ادب وفن

اقتصاد المعرفة وصِيَغ إنتاج الكتاب / ياسين طه حافظ

كان دور صِيَغ الإنتاج مهمَلاً قبل عصر الطباعة. بعد الطباعة اتضحت وازدادت أهمية هذا الدور. ففي تطور الإنتاج الطباعي كبر حجم الاقتصاد المعرفي وتداخلت صيغ أي إنتاج منه مع صيغ الإنتاج العام. إنتاج الصحف، إنتاج الكتب والإنتاج السينمائي (بجانبيه الفني والأدبي). هذه كلها اكتسبت مظهراً من مظاهر الإنتاج السِلَعي.
وكذلك تبدو مشاريع الترجمة ومشاريع النشر بعامة، مشاريع تجارية مثلما يُفاد منها في التنمية الفكرية وفي الثقافة العامة والفعل السياسي الجماهيري وفي إدارة النشاط الأكاديمي الذي صار يشكل سوقاً للإنتاج الطباعي هو الأول في حسابات دور النشر. المشاريع الصغيرة مثل تلك التي تقوم بها الوزارات، بخاصة وزارات الثقافة في البلدان العربية، مشاريع محدودة الأفق، انتاجيتها قليلة وضيقة الجدوى. وقلّة انتاجيتها لا تعني قلة في الربح حسب ولكن قلة الإفادة منها أيضا.
بالنسبة لوزارة الثقافة في بلادنا، كان ممكناً التفكير بمشاريع نشر كبيرة بالتعاون مع القطاع الخاص والإفادة من خبراته في تقدير الحاجة والنوع والتوزيع، وبشرط التجرد من الانحيازات ذات الصلة بالتخلف الاجتماعي الفكري والذاتيات المُضْمَرة، موالاة ومصالح فئوية. اي ان يكون العمل ثقافيا تجاريا جادا.
أنا لا أفهم كيف تسوّغ وزارة لنفسها، وهي وزارة، إنتاج ألف نسخة او الفي نسخة من كتاب. معنى هذا ان هذه الوزارة تعمل لإفادة فقط ألف او الفي فرد! حتى ناشر صغير لا يرتضي لنفسه هذا! وإذا علمنا بالتلف والمرجوع والاهداءات المجانية التي تكون مضاعفة أحيانا، نجدهُ عملاً لا يليق بدار نشر محترمة فكيف بوزارة؟
هذه مشاريع مظهرية تبدو جادة. والجدوى الإعلامية التي يُحتَجّ بها مقتصرة على ان الوزارة نشرت هذا الكتاب وترجمت ذاك.. أولا ماذا نشرت؟ ثانياً أي التآليف وأي الكتب المهمة ترجمت؟ وثالثاً، وهنا المطبّ، كم عدد النسخ من المطبوع؟ وكم المبيع من هذا وكم المرجوع منه؟
لا نبخس حق الناس العاملين. ان كتبا جيدة ومهمة ظهرت. لكن حدها الانتاجي يُقصِر نفعَها على مساحة بشرية محدودة. كان من الممكن ان تتسع لو تم التفكير بأفق آخر.
مع تقديري للنوايا الحسنة، طرق الانجاز هذه وصفة ونوع الإنتاج ومدى الجدوى المعرفية والتجارية (التجارية هنا ليست عيباً، العيب في عدم المبيع والخسارة) أقول، هذه التساؤلات او الملاحظات تحتاج إلى وقفة موضوعية ومراجعة علمية. وللعلم، حتى ثلاثة آلاف نسخة رقمٌ غير مقنع تجاريا!
لست ضد هكذا مشاريع صغيرة ولكني بصدد الطموح لمشاريع كبرى في النشر، مشاريع دولة إذا ما أصرت على النشر وإلا فلتهتم المؤسسة الثقافية الرسمية او الوزارة بتوفير مكتبات عامة تزوّدها دور النشر باصداراتها. وهنا تكون الكلفة أقل والفائدة أوسع. ومن شاء يطبع، فالعديد من دور النشر تطبع. أما أن الوزارة تطبع لمن لا تطبع له دور النشر هذا يعني طبع ونشر كتب الدرجة الثالثة أو ما لا يُباع! والا لماذا لا تنتفع منه دار النشر؟ التجارة تنحّي الفكر والمعتقد من اجل الربح.. مشاريع النشر المهمة التي نحن بصددها هي تلك التي يحسب لها حساب في الجدوى الإنتاجية لا ان تكون باباً للصرف والتوظيف والاقتناع بها عن الأكبر والأوسع جدوى. نشر محدود مثل هذا الذي يتم، يمكن ان يُعْهد به لدار نشر، وسيكون الكتاب أقل كلفة وأوسع توزيعاً وأكثر اهتماماً به في السوق لأن المطبوع الرسمي ما يزال غير مقطوع الصلة بالإعلام وسياسة الدولة..
ومع ان بعض مشاريع الإنتاج الثقافي الكويتية هي محدودة ايضاً، لكنها أوسع أضعافاً من مشاريع الوزارة العراقية وأكثر جدوى ثقافية واعلامية. كتاب المعرفة الكويتي يطبع باكثر من 40,000 أربعين ألف نسخة ويوزع في جميع بلدان الوطن العربي. وفي بريطانيا والولايات المتحدة وكندا! مع ذلك هو عدد ما يزال قليلاً ولكنه أكبر اضعافاً من أي كتاب عراقي! العقل العامل هناك أوسع أفقاً ثقافياً وأكثر خبرة في صناعة الكتاب وتجارته، لقد دخل الاقتصاد المعرفي في مراحل العمل فصار نتيجة لذلك أوسع جدوى ثقافياً وإعلامياً وتجارياً!
قبل أي عملية إنتاج لابد من تحصيل بيانات بشرية عن العاملين وأجورهم وكلفة المادة الخام: ورقا وأحبارا واستهلاك مكائن طباعة، ثم حساب كلفة الخزن والنقل والدعاية وحصة الموزع وحاجة السوق (البيع) ومكافآت المؤلف او المترجم فضلاً عن كلف إقامة وكهرباء واستهلاك أثاث وقرطاسية وأجور عاملين اوموظفين.
هذه معلومات تقع في صميم اقتصاد المعرفة والأسس التي يتم بموجبها إنتاج أي كتاب، مع الاهتمام بتوقيت إصدار الكتاب لان زمن صدور الكتاب مسألة تؤخذ في الحسبان تجارياً وثقافياً.
أي كتاب يتضمن معلومات. وعند استيعاب هذه المعلومات وفهمها تتحول إلى معرفة. ولابد هنا من التمييز بين حالة المعلومات الساكنة وحالتها الديناميكية، حيث تمثل الأولى وجود المعلومات في الكتب والدوريات وتظل في أماكنها المخصصة على رفوف المكتبات. اما الحالة الديناميكية فتمثل العملية التي تزيد من فهم واستيعاب تلك المعلومات والمقدرة على التصرف بها واتخاذ القرارات استناداً اليها، أي الى المعارف التي تضمنتها تلك الكتب او الدوريات.
في مراحل البناء الصعبة والتنمية الوطنية تحضر الاولويات ويصير الاهتمام بالمعارف في حالة الديناميكية والتي تُعْتمَد في التطور وإدارة الحياة، فهل وضعنا في أذهاننا ونحن ننتج كتباً ودوريات هذا الادراك للضرورات المرحلية؟ إذا تعذّر كل هذا فلابد من ان يكون موضع الاهتمام والعمل بما تستوجبه ضرورات التنمية ومتطلبات الحضارة والتطوير وما يستجد في العالم من موضوعات الثقافة. وعلى قدْر ما يسمح به انتصارنا على "رغباتنا" و "مصالحنا" وقدْر ايماننا بضرورة تجديد افقنا المعرفي والمهني تتحقق النتائج!
لكي نعمل لابد من ان نعرف كيف نعمل!
نقول هذا ولا نريد ان نُتَّهم بالسذاجة واننا ننشغل بظاهر المشكلات مبتعدين عن جذورها بل عن قصديتها المرسومة! فنحن نعلم ان بعضا من ذلك المُدان هو من نتائج اللامعرفة، أو اللاخبرة. مثلما هي مسألة مقصودة وضمن سياسة ضمنية متوارثة، غير مكشوفة أو مُصرَّح بها. هي بإيجاز: العمل على استبعاد اكبر طاقة من المجموع، تعطيل فعلها! فهم يبعدون مصادر المعرفة عن البالغين أو عن نمو المطالب. قبلها تركنا الأطفال إلا من بعض قصص التحذير أو التوجيه (الذي يتضمن الطاعة والانصراف عما لا يعنيهم ..) وهو فعل معرفي مضاد. هو لا معرفي في النتيجة. العمل أذن، استغلالاً أو بناءً، محصور بين الشباب والشيوخ، واولاء صارت احتياجاتهم المعرفية تنحسر الى الاحتياجات الصحية. هنا، بين العاشرة والستين يعمل السوق المعرفي للكتاب وهو السوق التجاري ايضا، أي الكتاب في مهمتيه السالبة والموجبة. على هذا الوسيط يحصل التبذير أو ما يسمى بـ معارف الإلهاء. نحن لا نرى تأسيسات معرفية جادة. فنحن مثلا نشهد التوقف عن أنشاء المكتبات العامة, وهذا عمل خطير نتمنى ان لا يكون مقصودا. كما ان المكتبة الوطنية الموروثة (كان أسمها مكتبة المعارف بسبب تابعيتها لوزارة المعارف) ليست حتى الآن مكتبة غنية ولا حديثة. أيضاً، وهنا الفضيحة، لا توجد مكتبة أجنبية كبرى توفر الدوريات والكتب الاجنبية في اللغات الاجنبية الرئيسة يمكن ان يرتادها اهل الثقافة والبحث او القارئ العام.
هذه نواقص أو عيوب تفضح بشكل مخزٍ مدى الفراغ المعرفي ومدى اضاعة المال في تاسيسات تنشر بضع مجموعات قصصية وشعرية وكتبا محدودة العدد في الشأن الثقافي متوسط المستوى. بعض هذه من شأن الاكاديميات. والمفترض ان للجامعات مطابعها ونشرها. لكن هذه هي الأُخرى قاصرة ومشمولة في تداعي الاقتصاد المعرفي وان العمل غالباً ما يكون غير مخطط له اقتصادياً. الأموال التي تصرفها وزارة الثقافة على المهرجانات (إعلامية الطابع بالدرجة الأولى وعلى الايفادات للتمثيل في معارض الكتب خارج البلاد او السفرات بعنوان ثقافي أو معرفي، كافية تماماً بل قد تزيد على كلفة انشاء صرح ثقافي مثل المكتبة الاجنبية المطلوبة لتكون مرجعا معرفيا وثقافياً للبلاد، مثقفين وأكاديميين وزراعيين وصناعيين وسياسيين يفيدون منها مجانا أو باشتراكات رمزية. لكن لأن اكثر متولي المواقع والمؤسسات ودوائر الوزارات ليس لهم نشاط أو اهتمام معرفي، لم يكن هذا موضع اهتمام أحد، بل لا يخطر على بال احد منهم اليوم! لا ننسَ ان ذلك يقع ضمن خط تحديد قوة انتشار المعرفة وعدم توظيفها توظيفاً اقتصادياً. نحن بعيدون حتى الان عن اقتصاد المعرفة. ولسنا من ناحية اخرى غافلين عن قصديات ذكرناها..
الاقتصاد المعرفي عندنا اقتصاد طبقي مشوّه وطبقي محدود جداً. لقد تناول الفكر الإنساني على مدى العصور قيم المساواة وارتكزت الأفكار على الاقتصاد، مهما اختلفت التنظيرات. وما يزال العدل والمساواة بعيدين عن الواقع والناس.
علم الاجتماع لم يترك العدل والمساواة طوباويين. حددهما باندماج الناس في مجتمعاتها على أصعدة الانتاج والاستهلاك والعمل السياسي والتفاعل الاجتماعي. فكانت اللامساواة تعني الاستبعاد او الحرمان او الإقصاء من هذه المشاركة. إنتاج الكتاب الرسمي، بالصيغ التي ذكرناها، يقع ضمن اللامساواة، ضمن استبعاد فئات عن الجدوى.
لكن استبعاد أعداد غفيرة من جدوى الكتاب تنقلب نتائجه على المخططين إذ يقل بيع الكتاب او يتسبب بخسارة. ولا أرى ذلك يضر المؤسسات الرسمية فهي أصلاً ورثت مخططات هدفها المضمر استبعاد الغالبية من الفعل المجتمعي. واستبعاد الكثرة يعني فشل الاقتصاد المعرفي او اننا لم نعتمده أصلا!
يقودنا هذا الى الصُلب الاكثر قوةً، وهو ان نعمل لا لإنتاج معرفة ثابتة بحدود ضيقة ولكن أن نعمل من اجل معارف ديناميكية واسعة تؤسس ثقافة مثلما تؤسس صناعة. وكما الاقتصاد المبرمح ينتج اقتصادا اوسع، كذلك تنتج المعارف الديناميكية (المتحركة) معارف اكثر وتعود هذه تنتح اقتصادا وهكذا هي دورة الانتاج.
ختاما، وبإيجاز، نقول: ان الطريقة المثلى التي يمكن لمجتمعات مثل مجتمعنا ان تأخذ بها لتنتج معارف ومن ثم اقتصادا، هي العمل على تكوين وتنشئة أجيال جديدة تكون لها توجهات مختلفة عمّا هو سائد الآن وقدرات على التأمل والتفكير بحيث يؤلفون قوة ضخمة تعمل في إنتاج المعرفة. وأولاء هم من يُطلَق عليهم "العمال الثقافيون" knowledge workers الذين يكرسون جهودهم في إنتاج المعرفة وفي تطوير المعرفة وتطبيق المعرفة في المجالات كلها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 382
آيار 2016