ادب وفن

من مظفر الى اضواء الاصوات الشابة / رياض النعماني

لم تكن جملة "عيونك زرازير البراري" الشعرية الشهيرة بكل ما تنطوي عليه من قلق حار لم يتوقف اندلاعه وتأججه ..، واندلاعه ، الا تعبير عن العالم الداخلي الملتهب ، والموار بعناصر توتره الدائمة، التي تعصف بالشاعر مظفر النواب.
انه ومن شدة قلقه كان كالكون الذي يتمدد بستمرار، وتفصح عنه تطورات علوم الكون الحديثة، التي تتحدث عن اننا في المستقبل وبعد تطور نظربات الفيزياء الكونية، يمكننا ان نكتشف ان الحركة .. يمكن ان لا تنحصر في اتجاه واحد .. بل في عدة اتجاهات في ذات الوقت (امام، وراء، وجوانب) فاتحة امامنا امكانية رؤية المستقبل ومعرفته.
هكذا هي حركة خطوط مظفر الداخلية التي غذتها قدرته على الرسم. والى جانب تكوينه الشعري المرهف الخاص - الذي حول لب مظفر المتوثب الى ما بشبه طير (الزرزور) قد يكون للظروف السياسية التي عاشها مظفر.. وما يحمله من تراث عربي رسمي (سياسة القتل، والتنكيل، والملاحقة، والوقيعة).
دور في نضج هذا القلق ، والشك في جملة من المعطيات والتعبيرات الحياتية العاصفة. فلم تكن نظرته تثبت على شىء او برهة معينين .. انها تتحرك وتتقلب بأستمرار ، وتفحص ، وتسأل ، وتشك في نتائج كل شىء .
كان يقول في جلساتنا الخاصة :
انا أخاف ان تكون الذائقة الشعرية لدى الناس في العراق قد تخلفت ، لان هناك نوعا من الشعر المتخلف تتكرس قيمه العشائرية يوما بعد يوم ..
لكنه لم يتوقع ، او يرى الى توقعه وقد اندفع بعيدا وعميقا، دون ان يلتفت الى قاع هاوية سحيقة تاركا خوف مظفر عند حدود الرجاء والامل.. وها هو الشعر العامي العراقي باستثناءات قليلة يتخبط في رثاثة لم تولي اي اهتمام لاهمية الثقافة في ابداع الشعر الجديد.
ما يمنح الامل قنديلا كبيرا هو وجود اصوات شعرية شابة بدأت تنتبه الى ضرورة الثقافة الحاسمة في تكوين الشاعر وقصيدته. أن ما نسمعه من صراخ مقزز على المنابر ومن رميم وركام كتابي، يثير الحزن والرثاء.. انه استعادة بائسة لمفاهيم وجمل مدرسية مثل 1+1= 2
(اذا ما تجي الريح ..ما توكع النخله)
لم يكن هذا تعبيرا عفويا عن تردي ظروف البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، بل شغلا مقصودا من قبل السلطات التي تعاقبت - منذ تدخل صدام حسين الشخصي - لتشويه تاريخية وجمالية الشعر العامي العراقي ، حتى هذه السلطة التي ترى في الشعر والشعراء عدوا مصبريا
(يتبعهم الغاوون) ..
ذلك ان الشعر بالنسبة لهذه الانظمة يظل دائما يشعل نار الوعي والتطور ويغذي محاولات تجاوز قيم التخلف والماضي الميت والاتجاه الاكيد نحو المستقبل .لكن ما تقوله التجارب الانسانبة وما تقوله حقائق الابداع غير ما تقوله السلطات وتروج له .
صحيح ان اتجاه حركة الشعر والتاريخ والاحداث ليس خطا مستقيما يذهب الى امام دائما بل يمكن ان يكون الى الخلف .. ولكن لهذه الخطوط - السيرورة اشتعالاتها ، واضواءها الخاصة التي تظل في عناد شرس وصراع ملتهب مع عناصر ثبات الحياة وتراجعها التي تقاتل كل متحول ومتطور في التاريخ .
صحيح ..ان القصيدة العامية العراقية كالواقع العراقي تعيش - على المستوى الجمالي والفني - انتكاسا واندحارا كارثيا تكرسه وتشيعه فضائيات وصحف وسياسة اعلام سلطة طائفية متخلفة.. فكانت كما نشهد موجه وهوجه امية وفوضى شعرية هابطة، تنكرت لكل المنجز الجمالي الاستثنائي الباذخ لمظفر النواب.. ومن مشى في درب الحداثة الخلاق .. اذكر على سبيل المثال لا الحصر: طارق ياسين وعلي الشباني وكاظم الركابي وابو سرحان وحامد العبيدي وكريم محمد.
لكن لنصرّ وننقب ونتشبث بقوة استثنائية بالمستقبل المنبعث من اضواء الاصوات الشابة، لانها هي من سيجدد دماء القصيدة العامية العراقية .. ولانها هي كل ما تبقى من أمل في نهوض هذه القصيدة من جديد .