شكل من أشكال الاضطراب ما بين اللغة ومعانيها وهنا لن تكون النزعات لدية مستقرة المطالب، مفهومة القصد ذات غرض واع تقام عليه المتطلبات المكانية والزمانية لأن المكان هنا لم يترك الشاعر دلالة تشير إليه ناهيك عن أن الزمان هنا زمانا صوتيا شبيها بقدرة الأشباح على التملص والإختفاء، فالتقاويم هنا أشكالا أثيرية لاوجود لتسلسل مرئي يمكن الإستدلال من خلاله على لعبة "الحاضر – الماضي – المستقبل" لأن مجرد السماح لأي من القوى الزمكانية تلك تعني الولوج إلى النشاط الواعي الشعوري والذي يمكن الأغراض الوصفية من قيادة النص وبالتالي يخرج الشعر من سحر وظيفته ، هنا المكتشف مما أراده الشاعر في مواجهة غيابه التأملي في قضاياه حين تمكن من تغريب اللاوعي وكذلك بشطح خيالي محدد أن يقدم المناسب والأرقى لتلك الآصرة التي تجمع كلية البناء الشعري بدون خداع بل بتسلسل منظم عبر سخرية تصوغ غرضها التراجيدي بحمى الألم النفسي الذي يتقافز ما بين شبكة التضادات في صوره الشعرية:
أريد أن أشكرك ،
على السخرية التي وضعتها على شفتي
ولا يهم ،أحمل دمعة لك
لكل الذين ينتظرون مثلك
ولا يدرون ماذا ينتظرون
آه ، أيها الموت الرحيم
لا تلمس ساعة المطبخ التي تدق فوق الحائط
لا تلمس أيدي العجائز
لا تلمس قلوبهن
ما أجمل الحياة
بين رائحة الخشب
ورائحة الجحور
لقد لاحظ كوازيمودو ذلك البون الشاسع في شعره وبين متطلبات حاجة العامة من الناس الذين أنهكتهم مأسي الحروب ليكرس خلال فترة الأربعينيات إتجاها جديدا في شعره بل ويجعل من هذا الإتجاه الذي يمكن أن تسميه "بالاتجاه الإجتماعي" بوابة لتنظيراته الشعرية حيث كتب مجموعة من المقالات تشرح توجهاته الشعرية تلك فكان معظم إنتاجه تسوده البساطة واختيار اللغة المناسبة سواء في مجموعته "يوما بعد يوم" أو مجموعته "الأخضر الكاذب الأخضر الصحيح" ، ولابد من التذكير أن كوازيمودو كان مهتما بالأدب اليوناني القديم والفلسفة اليونانية ورغم ذلك الإهتمام لم يظهر في قصائده ما يشير إلى تلك المؤثرات على صعيد ما زخر به الأدب اليوناني من ملاحم البطولة والمعلقات الطويلة ،كوازيمودو المنسي في عالمنا العربي بحاجة إلى إعادة قراءة كونه لا يقل قدرة وإبداعا عن أفضل الشعراء في إسبانيا أو شعراء وطنه إيطاليا لأنه قد توصل إلى القدرات السحرية في الشعر التي تبطل إقامة المألوف وإقامة غير الحيوي أمام الجمال الذي تحرره الصور النبيلة التي لا شراكة لها مع صور الغير.