ادب وفن

أنستاس الكرمليّ: بِشارة نهضة وريادة تنوير / حسين محمد عجيل

في العام 1866 الذي شُيّدت فيه كنيسة اللاتين في الشورجة مقابل جامع الخلفاء، ولد غير بعيد عنها الطفل بطرس ميخائيل الماريني، وهو يحمل مزاجين تصارعا داخله طوال عقوده الثمانية؛ المزاج اللبنانيّ وهو أقرب إلى المرح والتفاؤل والألفة، يدعوه إلى المغامرة والسفر في المكان والزمان، وعدم التردد في ارتداء ثوب المتعلِّم، مع مراهنة على النجاح في أي منفى، وقد جاءه من أب لبنانيّ اسْتعرَقَ. ومزاج آخر من جينات أمّ بغداديّة، فيه انغمار في المكان وتوجّس من مغادرته، مع خيال واسع، وقلق، واندفاعة مكتومة للتغيير، تتبدى في صيغة تحدٍ دائم للقدرات الذاتية، ورغبة في الجدل بجديّة وصرامة مصحوبة بعاطفة شديدة، مع ميل لا ينجح في إخفائه أحياناً إلى الظهور بوقار معلِّم.
سيشتهر الطفل فيما بعد باسم الأب انستاس ماري الكرمليّ، وستظهر عليه أعراض تصارع المزاجين المتعارضين اللذين سيحاول جهده تكييفهما لكي ينجح، وسيكون نجاحه ظاهرة عراقية غير مسبوقة، كمثقف ريادي تنويري كبير، يقترن اسمه دائماً بنهضة البلاد ويقظتها الفكرية في هذا العصر، والتعريف بها من نواحٍ معرفية شتّى في سلسلة من مئات المقالات المعمّقة التي بدأ نشرها بغزارة منذ عام 1886 في أبرز المجلات والصحف العراقية والعربية والأجنبية طوال سبعة عقود، وبوضع أسس مناهج البحث الحديثة التي تعلمّها في أوربا موضع التطبيق في دراساته وأبحاثه وكتبه، وبالريادة في التأليف والترجمة من عدة لغات عن تاريخ البلاد وحضارتها، وبالدعوة إلى الحفاظ على موروثها الماديّ المتمثّل بالآثار والمباني واللقى والمخطوطات، وبدراسة الكتابات القديمة وتوثيق المخطوطات المدوّنة باللغة العربية وبغيرها من اللغات العراقية، وبالتحريّ عن دوارس الآثار من العهود المختلفة، وبتكليف الأدباء والكتّاب والصحفيين من الشباب بإجراء تحقيقات ميدانية عنها ونشرها مقرونة بأبحاث علمية رصينة، وبتسجيل اللغات واللهجات العراقية المختلفة ودراستها علمياً، فقد ظل الكرمليّ يدوّن حتى وفاته كل ما يعتقده مهما من حديث العراقيين من مختلف انتماءاتهم، ليوثق لهجاتهم وتراثهم الشعبي، وتعدى اهتمامه بغداد ليشمل المكونات العراقية في شمالي الوطن ووسطه وجنوبيه.
ريادة صحافة ولغة وتعريف بالمكوّنات
كافح الكرمليّ موظِّفا كل ملكاته ومستنفرا كلّ معارفه، واللغات المتعددة التي يجيدها من شرقية وغربية، من أجل الدفع بالدرس اللغوي الحديث إلى صدارة الاهتمام في البلاد، وإعادة إحياء اللغة العربية لتكون لغة حياة وعلم وحضارة كما كانت، وبذل من أجل ذلك وبلا كلل جهوداً كبيرة طوال عمره، أثمرت عن وضعه معجمه الكبير "المساعد" الذي يقع في خمسة مجلدات، استدرك فيها على المعاجم العربية ما فاتها ذكره من مواد لغوية، وهو ما زال مخطوطاً بغالبية مجلداته، فالجزآن اللذان نشرتهما وزارة الإعلام العراقية منه عامي 1972 و1976 لم يتجاوزا منتصف حرف الباء. وتوجب أهمية المعجم تشكيل لجنة علمية مؤهلة لنشره كاملاً بتحقيق علميّ، بعد أن أعلن مراراً عن محاولات لنشره لم تنجز هدفها.
وبالاطلاع على مسرد حياته الذي ينشر في مكان آخر ضمن هذا الملف، يمكن للقارئ معرفة الكيفية التي استثمر بها الكرمليّ سنيّ عمره في التأليف والكتابة، وحجم المسؤولية التي تقع على عاتق الباحثين العراقيين لنشر المخطوط منها، ودراستها، ومن بينه مجاميع هائلة من رسائله التي تبادلها مع أبرز الكتّاب والمفكرين والأدباء واللغويين العرب، ومع عدد كبير من المستشرقين طوال سبعة عقود، وكان من بين إسهاماتي في هذا الإطار نشر الرسائل الموجّهة إليه من الباحث والمفكر السوري محمد كرد علي مؤسس المجمع العملي العربي بدمشق، والتي صدرت عام 2000 في كتاب عن المجمع في الذكرى الثمانين لتأسيسه.
وكان الكرمليّ، فضلاً عن ذلك، رائداً صحفياً بارزاً، أصدر أو أدار عدداً من الصحف والمجلات الرائدة والمؤثرة في سياق التطور المفاجئ للبلاد بعد صدمة الاتصال بالغرب، ولا سيما مجلة "لغة العرب" التي أظهر فيها قدراته المعرفية الفذّة، وكشف فيها عن مدى مطاولته الظروف العصيبة التي مرّت به وبالعراق في نهاية العهد العثماني، وأدت إلى إيقاف صدور مجلته الاثيرة بعد قرار تعسّفي بنفيه من مدينته إلى قيصري بتركيا أقلّ من سنتين، وهو إجراء طال غيره من الكتّاب والمثقفين والناشطين سياسياً بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم إصراره على معاودة نشرها من جديد في عام 1926 لتستمر ست سنين أخرى.
يقول الشاعر والأديب والدبلوماسي كاظم الدجيلي في شهادة له عام 1928 حينما كان استاذ اللغة العربية في جامعة لندن، عن المجلة التي كان هو مدير تحريرها قبل الحرب العالمية الأولى "إن إصدار مجلة لغة العرب مما رفع ذكر العراقيين في الآداب العربية وأحيا ميت اسمهم فيها. قد لاقيت غير واحد من المستشرقين في أوربا فكان أول شيء منهم إعجابهم بمجلة لغة العرب والتحدث عن مزاياها وفوائدها الجمة. ورأيتهم يقدرون كل التقدير اختيار الأب للكلمات التي يعبر بها عن المسميات العلمية والفنية الحديثة".
وكتعبير عن فهمه دور الصحافة باعتبارها مرتكزاً أساسياً في بناء البلدان، كتب الكرمليّ في مقال له بمجلة "المسرة" اللبنانية سنة 1910 مقالة عن الصحافة في العراق، جاء فيها: "البلاد التي لا صحافة فيها.. لا صحة فيها"، وقد اختار مؤرخ الصحافة العربية، اللبناني الكونت فيليب دي طرازي هذه الكلمة لافتتاح كتابه المهم "تاريخ الصحافة العربية" من دون أن يذكر اسم قائلها، وهو ما عاتبه الكرمليّ عليه في مقالة له بمجلة "لغة العرب" سنة 1911 عرض فيها الكتاب، مشيدا بجهد مؤلفه. ومن جانبي كنتُ أحثُّ شخصياً بعض الأصدقاء المؤسسين للنقابة الوطنية للصحفيين العراقيين، على أن يتخذوا من هذه الكلمة التي قالها الرائد الكبير شعارا للنقابة أو ترويسة لكتب مخاطباتها مثلا، وكم سرّني أن أجدها معلقة في مكان بارز في القاعة التي تم بها إعلان تأسيس النقابة ببغداد في عام 2013.
وضمن اهتماماته المتنوّعة هذه، كان الكرمليّ من بين أوائل الكتاب العراقيين في العصر الحديث الذين تناولوا تاريخ المكوّنات العراقية الدينية والعرقية والقبلية، وتناول بالدرس أصول عقائدهم وأديانهم، ولا سيما ما لم تكن ثمة معلومات موثّقة عنها، كالإيزيدية التي ذُبح معتنقوها في قضاء سنجار وناحية زمار منذ سنتين، أو أجبروا على ترك دينهم وانتحال غيره، وسُبيت نساؤهم وأطفالهم وأبيدوا بأيدي مسوخ تنظيم داعش الإرهابي المنسلخ عن تنظيم القاعدة، في جريمة لا أبشع منها، فكتب الكرمليّ عن عادات هؤلاء العراقيين الأصلاء المسالمين وطقوسهم وكتبهم المقدسة. وله في ذلك أبحاث ومقالات عنهم وعن غيرهم نُشرت منذ نهاية القرن قبل الماضي في مجلات عربية شهيرة آنذاك، ثم في كُتب.
رافعة عملاقة للمواهب
لعل واحدةً من أهم خصال الكرمليّ أنه كان يأخذ بيد من يتوسّم فيهم النبوغ موفِّرا لهم ما يستطيع من دعم، لا يهمه في ذلك من اي دين أو قومية أو مذهب كانوا، ولذلك فليس غريبا أن يوصف بأنه كان بمثابة "مجمع علمي". ولنا أن نذكر قائمة تطول من الاسماء البارزة في ثقافتنا العراقية والعربية كان للكرمليّ دور مبكر في ترصين قاعدتهم المعرفية، وقد تتبعتُ صلاته بهم من خلال رسائله الشخصية الوافرة، ومنهم: الدكتور مصطفى جواد، ويعقوب سركيس، والأخوان الشبيبيان: محمد رضا ومحمد باقر، والأخوان عواد: كوركيس وميخائيل، وعباس العزاوي، ويوسف يعقوب مسكوني، وعلي الشرقي، وإبراهيم حلمي العمر، ومعروف جياووك، ومحمد مهدي البصير، وروفائيل بطي، والأخوان الدجيليان: كاظم وجواد، وسليمان الصائغ، ومهدي مقلد، ومير بصري، وأحمد حامد الصرّاف، وعبد اللطيف ثنيّان، وتتسع الأسماء لتشمل شخصيات ثقافية عربية قدّم لها الرعاية كعبد السلام محمد هارون، وأحمد محمد شاكر، ومحمد أسعد طلس، وإبراهيم الأبياري، وبشر فارس، وعز الدين التنوخي، وعبد الله مخلص، وعبد العزيز الرشيد، وروكس بن زائد العُزيزي.. وتتوسع القائمة لتشمل مستشرقين من دول عدة، لعل أبرزهم المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون الذي نشر الصديق الروائي علي بدر رسائله إلى الكرمليّ، بعد ترجمتها إلى العربية، في كتاب صدر عن دار الجمل عام 2005.
وممن أشاد بجهد الكرمليّ في رعايته، الكاتب العراقي رزوق عيسى، إذ قال في شهادة له عام 1928، يوم أقيمت حفلة تكريمية لأستاذه: "للأب أنستاس فضل لا ينكر في تثقيفي وتدريبي على الإنشاء فأنا تلميذه وخريجه وإقرارا بفضله العلمي والأدبي أهديته باكورة تآليفي، وهو معجم معربات عوام العراق لأنه أثر من آثاره اللغوية العديدة".
وفي شهادة أخرى، قال تلميذه الآخر كاظم الدجيلي في كلمة له بذلك الحفل أيضاً، بعث بها من لندن، حيث كان يدِّرس اللغة العربية في جامعتها: "إن للأب أنستاس فضلا على كثير من شبان بغداد بل العراق وكتابه الحاضرين، إذ درب الكثيرين منهم على معرفة الآداب العربية وحسن الإنشاء بها بل النبوغ فيها، وأنجى بصنعه الجميل نابغي الكتاب من الوقوع في أغلاط كانوا يجهلونها قبله. لو كان من المتعارف أو المستحسن أن يقص المرء سير الأحياء من غير متاقاة أو محاباة لقصصت عليكم من أخباره الطوال ما يستوعب كل وقتكم".
عود أبدي إلى كنيسة اللاتين
ومثلما شهدت دخيلة الكرمليّ صراعاً بين مزاجين، فإنه سيظلّ هنالك تلازم دائم بين ذاك الطفل الذي كانه وبين كنيسة اللاتين، ذلك المكان ذو الهالة الروحانية الواقع وسط بغداد التاريخية، مشكّلاً ظاهرة أخرى في حياته. فبرغم كثرة اسفاره وطول أمدها، وإغراءات الحياة في مدن أخرى أكثر حداثة وتقدما من بغداد، كبيروت والقاهرة، أو أشدّ توهجاً من هاتين العاصمتين، كروما وباريس وبروكسل.. ظلّ الكرمليّ مشدوداً إلى كنيسة اللاتين كسُرّة لبغداد التي احبّ.
كانت كنيسة اللاتين مقراً للآباء الكرمليين الذين درس طفلا في مدرستهم الواقعة ضمن المباني الملحقة بالكنيسة، وبعد تخرّجه، وظهور نبوغه في اللغة العربية، اختير مدرّساً للعربية فيها. وحين استوى شخصية ثقافية ومجتمعية في محيطه البغدادي لم يختر سواها مكاناً لحضور نخبة ذلك المجتمع المثقفة من كل المكوّنات، فضلاً عن زوار العاصمة من العرب والأجانب، في مجلسه الأدبي الذي كان يقام في أحد أفنيتها كلّ يوم جمعة حتى منتصف النهار. وعاش الكرمليّ في هذه المرحلة من حياته صراعاً آخر بين التزاماته كرجل دين، والتزاماته كمثقف تنويري في بلاد تحتاج ثقافياً وفكرياً إلى تحديث في كل مجال، فكان ينشر غالبية مقالاته بأسماء أخرى كي يقلل من آثار جانبية تؤثر عليه بصفته الدينية، ودخل في صراعات لم يكن يريدها أن تظهر إلى العلن، لكنها ظهرت أكثر من مرة برغم تكتّمه، أبرزها حين نفي عام 1924 إلى دير للكرمليين في حيفا بفلسطين بأمر من رؤسائه الدينيين بعد أن كشف تنكّره خلف اسماء مستعارة باحث لبناني معروف هو الأب لويس شيخو صاحب مجلة "المشرق" على خلفية مساجلات أدبية بينهما، ولم يعد من هذا النفي إلا بعد عام بجهد حثيث من شخصيات ثقافية وسياسية عربية كبيرة، حسمها تدخّل ملك العراق فيصل الأول شخصياً.
وفي الكنيسة أيضاً كان مقر "لغة العرب" مجلته الأكثر شهرة في مطالع نهضة العراق الحديثة، والتي ما زالت مرجعاً لا غنى عنه لدراسة الأدب والثقافة والتاريخ العراقي فضلا عن مباحث تعالج اللغة وتتناول الفلكلور والمخطوطات..، وأخيراً دُفن عند بابها الغربي بعد وفاته يوم 7 كانون الثاني من عام 1947، ليحتوي المكانُ الجسدَ في أبدية كان حريصاً أن تكون.
وراهناً إذ تنهي الكنيسة قرنا ونصف القرن من عمرها، تبدو فيه هرمةً وقد انبعجت قبّتها جراء موجة مطرية نهاية العام 2013 الذي بدأ فيها الاحتفال ببغداد عاصمة للثقافة العربية. بدت يومها وقد طفحت فيها المياه الجوفية، كأنها تنظر بحسرة إلى منارة سوق الغزل التاريخية بجامع الخلفاء المستحدث إزاءها، التي أنهت نحو ثمانية قرون واجهت فيها أعاصير المغول والزمان وفيضانات دجلة وسنابك الخيل المغيرة وضربات المنجنيقات والمدافع وطائرات الـ B2، وهي واقفةً بشموخ بغداديّ عجيب.
وبهذا تكون قد مرّت المدّة نفسها أيضاً على ولادة دفينها أنستاس الكرملي، الذي تهدد شاهدة قبره مياهٌ جوفية، ونافست التراب على الإحاطة بجثمانه.
وحين تعاني الكنيسة، وهي واحدة من أبرز معالم بغداد، بقاعها وجدرانها وسقوفها ورسوماتها وإيقوناتها وكل شبر فيها، فهذا أمرٌ يدعو إلى الأسى حقا، ويزداد طين الأسى بِلّةً حين تمرّ ذكرى ولادة عاشق بغداد، ومدوّن كتاب يعد من اوائل ما نشر من تواريخ لها في العصر الحديث، ومحرر أول مجلة فيها مطلع القرن الماضي التي كانت باسم "زُهيرة بغداد"، من دون أن تكون هنالك مظاهر احتفال واحتفاء كبيرة كما تفعل الأمم الحية لكبار قاماتها.
"نحن نطفئ النجوم"
في نهاية ربيع عام 2003 وبعد مدة قصيرة من الاحتلال الأمريكي، لكنها كانت كافية لتدمير كثير من المعالم الثقافية للمدينة المنكوبة، زرت ضمن مجموعة أصدقاء العلّامة الدكتور حسين علي محفوظ في بيته بالوزيرية للاطمئنان على صحته. ودار حديث لي طويل معه، نجحت في استدراجه من خلاله، ليكون أشبه بالحديث الصحفي، استذكر في جانب منه احتفالية أقامها في ثمانينيات القرن الماضي مجمع اللغة العربية في القاهرة، الذي كان عضواً فيه، بمناسبة وصول إنتاجه من المقالات إلى ألف مقالة. وكان مثار استغرابه أن جهة غير عراقية هي التي تهتم بإحصاء ما نشره وينشره من مقالات عبر عقود حياته كلّها وجمعها وترتيبها، ثم تفاجئه بتوجيه دعوة للاحتفاء به تبين أن أعضاء المجمع حاضرون كلهم فيها، مع شخصيات أدبية وفكرية مصرية شهيرة، فيرى في أرشيف المجمع ملفاً ضخماً يحتوي مقالاته كلها، ويعلمه رئيس المجمع أن هذا ديدن المجمع مع كلّ أعضائه، وأنه من النادرين الذين بلغوا هذا الإنجاز. وتضمن منهاج الاحتفاء زيارات لمعالم القاهرة وأهم مؤسساتها الثقافية والصحفية، كان من بينها زيارة لنجيب محفوظ في مكتبه بجريدة الأهرام، وكان ملفتا لانتباه الدكتور حسين علي محفوظ، أن الروائي الكبير اتخذ لنفسه مكاناً في الغرفة الكبيرة منزويا عن إطلالة مدهشة على النيل، وحين سأله عن سرّ ذلك، أجابه الروائي بتواضع، أنه لم يشأ أن يتخذ مكتب أستاذه الراحل توفيق الحكيم المطلّ على النهر، حين كان يشغل الغرفة نفسه قبله.. وقارن الدكتور حسين علي محفوظ ما لاقاه من مظاهر تكريم في القاهرة، ورأى أنها تفوق بكثير ما كانت تلاقيه جهوده البحثية في بلاده، مع أنه كان عضوا في المجمع العلمي العراقي وأكاديمياً مرموقاً في جامعة بغداد. وقال لي بنبرة حزن لا تخلو من سخرية، إنه لم يكن يزره في بيته لسنين سوى الموكلين بملء استمارات المعلومات، يبدؤون بالصفر في كل مرة، وكأنه شخص مجهول. وكانت الخلاصة التي خرج بها قوله "المصريون يتفنّنون في صنع النجوم، ونحن نتفنن في إطفائها"..
ويبدو أن تقليد مجمع اللغة العربية هذا في الاحتفاء بإنتاج أعضائه، لم يكن قديما، لأن الكرمليّ كان من أعضائه المؤسسين سنة 1934، ولم يُجرَ له احتفال مماثل ببلوغ مقالاته الألف، مع أن تلميذه كوركيس عواد، أحصى له في كتابه المهم "الأب أنستاس ماري الكرملي، حياته ومؤلفاته" الصادر ببغداد عام 1966، أكثر من ألف مقالة بكثير، فقد وصل مجموع ما أحصاه عواد من مقالات الكرمليّ وكتبه المطبوعة أو المخطوطة 1399 عنواناً، مع أنني شخصياً وجدت عددا من مقالات الكرمليّ المنشورة قبل تاريخ صدور كتابه فاتت على المرحوم عواد، كما ظهرت بعد صدور الكتاب العشرات من كتابات الكرمليّ التي نشرها باحثون ومحققون في دوريات وكتب، وهي تحتاج إلى كتاب توثيقي لها، يكمل ما بدأه كوركيس عواد ذلك المفهرس العظيم بكتابه الرائد.
لكن بغداد التي بدت بنخبها وتقاليد مؤسساتها الثقافية والإعلامية والصحفية غير مبالية بما يليق حيال جهود الدكتور محفوظ، وحيال سلفه العلّامة الكرمليّ اليوم في ذكرى ولادته المائة والخمسين، وكذلك حيال مناسبات استذكارية رمزية لرجالات أعلام بواكير نهضة البلاد في العصر الحديث، تحرص عليها المجتمعات الحية، وتجعلها مناسبات قومية احتفاءً بخالديها، بغداد نفسها عرفت في مطلع القرن الماضي حدثاً احتفائيا فريداً في تاريخها، كان محوره الأب أنستاس الكرملي.
يوبيل ذهبي، في زمن ذهبيّ
تنادت النخب الثقافية في بغداد عام 1928، في سابقة لم تعرفها من قبل عاصمة الدولة الجديدة المتطلعة إلى المستقبل برغم قيود المحتلين البريطانيين، وألّفت لجنة ضمّت عشر شخصيات أدبية وصحفية وثقافية معروفة، أحدهم، وهو يوسف أفندي غنيمة، كان يشغل منصب وزير المالية. ويبدو من المثير أن القائمة ضمّت في أعضائها على نحو واضح، تنويعات قومية ومناطقية ودينية ومجتمعية، فكان من بين أعضاء اللجنة عرب وكرد وسريان، ومسلمون ومسيحيون ويهود، وسنة وشيعة..الخ. وأظنه كان أمراً طبيعياً ولم يكن مقصوداً لذاته، فبغداد آنذاك كانت أكثر غنى وثراءً من ناحية التنوع الديموغرافي، وهو أمر يدلّ من جانب على ما للكرمليّ من صلات عميقة بهذه الشخصيات، ويكشف من جانب آخر مدى التقدير الكبير الذي تحملها له هذه الشخصيات التي كان من بينها: الباحث العراقي عبد اللطيف ثنيان، والباحث العراقي المعروف بتخصصه في البلدانيات يعقوب نعوم سركيس، والكاتب الأديب طه الراوي، والصحفي سليم حسون، والكاتب معروف جياووك النائب في البرلمان عن أربيل، والمحامي شاؤل أسود، والأديب المترجم أحمد حامد الصرّاف، والكاتب محمود الملاح. وقد انتخبوا بالإجماع الشاعر جميل صدقي الزهاويّ رئيسا للجنتهم، والصرّاف سكرتيراً لها، اللذين وجّهت باسميهما عشرات الدعوات إلى كبار الشخصيات الأدبية والفكرية في العراق والعالم العربي والعالم، ومحرري الصحف والمجلات المهمة، للحضور إلى الحفل يوم 16 أيلول 1928، الذي تأجّل إلى يوم 7 تشرين الأول من العام نفسه، وكان رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون "الذي انتحر بعد 13 شهرا من ذلك التاريخ احتجاجاً على سياسات الإنكليز التي قال إنها لا تلائم توجهاته لتحقيق أمانيّ شعبه" قرّر أن يعقد الحفل ببيته إكراماً للكرمليّ.
وجاء في تصدير بطاقة الدعوة التي كتبها باسم اللجنة سكرتيرها أحمد حامد الصرّاف يوم 14 حزيران 1928، ما يدلّ على تأثر بتقاليد ثقافية غربية راسخة، وفيها "اعتاد أبناء الغرب أن يكرموا عظماءهم من علماء وشعراء وأدباء، اعترافا بفضلهم وتقديرا لخدماتهم وأتعابهم الكثيرة. والصحف الغربية مشحونة بوصف الحفلات العظيمة التي يقيمها وطنيوهم لتبجيل رجالهم. وقد أنتجت هذه الفكرة ثمرة يانعة. فانتقلت إلى الديار الشرقية وطفق أبناؤها يشعرون بما لعظمائهم من حق عليهم".
ويضيف الصرّاف مثنياً على جهود الشخصية المكرّمة "ولما كان الأب أنستاس ماري الكرمليّ العربي أرومة ومحتدا ونشأة، قد خدم لغة الناطقين بالضاد خدمة تقارب نصف قرن، رأى فريق من المفكرين اعترافا بخدماته وتقديرا لها أن يكرموا ذاك الذي ابيضت لمّته وعارضاه في البحث والتنقيب عن كنوز اللغة".
الزهاوي والقنبلة اليابانية
أما كلمة بطاقة الدعوة التي كتبها الزهاويّ رئيس لجنة اليوبيل يوم 2 تموز سنة 1928، فقد جاءت على سمت كاتبها، المندفع بجرأة نادرة في شعره ونثره ومواقفه كلّها، للأخذ بكل جديد ومتقدم، وقد صدّرها بقوله: "الغرب قد سبق الشرق، والشرق قد انتبه وسار يحاول أن يلحق بالغرب. وقد مضى اليابان في سبيل التقدم كقنبلة خرجت من فم مدفع ضخم، وهبت العروبة من رقدتها. ونفضت عنها غبار الكسل، فأخذت تسرع الخطى إلى الأمام برغم الأثقال التي تثبطها. عالمة أن حياة الأمم في تقدمها، وأن الأمة التي لا حراك لها في هذا السياق العام تسحقها الأرجل. والأمل أن تكون في مقدمة الأمم الشرقية، فترجع تراث أجدادها من مجد ضائع وتزيد على ذلك المجد التليد مجدا طريفا فتثبت للملأ أنها تستحق الحياة وأنها سوف تحيا ثم تحيا". وليت الزهاويّ ومعه الكرمليّ يريان اليوم أي حال من التعصب والتخلّف انحدرت إليه بلادهما عبر عقود تالية، وما وصل إليه العرب جميعاً من بعد نحو تسعين عاماً على حماسة الزهاويّ هذه التي كان لها ما يبررها، ولم يكن لأخلافه ما يبرر انحدارهم المريع، وسقوط مقدرات بعض دولهم بأيدي مستبدين ومتطرفين وفاسدين.
ويضيف الزهاويّ "ولما كان العلامة الأب انستاس ماري الكرمليّ من الذين أنجبهم العراق نابغة في العلوم العربية، وقد خدم اللغة بصدق خمسين عاما خدمة لا يجحدها كل من طبعت نفسه على الإنصاف، وكان من تباشير كل نهضة صادقة أن تقدر الأمة جهود علمائها الفطاحل. رأى فضلاء العراق أن الواجب يدعوهم إلى تكريمه، اعترافا بفضله الجم".
داعيا "باسم اللغة العربية المحبوبة" رجال العلم والأدب في العراق وبقية الأقطار العربية من شعراء وعلماء وكتاب إلى الاشتراك في تكريم الأب "الذي نكرّم فيه العلم واللغة، والحضور إلى الحفل، أو إرسال ما تجود به قرائحهم من نظم أو نثر".
ويوم عقد الحفل، في الساعة الرابعة من عصر يوم الأحد الموافق 7 تشرين الأول 1928، برعاية السعدون، وإشراف وزير المعارف توفيق السويدي، وبحضور وزراء ونواب وشخصيات مجتمعية إلى جانب الأدباء والكتّاب والشعراء والصحفيين، ألقى الزهاويّ في مفتتحه كلمة ترحيبية بالحاضرين، تحدّث فيها عن أصداء الدعوات الموجّهة منه للمشاركة بالحفل، بقوله "أذعنا قبل أشهر نبأه فرددت صداه الصحف في الشرق والغرب، وتوالت من كبار المستشرقين في عواصم أوربا ومن المجمع العلمي العربي في دمشق ومن مصر وسورية وإيران رسائل وبرقيات وقصائد يهنئون بها العراق ويستدلون على رقي أهله بتقديرهم علماءهم مهما اختلفت أديانهم. ولا غرو فإن الأمة أخذت توسع خطاها لبلوغ شأن الذين سبقوهم في مضمار الحياة العلمية من الأمم الراقية، بعد أن فقهت ما للعلم من الشأن في ترقية المجتمع".
كما أنشد الزهاويّ في الحفل نفسه قصيدة طويلة، عدّد فيها مناقب الكرمليّ، مُكبِراً فيه علمه وجهاده الثقافي طوال خمسين عاما لترقية العراق وثقافته، واللغة العربية وعلومها. ومنها هذان البيتان المعبّران:
وأن أنستاساً هو السنــدُ الذي ... همى عِلمُه للظامئينَ كصَيِّبِ
ترهّبَ يرعى العلمَ خمسينَ حِجّةً...فأكبرْ بهِ مِن عالِمٍ مُترهِّبِ
في مديح التعايش الإيجابي
كان لعقد الحفل، بحدّ ذاته، وبكل ما فيه من تفاصيل، أكثر من دلالة على مستوى إدراك النخب الأدبية والعلمية والسياسية والمجتمعية معاً، لأهمية تنمية التعايش الإيجابي بين مكوّنات المجتمع العراقي المتعددة. هذا الإدراك كان واضحاً لدى المحتفين، ولقد عبّر عنه أكثر من شخصية، وكأن هذه النخب كانت على بيّنة من المصير الذي يتهدد البلاد الفتيّة بتجربتها السياسية والعريقة في تعايش مكوّناتها عبر العصور، في حال أخلّت بواجباتها إزاء هذا المؤشر الخطير، وهو الأمر الذي لم تدرك أهميته الاستثنائية للأسف، كثير من النخب الموازية لها في زمننا هذا بعد نحو تسعة عقود، ما أدى إلى تناحر طائفي دفع ملايين المواطنين من كل الانتماءات، فاتورته الباهظة، واصبح يهدد البلاد والمنطقة كلّها بالتقسيم والحروب الدينية والمذهبية.
وقال أحمد حامد الصرّاف في كلمة له مهمة في هذا الجانب "نكرم اليوم الأب أنستاس ماري الكرمليّ العربي محتداً وأرومة، ذلك الرجل الذي خدم لغة القرآن منذ حداثته حتى كسته الأعوام إكليلا من أكاليل الوقار وهو (الشيب) الذي يلوح في رأسه وفي عارضيه. واحتفال هذه الوجوه الشريفة بهذا الرجل العالم دليل على أن العراق الواثب الناهض السباق إلى كل مكرمة يقدر علماءه وعظماءه على اختلاف نحلهم وعقائدهم حق التقدير".