ادب وفن

علي لفتة سعيد.. الأثر بوصفه تأويلا / علي حسن الفواز

يضعنا الشاعر علي لفته سعيد أمام فضاءات وجعه الشعري، أكثر مما يذهبُ بنا إلى إغواءات سؤاله الشعري، إذ يرسل عبر هذا الوجع إيحاءاته النفسية والإبلاغية، ليوحي بمأزق الشاعر الوجودي إزاء الفقد والغياب، وإزاء محنة الكينونة وهي تقفُ عند مهددات المحو.
قصائد كتابه الشعري الجديد "أثر كفي" تبدو وكأنها محاولة في تأصيل كتابة المزاج الشخصي، إذ يستدعي الشاعر صورته في المرآة العائلية، وفي الشارع الكئيب، وعبر ما يساكنه من وحشة الحرب، والخوف والغياب والحزن، حيث لا يرى سوى كفّه وهي تجسّ الأشياء، تترك أثرها بوصفها علامة للحضور المضاد، وكأنها واسطته الكاشفة التي تملك بداهتها في الحدْس، وفي معاينة رؤيا المضمر النسقي، والكشف عن الخبيء الحسي، والتلـــــذذ بما يمكن أن تتركه اللغة في التفاصيل من استعاراتٍ وشيفراتٍ، بوصفها بيتَ السُكنى وقوةَ الوجود كما يقول هيدغر، وبيت الشاعر السيميائي والتعويضي.
قصائد الكتاب تستشرفُ هذا المجال التعبيري والدلالي، وكأن الشاعر يمارس عبر مجاليته وظيفة "صانع الفخار" تلك التي تحتفي بالكفِّ، وبروحها الخالقة، إذ لا يملك الشاعر في طقوسها سوى أن يكون الرائي لما يتضح في الوجود، ولما يختفي تحت عتمة الاستعارات في الغياب. هذه الثنائية تتغور عبر يافطات ما يُثيره الشاعر من الأسئلة/ الهواجس إلى ما يُحفزّه على استكناه جوانيات اللغة، فهو يتبدّى عبرها بوصفه البروميثيوسي/ سارق النار، والباحث في عتمة الروح المكشوفة عن خرابات الواقع، ورعب الحرب وخيبات الجسد..
الشاعر ونص الاعتراف
يكتب علي لفته سعيد نصه الشخصي بوصفه نصا في الاعتراف، لذا تتمثل كتابته شغف البوح وأغاني الحزن، حدّ أن هذا النص يكون أكثر عريا في التعبير عن حمولات صوره وانثيالاته، تلك التي تضع الشاعر في تماهٍ طقوسي مع حلم النبي يوسف، النبي الذي عاش محنة الذات والفقد والأخوة القتلة، ومحنة المكان والنفي واللذة والخطيئة.
"إن فاتنتي زليخة.. أنا الحالم.. ما عاد يمهلني الحلم سوى الحلم".
نصّ الاعتراف الذي يكتبه علي لفته سعيد، نص مُموّه، نص يبحث عن المعنى والفكرة المُقَّنعين، لكنه أيضا النص الواقف عند عتبة التأويل، حيث هو المحشوُ بشيفرات الكآبة اليومية، وهي تُحصي خيباته، وتوهمه بـ "شروق الفكرة" تلك التي يسعى الشاعر عبرها إلى أنسنة وجوده الحاضر والقلِق في آن معاً، وجسده المشغول بشهوة الفكرة/ الأثر الغائبة، إذ تتمثل كتابة النص ـ هنا- لعبته الأثيرة في التعبير عن التضاد والتآلف في ثنائيتي الحضور والغياب، وعبر ما يثيره الأثر/ أثر الكف من استدعاءات للطقوسي والسحري والتطهيري.
"أنا الحنّاء المطبوعة على الأبواب.. أنا أثر كفي".
فضاء الأثر في النص الشعري هو فضاء مُتخيَّل للصلةٍ ما بين الوجود وغيابه، وأنَّ النص الشعري في هذا السياق لا يملك إلّا أن يكون أكثر اقترابا من المنحى الطقوسي/ التعويضي، حيث هاجس الشاعر في البحث عن الإشباع، والتفلّت من النقائض، أو حتى من الخسارات، تلك التي تتسع للخطيئة، مثلما تتسع لتأويل الأحاديث والقصص، وكتابة التراتيل، إذ تكون أنا الشاعر هي الأنا المتعالية الإيهامية، التي تتقصدّ لعبة الكشف بوصفها شيفرةً للقدّاس الاعترافي، وللتطهير من خطيئة الوجود، ولتدوين انكسار السيرة، مقابل ما تفترضه هذه الكتابة الشعرية من أغانٍ وايحاءات واستعارات، بعضها مشغول بتعبيرية الحزن اليومي، وبعضها مشغول بعلامات ما يتركه الأثر، الذي يبدو وكأنه محاولةٌ لتلمّس أثرِ الشاعر عبر أثرِ أحزانه، وعبر ما يتبدى منها في رثاء الجسد، أو رثاء الذات، أو رثاء المعنى، أو رثاء المكان..
هذا المركّب التعبيري للرثاء يدفع بالشاعر نحو مواجهة وجودية مع حمولة الغياب، عبر المراهنة على فكرة الاستدعاء عبر التأويل، إذ تحضر العرّافة بوصفها السحري/ الطقوسي للإيهام بهاجسِ المعرفة والكشف عن سرائر التأويل التي استدعاها الشاعر من النص القرآني والنص الأسطوري..
"أجزل عطاياك للعرافة.. كي تنبئك بتأويل".
التعالقُ في هذا الكشف يندفع عبر ضمير، ليكون أكثر تعبيرا عن ضمير الشاعر نفسه، فهو أكثر بحثا عن المعنى الذي يلاحقه، مثلما هو أكثر استيهاما باللذة عبر ما تثيره اللغة من إحالات قلقة، تلك التي تتمثل دالة ما توحيه "الجملة الفعلية" من دافع، وعبر ما تثيره اللذة في اللذة/ لذة تلمّس الأثر في الوعي على طريقة الظاهراتيين، لتتشكل الفكرة عبر بنية النص، وعبر تداعيه في التأويل، والتماهي مع أناه "أنا أثر كفي".
علي لفته سعيد شاعرٌ راءٍ للوجود عبر ما يؤوله، فهو شاعر شديد الحساسية والقلق، يتشبث بشهوة الرؤيا وكأنها مُنقذُه الوحيد، يُحيل اليها حضوره بوصف نصهِ نصاً مُتخفياً عن الآخر، مسكوتاً عنه. هذا التلازم يسم القصيدة بنوع من التصعيد الحسي، والأيروسي أحيانا، إذ يكون هذا التصعيد أكثر تَمثّلا لأزمة الشاعر، ولضيقه بما هو بلاغي، وهو ما يجعله أكثر انغمارا مع اتساع التأويل والاستعارات في الفضاء النثري، تلك التي تتبادل فيها الشيفرة اللغوية مع معادلها التعويضي، عبر استعادة قص النبي الذي يشبه في المحنة والبحث عن المعنى، وبما يوهم القارئ بأن هذه الكتابة الشخصية ستظل مسكونة بشيء من التوالي، أقصد توالي التلازم ما بين الحسي الإيروسي واللغوي التعبيري.
تواليات الشاعر هي تماهٍ مع إحساسه بشراهة ما تستدعيه اللغة، إذ تمارس هذه اللغة غوايتها في التشفير والإيهام والإغواء، وإذ هي تكون مجسّه لتلمّس المضمر في الوجود والجسد، وهذا ما يمنح نصوص هذا الكتاب نوعا من الترابط الداخلي الذي يوحي وكأنها نصٌ واحد، هو نصُهُ الرائي، أو نصُه الذي يملك مرقابه اليومي والحسي لتعرية الذات والوجود، وللكشف عن سيرة المحو الطاعنة فيهما..
لغة علي لفتة سعيد تميل إلى وظائفية الجملة المكثفة، تلك التي تضع استعارتها في سياق تعبيري مفتوح، وفي سياق دلالي له مُضمره العميق، إذ يحمل التعبير تشكلاته الصورية والبنائية باتجاه تدفق المزيد من التواليات الصورية التي تزدحم حيناً وتتشظى حيناً آخر، ومع مستويات بنائية صياغية تقوم على فكرة الصورة بوصفها مادة لذلك التعبير، التي تنهض على اختزال التجربة بأجمعها عبر ما يمكن التقاطه من الجملة الشعرية، فضلا عن أن السياق الدلالي يستدعي منظورا أكثر شمولية، على اعتبارٍ افتراضي، بأن نصوص الكتاب الشعري تقوم على جوهر تأويلي، وليس عيانيا مباشر، لأنّ الشاعر يجد في الميثولوجيا الدينية فضاءً للتعبير عن ذاته المضطربة، القلقة والباحثة، وهو ما يجعلها أكثر تمثلا للأثر الذي يتركه وجع سؤالها الوجودي والإنساني.
هذا المحمول الدلالي هو المُحرّض على استيلاد طاقة الوجد، وعلى انكشاف سيمياء الكائن/ الشاعر وصوره المتدفقة، تلك السائرة في مجرى تعبيرها المتعالي عن الوجود والغياب، وعن الانشغال به عبر هاجس النداء والسؤال والشك والاستعارة الغائبة، إذ توهم هذه الاستعارة برهاب عري الكائن ووحدته، وطبيعة قلقه الأنطولوجي أمام فكرة الغياب الفلسفية، وأمام شغف الشعرية في أن تكون هي الفكرة الضد إزاء الغياب، وإزاء أن يكون النص هو المحاولة الدائبة في كتابة نص الاعتراف، بوصفه نص الاستعادة والوجود والرؤيا، واستعادة الجسد "المُدنّس" بخطيئته وخرابه وهزائمه عبر اللغة.