ادب وفن

الادب والناس :دراسة في الهواية والاحساس / عبدالبطاط

صدر للباحث الفولكلوري المرحوم عبد الاخوة مسلم التميمي دراسة قيمة تناولت بعض نصوص فنون الادب الشعبي ذات الطابع الفولكلوري بعنوان (الادب والناس) من منشورات دار الشرارة، غلاف الكتاب رسم الفنان فيصل لعيبي. والكتاب بحجم متوسط عدد صفحاته (100) ورقة. والاديب عبد الواحد من مواليد الشامية (الديوانية) سجن في خمسينيات القرن الماضي في سجن نقرة السلمان والحلة مع قامات يفخر بها العراق مثل (ألفريد سمعان، مظفر النواب، رحيم عجينة، ناظم السماوي) وهو كاتب ومحلل سياسي له على المواقع ما يقارب المئة وثمانين مقالاً والكثير عن ا?اقتصاد والعولمة، يكتب الشعر الشعبي بكل فنونه.. توفي في غربته عام 2008 إثر سكتة قلبية ألمت به.اهدي هذه الدراسة القيمة الى (كتلة الحنان الدافئة الى منطق الرحمة الذي ابتدأ مع ظهور الانسانية واستمر، الى من اجهشت بكاء كي لا اغيب.. وتضورت جوعاً كي اشبع.. الى زوجتي هذه الانسانة التي الهمتني الصبر بعد رحيل والدتي وامتصت غضبي واسدلت بوفائها على ما ظهر من عيوبي فصارت الزوجة والام، والى ابنائي الاعزاء).
مقدمة
يقول عنه الاديب (سعدي عبدالرزاق، دفتر) هذا رجل أولع بالاقتصاد وعشق الارقام وقرر ان الحياة تنمو وتزدهر في ظلالهما وحسب ثم اكتشف مبكراً ان الادب هو المعبر عن كل الصراعات الاقتصادية والنزاع الدائر بين الارقام وعلامات الجمع والطرح والضرب والقسمة وما ينتج عنها من مشاكل على سطح الارض وما تجره من ويلات على فئات من البشر وما تفرزه من افكار هي عنوان الانسان وهويته التي يرتفع بها عن باقي مخلوقات الله.
ويضيف قائلاً «لقد حاول الرجل بكل ما أوتي من منظور اقتصادي متجانس بحسه المرهف واسلوبه الشائق ان ينقل الينا هموم الناس من خلال تصوراته الاقتصادية العلمية فجاء باجمل ما وجد من اضمامات ادبية شعبية او فصيحة ليدلل ان الانسان اسير حاجاته.. يصرخ اذا جاع ويغني اذا شبع.
- توطئة –
ان كتاب (الادب والناس) يقول عنه المؤلف: فهو بالقدر الذي دفعتني الرغبة الملحة لتثبيت بعض النصوص الادبية ذات الطابع الفولكلوري والحفاظ عليها من الانقراض او الاهمال كونها مرتبطة بحياة بعض المعمرين ممن يخزنونها في ذاكرتهم.. ولقد توخيت الامانة التاريخية والانصاف وبالقدر المستطاع.
كذلك دفعتني الحاجة لاقتناص بعض النصوص الشعرية وتدوين حكايات وامثال بسيطة من عالم التراث الواسع والعميق ووضعت مقارنات ذات طابع توافقي من هذا الفولكلور مع الشعر الفصيح ووضعت من هذا التجانس الجديد مادة لابواب ثلاثة.. قد تتداخل وتتمازج مع بعضها لكونها تعبر عن معاناة واحدة اداتها الانسان الذي يشكل فيها المنبع والمصب معاً.
وفي نهاية توطئته قال: اود القول ان البحث الوارد في الكتاب اقل بكثير مما عاناه الانسان.. لا يرتقي اليه الا حبي وعشقي الكبيرين والتطلع لكتابته بشكل اوسع واعمق مع ايماني بالمثل القائل (القليل المستمر يملأ محفظة النقود).
الادب والصراع الاجتماعي
في هذا الفصل يتطرق الباحث الى ان لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية اعراف وتقاليد خاصة به يتميز بها ويعتز بتسلسلها وهذه الاعراف والتقاليد تشكل بمرور الزمن موروثه وقيمه التي يتفاخر بها امام المجتمعات البشرية الاخرى التي تتماثل في بنيتها وتتباهى في طريقة وطبيعة نموها وتطورها.
ويضيف قائلاً: ان هذه التقاليد تشكل ثقلاً لا يمكن التقليل من شأنه وقوة تأثيره الروحي الذي يستلمه المجتمع وبالتالي ينتمي اليه حتى يصل في هذا الانتماء احياناً الى الحد الذي يرتضيه وهو العائق الكبير امام التيارات المجددة وان كانت هذه التيارات على قدر كبير من التكوين الصادق والايجابي باقترابها من الضرورة الموضوعية التي تقتضيها الحياة وتتشرف ابعاد مستقبلها.
وفي موضوع آخر يقول: وكنتيجة طبيعية للتفاعل الاجتماعي التي تمخضت عنه مجموعة من اللهجمات التي تختلف عن بعضها البعض في الاعراف والتقاليد الى حد ما فقد شكلت واقعاً اجتماعياً جديداً وجدت من الانسب دراسته وبحدود الامكانيات المتاحة كواقع موضوعي وضرورة الوقوف عنده وتشخيصه وتحديد مراميه واغراضه كونه استحال الى كيان يمثل ثقلاً فلكلورياً ثرياً ما زال يصطدم بجديد الحياة وما زالت الحياة الجديدة تخشى سطوته المتخلفة وما زال الخلط بين حلوه ومره سيان عند بعض مريدي الادب والفن من المحسوبين عليهما لم يواكبوا جدلية الحياة وب?لتالي وضعوا العصا في عجلة التطور فاساؤوا بذلك الى منطق النمو غير عابئين بسنن التطور ومصداقية الاستمرار وواقع التغيير.
التجليبة والشاعر بن الصمة
من خلال دراسة مقارنة يذكر قصيدة التجليبة التي افصح فيها الشاعر الشعبي عن همومه وارقه مع النجوم وهو المعذب بعدّها وتعدادها
لجلبنك يليلي والوياي وياي
على الوادي بچيت وحرميت الماي
اما الشاعر ابن الصمة وهو يرثي اخاه:
وهل انا الا من غوية ان غوت
غويت وان ترشد غزية ارشد
ويسرد لنا في هذا الفصل بمقارناته الممتعة (33) حاله يعطيها كل الايجابيات والسلبيات صعوداً الى اللانهاية السرمدية التي تشكل بوصلة رقيه واستشراقه.
الادب والصراع السياسي
في هذا الفصل يذكر لنا: ان الادب الشعبي واكب حركة الجماهير واستخدم المفردة الشعبية كاداة فورية ملهمة في تأجيج حماس الناس وشد بعضهم البعض وبالتالي الى قضيتهم فكانت الهوسة الشعبية الثورية ذات الاثر الفعال والمؤثر في دفعهم الى ميدان المعارك الثورية ضد الانكليز ومن كان قبلهم إبان الفترة العثمانية وبالقدر الذي كانت تنتهض للشاعر الفصيح وتحميه.. تأهبت الجماهير نفسها لان ترفع الشاعر الشعبي وترى فيه خير معبر عن طموحها ومعاناتها في الفترة من 1900- الى فترة الستينيات، هذه الفترة لا الحصر امتازت بنمط اقتصادي ذي طبيعة ?قطاعية او شبه اقطاعية. كما تعارف الاقتصاديون على تسميتها كما انها خليط من انماط انتاجية اخرى منها الرعوية والبدوية والتجارية وغيرها التي تركت بصماتها على الادب الشعبي والفصيح معاً ويضيف قائلاً:
يبقى الشعر يدور في فلك السياسة وتبقى السياسة تلهم الشعراء فالتفاعل بينهما لا ينفصل طالما بقيت معارك الشعوب مشتعلة اوارها تبقى القوة كل القوة في الناس ويبقى الشعر بعاميته وفصيحه يتبارى مع الاحداث ولا تقتصر جودة شاعر على شاعر او قصيدة على قصيدة الا بمقدار ما يتحد او ينفصل عن مجمل احداث التاريخ ومعارك الناس واستلهام ذلك واعادة صياغتها ولا تقتصر جودتها على الشعر العامي دون الفصيح كما لا يقتصر الشعر على الرجال دون النساء فمنهن من اشتهرن بغنائهن او شعرهن السياسي (كزهرة) والشاعرة (ازهيرة بني محيسن).. وضوية وأخريا? ومن خلال (17 مثلاً) يطرحها الباحث في هذا الفصل فنرى ان الشاعر ساعة المعركة يبحث عن المشعل لكي يستمر اللهيب مثلما يبحث القائد عن الجندي ليمده بالعتاد ومقومات الاستمرار الاخرى.. فان عناصر القوة في الادب الفصيح هي نفس عناصر القوة في الادب الشعبي.. يبقى ان الاديب هو متألم كما تتألم الناس ام ان هذا الاديب او ذاك ينعم لهوائه المتكيف ويأكل ما لذ وطاب من افضل ما اعدته الموائد التي اغدق في مدحها وتحشرجت في ذلك قصيدته وتقيحت حنجرته بالرياء.
هؤلاء الشعراء من اللونين الذين اداروا ظهورهم عن قضية الناس ومدوا ايديهم ليستجدوا من السلطان ما يديم لغتهم وان كان في ذلك لعق الدماء وسحق الكرامة وذلة العمر.
الادب والصراع الاقتصادي
في هذا الفصل.. كثيرة هي الشواهد التي تؤكد حقيقة ارتباط الشعر بنوعية الصراع الاقتصادي وهذا يعود الى ان واقع الحياة العامة للناس وطبيعة التناقضات الحادة التي تحكم علاقاتهم وما تمخض عنها من وسائل تعبيرية خلق انواع كثيرة من الادب وقد امتلأت مفرداته بمعاناة قاسية حملت بين طياتها الآلام والانين المنبعث من سياط الجوع والحرمان والكبت المنبثق نتيجة لاستيلاء رؤساء القبائل على الارض وكذلك الملاكين الصغار من جهة والفلاحين وفقراء الريف من جهة اخرى فكانت الطبقة الاولى تحتقر العمل وتراه غير لائق بمكانتها الاجتماعية حيث ت?د في نفسها قيادة عموم المجتمع والسيطرة على قمم المسؤولية وفق سلم درجاتها والنظر دائماً لبقية الناس من اعلى، على اساس ان ذلك حق طبيعي يمارسه الاغنياء مثلما ان الخدمة والعمل والبطالة حق طبيعي على الفقراء ان يؤمنوا به ويعتبرونه لصيق بوجودهم وان الاعتراض على ذلك يشكل تمرداً على الاعراف والقيم والتقاليد التي اضفتها الطبقة الحاكمة صاحبة الشرعية في الامر والنهي وان اتصل ذلك بسحق الكثير منهم ومن ثم تدمير حياتهم عن طريق التضور والموت جوعاً او الاذلال والخنوع ومسخ الكرامة تحت جزمة الامرين تارة اخرى. ونتيجة لذلك حدثت?معارك طبقية ضارية بين الاقطاع واتباعه من جهة وبين الفلاحين وسائر المعدمين من جهة اخرى.
ان الاحساس بالألم لا يشعر به الا المتألم نفسه ام ان يتحول ذلك الى حالة وصفية شعورية عند اديب ذي خيال خصب او ملكة لغوية خارقة. وتؤكد (تنويمة الجياع) للشاعر الكبير الجواهري ذلك.. اذ تستصرخ في هؤلاء النهوض فهي والحق يقال حللت وشخصت واقع حال امتزجت به المعاناة بالاضطهاد والتعسف والصراع.
ان ارتباط قصيدة (تنويمة الجياع) بغيرها من القصائد العامية وما تمخض عن ذلك من استيضاح تاريخي للباحثين والمتتبعين لواقع حياة الناس يجعلني اهتدي اكثر بكون الشعر الفصيح والعامي يؤديان وضيفة اجتماعية سلباً او ايجاباً وبنفس الاغراض والاتجاهات مع الفارق والتباين الحاصل هنا او هناك في الاسلوب والتشخيص وما سينتهيان اليه.
ان هذا الكتاب فيه من الافكار تتطلب مناقشة وردود وبحث فيه وفي محتوياته. كتاب جدير بالقراءة لان الادب والناس يتفاعلان ويتحدان ويكونان معاً تاريخاً مشتركاً من العلائق التي تؤشر ايجابيات الحياة وسلبياتها.