ادب وفن

في ذاكرة القاص أنور عبد العزيز .. عودة بورخس / جاسم عاصي

افترضت العنوان أعلاه بتأثير نص القاص (أنوّر عبد العزيز) المنشور في صحيفة الحدباء العدد (1444) في نيسان 2013. والمعنوّن (ما رآه بورخس) وبين العوّدة والرؤية مسافة قليلة، إذا ما قيست بالمعنى المراد توصيله جرّاء توظيف سيرة (بورخس) قصصياً. بمعنى عمل العنوان الأول الذي احتوى على نص مزدحم بالتناصات من أجل توضيح الصورة المخبأة في ذاكرة راوي الحكايات. ولوّضع ما يقابل شخصية (بورخس) الإبداعية التي تميّزت بالنشاط الذهني والمعرفة الشاملة والمؤثرة في انتاج نص مستند على نصوص أخرى.
يكون كتّابها على مسافات جغرافية متباعدة عن بعض وعن الكاتب أيضاً. ولكي يكون (عبد العزيز) أممياً بالمعرفة والإنسانية شحذ قلمه، دافعاً ذاكرته إلى أقصى الجغرافيات العراقية. فكانت صفحاته السردية والحكائية بمثابة حاوية طيبة الشكل وغزيرة المعنى. وبهذا اتسمت قامة السرد أو الروي في نص القاص مع قامة السارد والراوي في نصوص (بورخس) ومع مرويات معتقة من تاريخ المرويات المدوّنة منها (كتاب الليالي وكلية ودمنة) من هذا لا بد من الـتأكيد على انتقالات السارد من موضع إلى آخر ومن مكان إلى غيره، عابراً الأزمنة المتتالية والمتباعدة. مستلهماً التجربة، معبّراً عن العام والخاص في آن واحد فهو لم يقل مباشرة ما يريد من وجود مبررات المرويات في حكايته الأم. إلا أنه حقق مثل هذا التوازن في تعميق المعنى من جهة، والتوّفر على توافق الأجزاء من الحكايات في تبئير واحد يمكن الوقوف عنده كوحدة متكاملة الأجزاء من جهة أخرى. وبهذا عبّر عن الآتي بافتراض تأثير وحدات الماضي بكل ما تحمله من معان، يجدها السارد أكثر توافقاً، لتكون ظِل المعنى في كلا المتنين الزمنيين. لقد حصل نوع من الكولاج المتوافق بين ثيمة وأخرى. بين الصورة وقريناتها. بمعنى استثمرت المعاني المتعددة التي رشحتها الحكايات والمرويات كي تكون بيانات متوافقة في أسلوب رويها ونقدها للظواهر. فالمعرفة التي يتحلى به
(بورخس) والأخرى التي عند سارد النص، تجدان لهما حراكاً وموضعاً داخل النص الآخر. وهو من النوع الذي يتواءم مع التطلع في سطوح المرايا، فيستطلع بذلك الأشكال والصوّر، ويستظهر بعضها. هذه الصوّر قد تكون في الجانب المهم والحيوي غير متوافقة مع تطلعات (نرسيس) في صفحة الماء، فاعتبر صورته وجهاً آخر، بسبب عدم معرفته بتفاصيل وجهه كما تقول الأسطورة. فالسارد هنا يدرك ما يُستظهر في الآخر (المرآة) معتبراً إياه واحداً من الوجوه التي تشبهه تماماً. لكنه يعي صورته على مرآة الماء على العكس من الإله. لذا فالتطلع إلى الحقيقة من خلال صورة الواقع (المروية) تعني الوصول إلى قناعات راسخة عن خلل الواقع وفساده. من هذا نرى أن النص عبارة عن صورة ناقدة لما يجري. غير أن الكاتب ترّفع عن أن يكون نصه نوعاً من الإعلان الفج الذي يسمي الأشياء بأسمائها. وأنا على يقين من أن سرديات (أنوّر عبد العزيز) جميعها ــ وكما قرأتها ــ تستند على هذا المنهج الفني والموضوعي. فهو معنيّ بالحبكة القصصية والبناء المتماسك للنص، سواء كان هذا للحدث أو الشخصية. في نصوصه صرامة أسلوبية، لكنه في هذا النص استثمر الصرامة هذه في محاولة جديدة من خلال توزيعها على جسد النص. لأنه في الأساس يبني معماره على مصطلح التناص مع نصوص الآخرين. و(بورخس) واحداً منهم. فهو يستل المعاني من النصوص ويوزعها على معمار نصه بتوازن، يتخللها عوّدة إلى المعنى في التناص المركزي مع عوالم نصوص الكاتب الأرجنتيني. مؤكداً كثيراً على العمى والبصيرة. مسهباً من خلال حوارات الزوجة له، بما يكشف عن الرؤية الأساسية لنظرة (بورخس) التي هي نظرة (أنوّر) لكل تلك الفعاليات المعرفية التي تتركز في الكتابة كعلامة واضحة وعميقة. إذاً هناك صراع عام يُشير إليه القاص من خلال الصراع الثنائي بين الزوجة والزوّج. وهو صراع بين المعرفة والجهل، والذي يُفضي إلى ما يدور في الحياة. معتبراً إياه دون البوح به؛ مركز الوجود الحالي، وشكل العلاقة بين المثقف والسلطة المتمثلة في السياسي. وهذا المعنى يمكن الإمساك به استنتاجاً، وليس تلقياً مباشراً، كما وأن تعدد الثيمات المتناص معها ما يُشير إلى ذلك، بسبب كوّنها من تلك التي تؤّشر المعرفة المغيّبة إلى جانب تاريخها. فمثلاً حين يتعامل مع الأسطورة وثوابتها وشواخصها يذهب إلى الجنوب، وينقّب عن مواطنها، معتبراً أنها تمثل صفحات من التاريخ الذي ابتكره عقل الإنسان تلبية لحاجاته، ومن أجل أن يخلق صيرورة بقائه. بمعنى عمّر الوجود باجتراح المفاهيم والرؤى الكفيلة بتحقيق توازن الحياة. كما فعل ابن الجنوب في مسطحات المياه، وأخذ من درس إيشان(حفيظ) مفهوما خرافيا تحوّل وفق الزمن والمعتقد إلى سياق معرفي. وبالتداول على يد القاص الجنوبي إلى مفهوم أسطوري ذي دلالة فكرية. أي (أسطرت) غير المؤسطَر. كذلك تعامل مع مكوّن الصحراء وكيفية تعامل ابنها البار الطارقي في خلق أسطورته الصحراوية. فالكاتب هكذا يتعامل مع الظواهر التاريخية ذات التواصل الانتاجي للنص الجديد.كما فعل في نص (ما رآه بورخس ) أي أنه أنتج نصاً من نصوص، مستلاً مجموع المعاني الدالة عن ظواهر يعيشها. وبهذا نكون أمام تحليلات غير معلنة عن التاريخ دون الخوض في تفاصيل العلة والمعلول. لأن الكاتب معني بتأسيس أسطورته من خلال هذا النص. إنه معنيّ بما تنتجه المعرفة من هؤلاء الذين قرأ لهم، أو اولئك المجهولون. فهو قد تمعّن في أطروحاتهم، فكانت له مناراً لاستجلاء الحقيقة , وهو وإن بدأ بكتاب الليالي. إلا أنه لم ينته في تناصّه مع نصوصه بما اصطلح عليه التناص الذاتي. لأنه فتح آفاقاً واسعة مع وأمام (بورخس) المفترض الحضور، باتباع سيرته المعرفية الذاتية، بالرغم من مكابدته مع العمى. فلديه ما يخالف رأي الآخر. فالعمى يعني الابتعاد عن عشق القراءة ورؤية الكتاب حتى لو وصلت حد الجنون. لأن القراءة في مفهوم (بورخس) هي حضور وغياب. أي حضور المعرفة التي توّسع المدارك، وتُفضي إلى معرفة الموضع الذي عليه الإنسان عبر فهم حركة الحياة. والغياب يعني طرد كل ما له علاقة بتأخير وتيرة التصاعد المعرفي. ويعني به الجهل والإعراض عن المعرفة وتسطيح الحياة بالسهل من الرؤى للأشياء والظواهر. فهو إلى جانب إشادته براوي ومنضّد حكايات كتاب الليالي، وكيفية جعل الحكاية نمطا يكسر العوّق المعرفي والأخلاقي لدى الذكورة القامعة لبنى جنسها المنتج ــ الأنوثة ــ فالحكاية لها سلطة كبيرة كما كان في مرويات كتاب الليالي. كما وأنه إلى جانب هذا عمد إلى أن يكشف عن حضارة جنوبية، حضارة مائية، أشار إلى الكاتب الجنوبي وولعه بالأساطير المائية التي تنتمي إلى عصر سوّمر، ويأخذ واحدة من تلك المرويات ليؤكد على تحوّلها إلى أسطورة وهي خرافة (حفيظ)، متسللاً كسارد إلى سحر الجنوب المائي ومعانيه الساحرة والمبهجة والمثيرة. ثم يعرّج إلى سحر الجبل والبيئة الصخرية في نينوى، متطلعاً إلى حضارة آشور وقدرتها على تأسيس نمط خاص من الحضارة. متحوّلاً إلى الثيمات المتوزعة والدالّة من أساطير مدينة (أقليعات) نينوى، فارشاً بساط أساطيرها. هذه الجوّلات المعرفية، لم يكن حضورها في النص من أجل أن يكون النص مستنداً إلى المعرفة الشاملة. وبهذا يمكن القوّل أنه شيّد نصه على أجساد نصوص الآخرين. بل كانت له وظيفتين الأولى : ارسال رسالة معرفية إلى سيّد الحكاية (بورخس) الذي غاب عنه سحر مثل هذا الواقع، ففتح له كتابه.، وعزى التقصير كوّنه منوط بالكاتب الذي أنتجته البيئات تلك. والوظيفة الثانية : هي بمثابة نداء إلى منتجي النصوص السردية للاهتمام بمحليتهم. بمعنى تاريخهم القريب والبعيد، وحصراً الأسطوري منه. لكي يكون ــ برأي القاص ــ عيّنة للآخرين. لاسيّما من وجه له الخطاب هذا. ونعني به (بورخس) فهو هنا خطاب ذو منحيين،وإن كان في الأول يُشيد بما أنتجه الكُتّاب في البيئات المختلفة، إلا أنه وجد في هذا نوع من التقصير بقياس عدم معرفة الأرجنتيني إلا بحكايات
(ألف ليلة وليلة) فكانت له المادّة الغزيرة التي أعانت نصه القصصي على النهوض ومعظم نصوصه السردية. ثم أفادته في كشف وممارسة الكتابة بنمط الحكاية التي غدت بفعل التكرار دُربة وحرفة سردية لقلمه. ومن جهة أهّم في تمثل هذه الممارسة المعرفية في كوّنها وسّعت من رؤيته. لأنه أساساً اعتمد على مجموعة رؤى عند راوية الحكايات (شهرزاد) في الكتاب. وهي بمجموعها رؤى مغيّرة للنمط، وموقفة للسلوك الوحشي الذي اتبعته سلطة الذكورة في التاريخ متمثلة في أفعال (شهريار) لما تحمله من عُقد أفقدت الرجل توازنه منذ أن قتل الأخ أخاه لا رضاء الرب عبر نوع التقدمات الزراعية والرعوية. وكانت الأنثى الفاصل الذي خلق المبرر لذلك الصراع الذي تسلل إلى التاريخ وصعّد من وتيرة القتل. لعل كل القتلات ــ إن جاز التعبير ـللمفردة ــ هذه من التعبير عما نعنيه بتواصل فعل القتل المستمر في التاريخ ؛ أسبابه ونتائجه. ولعل الحروب بشتى صوّرها كانت منتجة لتراكم تلك العُقد في التاريخ. وما زالت مستفحلة في راهن عصرنا المتحضر !!
إن قصة (ما رآه بورخس) للقاص (أنوّر عبد العزيز) غزيرة بما كشفت عنه من معارف من جهة كما أنها تعاملت مع مصطلح التناص برؤية جديدة وشاملة،استثمرت سيرة الكاتب الأرجنتيني (لويس خورخي يورخس) وعماه المُبصر،مقدماً فرشة معرفية شاملة لما أنتجته البيئات العراقية من خلال منتجيها المعاصرين، مؤكداً على الكيفية في استثمارهم لتاريخهم الأسطوري، ليكون وما يريده السارد أن يكون لمجموعة هي عبارة عن عيّنات لكاتب شديد الاهتمام بالسحر الذي تخلفه الحكايات والمرويات الشرقية حصراً.