ادب وفن

إيناس البدران.. الحلم وبناء الشخصية / نادية هناوي سعدون

تمنح القاصة العراقية إيناس البدران في مجموعتها القصصية "حافات الحلم" الشخصية مكانا مركزيا يضمن لها تميزها بدءا من الاعتناء ببنائها على أسس فنية تؤهلها إلى أداء أدوار فاعلة وحيوية، مرورا بقدرتها على تصعيد وتيرة السرد وتأزمه وتعقيده ووصولا إلى الحل الذي به الانفراج، سواء أكانت هذه الشخصية ذاتا ساردة أم ذاتا مسرودة لأنها في الحالين كليهما لا تدرك كنه الحلم بمساحته وأبعاده وحدوده، لكنها تستطيع أن تدرك أطرافه أو حوافه بدعوى أنها غير متيقنة من كونها منغمسة في الحلم، أو لا.
ولا يتحقق للشخصية أن تصل إلى هذا التميز البنائي إلا باتخاذ الحلم فعلا تأسيسيا يهيئ الشخصية للتأزم، ثم يقودها إلى التصادم مع الواقع فتبهت وتتشتت وهي تواجه إشكالية الحلم/ الواقع.
ولا سبيل للخلاص من هذا التأزم الذي يستنزف طاقة الشخصية إلا باستلابها وانكسارها ولا سيما الشخصية النسوية. والحلم عبارة عن مخيال افتراضي تصنعه الذات لائذة به من كل ما حولها ومن نفسها أيضا مجابهة به التحديات مفرغة فيه كل أمانيها وآمالها.
واستثمار القاصة إيناس البدران لتقانة الحلم مبني على مقصدية جعل العنوان عتبة يلج منها القارئ إلى عالم الشخصية المأزومة، فكل ما تشعر به الذات هو أنها على حافات حلم تداري به خذلانها أو تصنع به عالمها الذي تنشده لكي تحقق آمالها التي عجزت في الواقع عن تحقيقها.
ويتخذ تجسيد الحلم في القصة القصيرة بناء دائريا على الأغلب، حيث الحدث يبدأ بلحظة شعورية تنتاب الشخصية في واقعها المعتاد لتنتهي وقد غاصت في الحلم، وحينها تتحقق لحظة التوهج التي فيها احتدام التصادم بين ثنائيتي الحلم/ الواقع فتقع الشخصية في تضاد مع نفسها، الأمر الذي يدفعها إلى الرجوع منكفئة إلى النقطة نفسها التي كانت قد انطلقت منها لتتلاقى لحظة البدء بلحظة الانتهاء.
والبغية توكيد أن لا تصالح بين الحلم والواقع كونهما يظلان متضادين، وهذا ما يجعل الشخصيات سلبية ومنهزمة وفوضوية، فتتعطل قدراتها ولا تصبح قادرة على التغيير بعد أن انغلقت على ذاتها في عالم خاص بها لوحدها.
وما كان لهذه القصص أن تكون حافات للحلم إلا لأنها ليست أحلاما بالمعنى الحرفي للكلمة، كما أنها ليست رؤى وتصورات لواقع يراد منه أن يكون أفضل وأكمل، بل هي عالم تصنعه الذات انهزاما من مواجهة الواقع لكي لا تكابد لوعة الأفكار وضغط الذهن على الجسد مستعيضة عن ذاك كله بسياحة حرة في مديات رحبة من الهيام الشعري.
وهذا ما تطالعنا به أول قصة بعنوان "عش الغراب" التي تروى بضمير الغائب المؤنث وبحوارات صامتة وتداعيات مونولوجية محورها ثنائية الحياة/ الموت.
ويتحول تأزم الشخصية من الشعور بالمعتادية إلى الإحساس باللااعتيادية والوجوم والأفول فتتراكم أحاسيسها المزدرية لحالها وتتوكد لها دونيتها وما كان للأزمة أن تنفرج إلا بعد أن وعت الذات أن هيامها بالحلم ما هو إلا وهم وخداع وتضليل، ولذلك تسلِّم للواقع المحيط مستعيدة توازنها.
وضمن التوظيف ذاته تأتي قصة "عبث الأفعوانية" التي تسرد بضمير الغائب، وبطلاها اثنان احدهما رجل حالم بحياة مثالية فيصطدم بتقلباتها والآخر شاب خبر الحياة بواقعية ففهم تقلباتها.. ولذلك ينقلب البطل الحالم على مثاليته ويستسلم للواقع فتنفرج أزمته ويستعيد توازنه.
وتتداخل الضمائر السردية بين التكلم والغياب والخطاب عبر تبادل الأدوار بين عدة سرّاد في قصة "خداع نظر" بحوارات خارجية وداخلية لتتضح حالة التشظي التي تكابدها الشخصية بسبب انغماسها في الحلم الذي استحوذ على كيانها حتى ما عاد من سبيل للفكاك من شراكه.
ويسهم الحلم في قصة "خطوة واحدة تكفي" في منح الشخصية الذكورية مديات من التأمل والتداعي الشعوري بمونولوجات داخلية ولا يكون الخلاص من هذا التأزم إلا بلحظة تتوهج فيها خطوة التخلص من الحلم بالرجوع إلى الواقع.
وتبنى قصة "شمعدان المطر" على شكل خطاب يوظف فيه الحلم في إطار شاعري وبتصورات تأملية. وباستعمال المفارقة تكون لحظة التوهج متحققة بانفراج أزمة الذات الساردة لتقر أن الابنة التي كانت تخاطبها ما هي إلا مجرد حلم لا غير "آه يا ابنتي المسكينة للأقدار سطوتها وسلطانها.. التي لا نملك إزاءها إلا الانصياع ولعل أكثرها رأفة أني لم أرزق بك".
وتتناوب الضمائر السردية في قصة "طريق قابيل" من ضمير الشخص الثالث إلى ضمير التكلم ثم إلى ضمير الخطاب، وتتداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر باستعمال تقانة الحوار الصامت. وتتوهج لحظة الانفراج في شكل حلمي ليتضح أن ثمة أملا..
ويتماهى الحلم في القصة النسوية "غثيان" بغرائبية الساردة فهي الغائبة/ الميتة والحاضرة/ الحية وما أزمتها إلا سوداوية واقعها الذي يشعرها بالغثيان المستديم والمزمن، ولذلك أنفت منه واعتزلته ولم يعد للمكان عندها أي وجود لتهيم في اللاوجود ولأنها في اللامكان لذلك ليس لأحد أن يراها أو يكلمها فتكابد التأزم وتفقد التوازن الذي ستستعيده بالمفارقة ليتضح أن غثياتها ما هو إلا موتها.
ويسمح توظيف الحلم في القصة النسوية "قنطرة الشوك" أن يجتمع الماضي بالحاضر وأن تتناوب ضمائر السرد وهي تحكي ذاكرة مدينة بغداد بين ماضيها وحاضرها، وفق بنية مسرحية قائمة على الحوارات الخارجية وتتحقق لحظة التوهج حين يصدم التاريخ الشخصية الساردة فتقرر العودة إلى الواقع "أغلقتُ الكتاب إذ اكتفيت بما رأيت وسمعت تاركة للتاريخ حرية كتابة وتكرار نفسه وذهبت للبحث بيد مثلوجة عن حبوب لعلاج الشقيقة والغثيان".
وتتناص قصة "الليلة الأولى بعد الألف" التي هي أطول قصص المجموعة كلها مع حكايات ألف ليلة وليلة وتتداخل الأزمنة، فهناك ليال مضت وأخرى أتت مكملة لها ويتقنع السارد المقتحم بقناع الشخصية المؤنثة/ شهرزاد التي أزمتها تكمن في صمتها ولا يكون الانفراج إلا بأن تقرر أن تهذي بالأحلام التي بها نهاية مسرور.
وفي هذا قلب لنسقية معلنة ترى أن شهريار هو رمز الجبروت والغطرسة والرعب وأنه السيد الذي يريد نفي الكيان الأنثوي، لكننا هنا نجد نسقا خفيا يتمثل في إحلال مسرور محل شهريار ليكون السياف هو الخطر الذي هدد شهرزاد ومن ورائها بنات جنسها..
وهكذا يتضح لنا أن الحلم ما كان له أن يغدو مسربا نفسيا يسهم في تصعيد الفني لولا أنه الأداة التي بها تصل الذات إلى الخلاص فتتجرد من واقعها وتعيش في مخيلتها هائمة في ملكوت روحها متخلصة من حياة رسمت لها أولا ومنتشية بحياة صنعتها بنفسها آخرا.