ادب وفن

لوركـا المتألق ابداً / طالب عبد الأمير

في الثامن من شهر آب هذا العام 2016، تكون قد مرت ثمانية عقود على مقتل شاعر الحرية فريدريكو غارسيا لوركا. وهذه المقالة كتبتها ونشرتها قبل 22 عاماً بمناسبة الذكرى المئوية الاولى لميلاد شاعر أسبانيا المتالق ابداً.
قبل ثمانية وخمسين عاما*، تمكن الفاشيون من تصفية جسد لوركا الطري، لكنهم لم يستطيعوا اخماد تألقه شاعرا وكاتبا دراميا فذا. فهو لايزال يعيش في قلوب الناس ليس في اسبانيا، بلده، وحدها، بل وفي مختلف انحاء العالم. فمازالت المسرحيات التي ألفها والقصائد التي سكب فيها عصارة احاسيسه وهي تغني الوطن حتى في احلك فتراته، تلهم متفرجي المسارح ومشاهدي شاشات السينما.
يعتبر فريدريكو غارسيا أحد أكثر كتاب اسبانيا العالميين تألقا، فقد ترجمت اعماله الى معظم لغات العالم. حيث مازالت "عرس الدم" و"بيت برناردشو" وغيرهما من روائع لوركا تمثل على معظم مسارح العالم وبلغات مختلفة، اذ يكتشف المرء فيها كل يوم سمات جديدة تدل على عظمة المبدع الشاب الذي اغرقه الفاشيون الفالانج بدمه وهو يهتف لاسبانيا"خضراء...احبك خضراء" .
تملك حياة لوركا واستشهاده عمق دلالة الانسان الذي استطاع ان يربط بين الابداع المادي والاحساس العميق بنبض الوطن الذي كان يئن من اعمال الفاشيست، اعداء الكلمة الصادقة الذين ارادوا بالقضاء على جسده ان يمزقوا وشائج هذه الرابطة التي تألقت حتى بعد استشهاده. وفي كتاب "حياة فريدريكا غارسيا لوركا" للمؤلف الايرلندي "ايان جبسون" المتخصص بالأدب الاسباني، نتلمس هذه الوشائج في عدد من النصوص الكثيرة المتناثرة التي كتبها لوركا في اواخر ايامه والتي لم تجد، اغلبها، طريقا للنشر في ذلك الوقت.
لقد زار المؤلف غرناطة، بلدة الشاعر عدة مرات، منها عام 1978، بعد ثلاثة اعوام من موت الديكتاتور الجنرال فرانكو الذي كان قد امر بمنع تداول اعمال لوركا والحديث عنه في المحافل الرسمية وغيرها، طيلة فترة حكم الفالانج. في اسبانيا التقى الكاتب الايرلندي ايان جبسون بأصدقاء لوركا واقربائه ومحبيه وجمع منهم معلومات حول تفاصيل حياة فريدريكو غارسيا لوركا وقام بجمع القصاصات و الرسائل التي كتبها. كما استقرأ وحلل الظروف التي تم فيها استشهاده في بداية الحرب الاهلية الاسبانية وهو في عامه السادس والستين. كل هذه المعلومات والرسائل والقصاصات التي خطها لوركا، مضيفا اليها الكتابات النقدية عن اعماله، ضمنها المؤلف في بيليوغرافيا تجاوزت السبعمائة صفحة.
كان لوركا ينتمي الى عائلة ليبرالية انخرطت في الكفاح من اجل تغيير اسبانيا في طريق ديمقراطي، فاختار هو طريق اليسار منذ البداية.
احب وطنه وسقط مضرجا بدمائه وهو يدافع عن الجمهورية الفتية التي حاول الفاشيون تقويضها فاصطدموا بمقاومة جماهيرية باسلة. وهذا ما جعله كبيرا في عيون شعبه، الذي لقبه بشاعر اسبانيا الاول. كان هو قريبا من الناس واذ ادرك ان الثقافة والمعرفة عاملان مهمان في تطور الشعب وتقدمه وان مهمة المثقف ان يقوم بدور المحفز، كان لوركا يطوف مدن اسبانيا واطرافها الملتهبة، يقرأ اشعاره وينظم الخطب الوطنية ويجمع الناس في عروض مسرحية ترفعهم الى مستوى الوعي بثقافتهم. وفي الوقت الذي كان لوركا يكبر في عيون الشعب كان يحصد غضب اعدائه الذين كانت ترهبهم كلماته العميقة وتخيفهم صلابة انتمائه إلى الشعب.
ان مقدرة لوركا الابداعية تكمن في مقدرته على تشكيل عالمه الفني والادبي وفق الموتيفات التي كان يستقرئها في تراث اسبانيا وفي موروثات الشعب، مما جعله قريبا من قارئه، حيث تكون لفعل القصيدة قوة ساحرة لم يستطع المرء تحديد مصدرها حتى بالنسبة للشاعر نفسه. فحول قصيدته الشهيرة " أغنية السائر في نومه " التي كتبها عام 1924 كتب لوركا يقول" لا احد يعرف ماذا يحدث، حتى انا. ان سحر القصيدة قوة غامضة حتى بالنسبة للشاعر مؤلفها ".
في كتابه، آنف الذكر، يشير جبسون الى العلاقة الوطيدة جداً التي ربطت بين لوركا وسلفادور دالي، ويتناول سفراته الى الولايات المتحدة بين عامي 1929- 1930 التي جددت فيه نشاطه الفني. كما ويستتبع المؤلف الظروف التي جرى فيها اعتقال لوركا ومن ثم تصفيته، انها الظروف التي كان فيها اليسار الاسباني، الذي انتمى إليه لوركا، مشتتاً، حيث تمكنت القوى الرجعية من الامساك بزمام الامور السياسية بعد ان انقضت على السلطة المنتخبة من قبل الشعب.
كان لوركا في بيته حينما اقتحم الفاشيون غرانادا وساقوه الى الموت، سوية مع آخرين في الثامن من آب عام 1936. ان اصابع الاتهام الدامية تشير صوب عصابة فرانكو المسؤولة عن تصفية جسد لوركا، كما يشير جبسون في كتابه، وهذا ما يعرفه الجميع. لكن قصائد لوركا وكتاباته الدرامية مازالت تسكن مشاعر الناس.