ادب وفن

نثار الحياة اليومية في النص الادبي / ياسين النصير

سر بقاء الاعمال الكبيرة هو استلهامها كل ما يؤلف مستوى دون النص .. وهي قضية اهملها النقد الادبي وقد عالجنا في مقال سابق دور “اللا أدبي في بناء النص الادبي” وخلصنا إلى القول إن اللا أدبي يلعب دورا فاعلا في صياغة النص الادبي من خلال ما يمتلكه من معلومات تتصل بالميثولوجيا وبالمكونات الأولية للمعرفة. وضربت امثلة منها إن روائيا يكتب عن المدينة ولا يعرف كيف تكون ومتى تأسست مفرداتها الاقتصادية الديموغرافية وأسواقها وطبيعتها الجغرافية وعادات الناس فيها وتكوينها الاسري والعملي ومساحتها، وتنوع سكانها، وما هي معارفها واثارها، وطرقها الرئيسة ومكوناتها الإدارية، ونوع الزراعة والتشكيلات الاجتماعية، وتراثها ومتى نشأت وما هو دورها في المدن الأخرى. لا يصح إن يكون روائيًا بل شيء آخر. وكانت تلك المعالجة مبنية على مستوى البناء الفكري للنص فقط في حين إن المستوى الفني للنص الادبي أي الشكل لا يمكننا إن نعول على اللا أدبي في تكوينه دائمًا وان لم نلغه من تصورنا، لان الشكل الفني للنص هو نتاج الخبرة الجماعية وهو من أكثر المكونات ثباتا، لاستعانته بالأشكال المعرفية المؤسسة على الخبرة الجماعية السابقة.. ففي الرواية الغرائبية لا يمكن أن يكون الشكل الفني فيها على غرار رواية القرن التاسع عشر، كما هي عند دستوفسكي وتولستوي، فالخبرة التي فجرتها الحياة اليومية ومألوفية الاشياء، ودورها في تشكيل الوعي الممارس اليومي، ولدت اشكالا تعبيرية فرضت رؤيتها على السرد الجديد، فغيرت من مكوناته لينزل السرد من علاقات الاسر والافكار الاجتماعية والتاريخية الكبيرة إلى مستوى العلاقات اليومية للناس، وهم يمارسون حياتهم الاعتيادية ضمن طبيعة المكان والزمان وطرق الحوار وتنوع الاحداث في المدينة وفي بيوتنا وازقتنا، فظهرت أشكال فنية شعبية بدلا من الأشكال التي عولجت فيها الصراعات الايديولوجية الكبيرة، إن تشكيلات حياة الناس اليومية واهواءهم ورغباتهم البسيطة .. الخ ، أكثر تعقيدا من تشكيلات الصراعات الكبيرة، هنا يتغلغل السرد في التفاصيل الصغيرة، وهناك يباعد بين حياة الشخصيات واهتماماتهم، كذلك لا يمكننا إن نعول ايضا على قراءتنا القصة والشعر والمقالة والمسرحية ثم تكتب على منوالها نصا حديثا، القراءة الذكية تبعد النص الحديث عن مرجعياته، فالمسافة بعيدة جدا بين نصين ادبيين ينتميان إلى نوع واحد، اذ لاتشبه رواية اخرى ولا قصيدة اخرى حتى الكاتب لا يشبه نفسه في أعماله، فكيف اذا كتبنا على منوال ما نقرأ ؟
مستوى ما دون النص
واولى النقاط التي اغفلها النقد الادبي بكل تياراته هي دور المتروك الحياتي في النص الادبي بنية ومحتوى، ونعني بالمتروك هو نثار الحياة اليومية الذي يشكل نسيجنا الحياتي من اشياء وحاجات وممارسات وأفكار ولغة ورؤية ومشاهدات وعيش... الخ ، وهو ما يؤلفنا ويحيط بنا ويمارس حضوره الكبير علينا كما لو أنَّه الجزء الأهم من تكوين كرتنا الارضية، حيث يدخل في كل التفاصيل، ومن ثم يفرز أشكالا عيانية وفكرية مهمة منها المألوف أي الاشياء والممارسات التي رافقتنا زمنا طويلا فأصبحت نسيجا يحيط بنا. ومنها الثانوي مثل الهامش في النص التراثي القديم أو ما يقوله قارئ على مؤلف قديم ما يمكن الاستغناء عنه وتبديله باخر أو ذلك الاحتياطي الذي يختزن شيئا من حقائق الحياة وهو في الفكر الفئة التي لا ترتبط بالتطور ولكن التطور لا يستغني عنها في مسيرته فيهدم جزءا منها ويبقى على ما يصلح للغد ومنها النادر مثل إن نرى ما لا نتوقعه فنكتشف انه معنا أو بالقرب منا ولكنه غير متكرر ووجوده كامن في اعماق المألوف وغير المألوف ومنها العادي وهو الذي بامكانه إن يستوعب ما يستجد في حياتنا لكنه لا يستطيع النهوض بما يتلاءم وتطور الحياة، يجعلنا المتروك كأننا نسبح يوميا في بحر لغات مختلفة هي الافعال التي يمارسها هذا البناء علينا ويمثل هذه المساحة من التأمل النقدي التي لم نجد لها اهتماما في نظريات النقد الادبي يؤلف مستوى ما دون النص مادته التي تفرز اشكالا تعبيرية مهمة .
النقطة الثانية من مستوى ما دون النص هي ان المتشكلة قبل الوعي بها أي بدايات تكوين الاشياء إن هذه البنى تتصل بما هو طبيعي وبما هو قبل التاريخي وبما هو ميثولوجي وبما هو من العناصر الاربعة بل كل ما تفرع منها قبل مرحلة العلم والتعامل المختبري معها هذه البنى المتشكلة قبل الوعي بها هي لوحدها قادرة على تكوين اشكال فنية تمتلك من المتانة المعرفية ما يمنح أي كاتب جاد اسلوبا يعمق به رؤيته الفنية الخاصة وبذلك نجد الروايات والقصائد التي تتعامل مع مثل هذه البنى تمتلك روحا شاملة في الرؤية هذا ما فعله سرفانتس في دون كيخوته .
وما فعله ماركيز في " مائة عام من العزلة" وما تولده قراءة " ملحمة جلجامش" وملحمتا " الاوديسة والالياذة" وما يقوله شكسبير عن طبائع الشر والارض وما قاله هيرمان ميلفل في موبي ديك عن البحر والفلك والحيان والمياه هذه البنى الما قبل تشكل ثقافة قارة دائمة العطاء ومن القوة بحيث لا يمكن محوها من الذاكرة الجمعية وسر بقائها هذا الزمن الطويل هو احتفاظها ببناء فني متماسك يستطيع إن يولد في كل ممارسة له شكلا فنيا جديدا .
النقطة الثالثة في مستوى ما دون النص هي الحلية الشعبية وليس المحلية المقتصرة على فئة محددة أو بقعة ضيقة اذ لا بد من البحث عما هو شامل في المحليات الشعبية كلها بحيث يحتوي النص على بنية فنية مقبولة من قبل شعوب واقوام لا تتكلم لغة واحدة ولا تنتمي إلى عرق واحد ولا تعيش في بلد واحد فكيف اذا تعامل الكاتب مع محلية شعب واحد يتكون من عدة قوميات ولغات ؟ هذه المحليات الشعبية تمتلك رؤى اسلوبية غاية في الشيوع والخصوصية معا بامكانها إن تمنح النص الادبي مستوى من التعامل مع مناطق غير معروفة مثل تلك التي تختزنها الاعياد والكرنفالات المحلية التي تعطينا تصورا شعبيا بمعنى الاعياد ومن داخل هذه الخصوصية يستطيع الكاتب أن يشذب الاجزاء الخاصة بالفئة وبالمناسبة ويستل منها ما هو شعبي عام إن مهمة الكاتب هي مهمة المنقب في مناجم الذهب ولكن بمادة بشرية وما يحيط بها.