ادب وفن

أدونيس.. الأنا حين تكون خارجَ كهفها / قيس مجيد المولى

صور خلاسية يقدمها أدونيس بعد أن يمارس رغبته في تمزيق جسد الطبيعة بخلوة مرئية يفصح بها عن ما يعوز رغباته ، فهناك مناصفة ما بين الجامد وبين الشكل المتحرر باستخدام صفات المقارن المشابه ليسير بهدوء إلى النقيض لإيجاد الجزء المعاكس للجزء الأخر، أي أن وحدته الكلية تكتمل حين يكون هناك تعبير متناقض في الصورة الشعرية التي تتوافق مع حاجة الانفعال إلى المزيد من الانفعال ،
وأكثر من ذلك فإن مديات تحريكه لأبعاده المختارة تتصل بأبعاد تحريكه لقوى الطبيعة لضمان الأفق المفتوح الذي يُخزن فيه قدراته الحيوية :
رأسها أمطار وعواصف ،
لكن جسدها
بحار من العطش ،
...
حول قدميكِ
يجلسُ البرج الثالث عشر
من أفلاك جسدك غير المرئية
ممسوحا بزيت الرغبة
ممزوجا بثوب الحب
إن فكرة البقاء لدى أدونيس تتصل بفكرة النور وهو لا يتخذ من هذه الفكرة رمزية ما كي يعود إلى الأساطير القديمة ، بل جعل من هذه الفكرة مادة عرضية قياسها يتم على أساس الإحساس بالحاجة إلى الطرف الأخر، حاجة تفوق مستلزمات الحياة الأخرى حيث الدخول الى ذلك الفضاء الجسدي يعني البقاء، والخروج هو العُتمة ، هنا تكون الغريزة غير عارضة وإنما تعبر عن الجزء الحي من الرغبة في مصارعة الوجود دون حساب لما يتشكل في الطرفين المُعبر عنهما "الرجل – المرأة"، فالصوت المدفون الذي يريده أدونيس هو الذي يطوره عويلا ثم صراخا وكأنه يريد اقتياد التوهج الجنسي من أسفل درجاته إلى أعلاها لبلوغ غيبوبة اللذة التي تعني اكتشاف مغريات الجسد في الخيال ،إن هذا التقريب يقع ضمن موجودات تصوراته المحسوسة المثيرة ومنها "المرآة – الزيت – الفراش – الأعضاء التناسلية – الاحتفاء – العروق – الماء- الاحتراق – العطر – المضاجعة – التكوين – الطين – الوسادة – النهد – البخور – النيران"، وكل تلك توصل إلى مناطق اشتهائية ، فالذات هنا معدمة بدون تلك الأشياء ولا وجود لأنا إن لم تخرج من كهفها، إن أدونيس حين يعبث فأن لغته ليست استدراجية لأن لديه ما يكفي لدفع لغته باتجاه الغاء التعريفات للمسميات أي أن كشفه سيكون وليد ما تولد له تلك الرغبات من أفعال يستطع قياس حجم مؤثرها ومخالفاتها ضمن هذا الموضوع عن الطبيعي والمكرر، فالجسد مَرار والجسد طلسم والجسد فرادة مثنوية والجسد وحي وسائل ، والجسد فردوس الذهن ونعيمه ، لذلك لن تكرر اللغة مقولاتٍ سابقةٍ بواعثها اللذة العابرة ولن ترتبط إلا بالضوء الذي يأخذ أشكاله المكانية واللونية ويختلط مع موجودات أخرى ليست بذي علاقة مباشرة مع ذلك الخلط الهذياني لنيل الرغبة بمفهوم أستطيع تسميته "النقص الإشباعي" كون عملية الولوج مع الآخر غير مقيدة وغير قابلة للتوقف ،فهنا الجسد موصلا للطبيعة ومحتوياتها ولن ينتهي ذلك الاكتشاف ولن تنتهي الرغبة في إفراغها لأنها تتكرر عبر أفعال كثيرة عبر مشاهدها اليومية في الطبيعة عبر مزاوجات للبحر وللأشجار وللضياء ولأجنحة الطيور التي تجيد المناقحة ، معنى ذلك أن لا توقف ولا انبعاث في مضمون الشهوانية لأنها لا تنطفئ فكل مرحلة من مراحل التوهج تزداد سموا بما تعطيه من متع لأي من الموجودات التي تمنح البقاء بقاء أطول داخل النفس بين الروح في تلابيب الجسد.
منحدر ظهركِ
مسيل لشهواتي
مرارا مسح الليل جلده بأهدابي
مرارا كان جسدي يتخذ شكل شجرة
لكي يحسن الصمت
مرارا كان الأفق يقرأ علي باسمها كل شيء
مرارا كانت شجرة الصفصاف التي سميت باسمها
لا تسلم علي إلا بجدائلها
من أين للكلام
يجلس على عرش واحد
مع هذا البرق الذي يبتكر أعضاءنا؟
يعود أدونيس ومن خلال البحث عن فكرة البقاء التي تتصل هذه المرة بغير النور ولكن ضمن مديات التوهج الجنسي فيجد في المسافات الرمزية بالجسد ملجأ أخر لتخمير موجوداته من أجل استبدال حجومها وأوصافها وإعادتها بحيوية طازجة الى جسد النص، وهذه المسافات ليست مسافات مكانية بمعنى ليست مشاهد مادية إنما هي مسافات نفسية يحولها الباطن والخيال إلى مجاميع من الصور الإنشادية الفردية فيستطع القارئ مثلا أن يتلمس الأفق من خلال الأهداب والطبيعة من استدارة الجسد والعري من إشارة الكف ، وهذه الموحيات تميل إلى الاغتراب البطيء ثم العودة البطيئة لتشكيل العلاقة الانبهارية حين يبدأ المتلقي باستدراج صورها ليس من اجل المعنى أولا بل من أجل الاستمتاع باللحظة الشهوانية ثم يأتي بعد ذلك دور التفكير والتحليل والتكييف ،فلذة النص هنا كأنها في أول وهلة مجردة من معناها لأن ترويض الكل كان قابلا في الامتثال للجزء لأن الجزء المختار هو كلية بحد ذاته وفيه دلالات العمق المطلوبة التي تمنح أدونيس تلك القدرة الفائقة للولوج إلى عوالم الحواس التي تبني أشياء كثيرة من اللا شيئية كونها حواسا تشترك للإيفاء بمتطلبات النص وتشتغل هذه الحواس بأبعاد غير متقاربة رغم تعاونها في حشد انفعال المخيلة وتأجيج العاطفة فالتقابل هنا غير منظور سواء كان حيا أو ميتا فهو في مكان ما من الجسد والصوت كذلك ليس صوتا ظاهرا تستطيع بيان مصدره لأنه قد تشكل من خفايا وصراعات الجسد
فيكِ يندرجُ جسدي
وأليك يعرج
في وحدته يجتمع بك
في اتحاده ينفرد
في لحظة ما
شغفا بالأرض
تتحول السماءُ
إلى مرآة
من أجل أن تتحول الأرض كلها إلى امرأة
فراغكِ –
أليف من جنس الهواء
فرح وحزن
بابان افتحيهما
أحب أن أرى
كيف تضطربُ
بينهما ذاكرتي ،،
ان مفاهيم أدونيس الكونية مخفية دائما ضمن ما يعتري الإنسان من خوف وشك وقلق وهما في رأيه أساسا جيدا للمتعة النفسية التي تضيف إلى الرغبة شكلا ما من توهجها وعدم القبول والاكتفاء بنيل حاجة ما دون إحداث علاقات متقابلة تبدأ من قبة الكون وتنتهي خارجه.