ادب وفن

مديات الشحن الثوري اللا منتهي في الاغنية الشعبية */ حسين الجاف

"على حسب وداد گلبي يا بوي"، أغنية شعبية مصرية شائعة وذائعة في الريف المصري، وتحديدا في أرياف الصعيد المصري "بجنوب البلاد"، غنّى هذه الأغنية المصرية غير واحد من مطربي الشقيقة مصر: محمد العزبي، وداد وعبد الحليم حافظ بأنغام والحان مختلفة لكن أشهرها أغنية عبد الحليم حافظ التي كتبها صلاح ابو سالم ولحنها بليغ حمدي اللذان أخذا من الأغنية الأصلية مذهبها الأول وبنيا عليها الكلمات واللحن فانتشرت هذه الأغنية انتشارا مذهلا في منتصف الستينيات من القرن الماضي وصارت على كل لسان..
ويقينا إن أغاني "على حسب وداد گلبي" و"انا كل ما اگول التوبة" و"سواح" دفعت غناء عبد الحليم إلى الأمام مرة أخرى ليصبح في واجهة الأغنية العربية بعد فترة ركود ومراوحة في نفس المكان مسّت غناءه في الربع الأول من ستينيات القرن الماضي.
وعلى أية حال فان أغنية "على حسب وداد گلبي" وفي قراءة أخرى "على حزب وداد گلبي" صارت اكثر شيوعا وذيوعا وانتشارا بعد ان غناها عبد الحليم بالاستفادة من مطلعها القديم ولا شك ان لحن بليغ حمدي أضاف إلى الأغنية سحرا وجمالا كبيرين.
وأصل هذه الأغنية الذائعة يعود إلى سوء فهم او خصومة حصلت بين المطربة الغجرية الجميلة الشهيرة يومئذ "وداد الغازية" والأمير "يوسف كمال" خال والد الملك فاروق الأول "1920 – 1965" ملك مصر الذي أطاحت به مجموعة ثورية من الضباط الأحرار من الطبقة المتوسطة في 23 تموز 1952 بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر "1917 – 1970".
وعود على بدء، فان يوسف كمال الثري العجوز والمتذوق الشديد للفن والعمارة والجمال وصاحب القصور الفخمة والخيول المطهمة والمولع باقتناء اللوحات الفنية لأشهر رسامي العالم، ولعل قصره المطل على النهر في الجهة الغربية من النيل في منطقة نجع حمادي وهي من أعمال محافظة قنا، لا يزال شاخصا للعيان بعد مرور ما يقرب من مائة سنة على رحيل صاحبه، ويبدو ان الأمير الغني الذي تعود على الامتلاك والاستحواذ أراد ان يضم الغجرية الحسناء فارعة الطول وذات الصوت الملائكي والجمال الآسر الى مجموعة عشيقاته ومحظياته.
لقد هام الأمير بها حبا.. وأراد ان يضمها الى قائمة حريمه بأية صورة كانت.. كيف لا ؟ وهو الذي يملك كل شيء في هذه البلاد أطيانا وذهبا ونقودا وطول باع وسعة سمعة.. لقد اخذ صوتها الأخاذ بلبّ الأمير وهي تغني أجمل الأغاني .. فراودها عن نفسها أكثر من مرة.. إغراء وإغواء مرة، ومرة تهديدا ووعيدا.. بيد ان كل محاولاته في إلانة موقفها وكسب ودّها ذهبت أدراج الرياح بخاصة عندما واجهته بكل صراحة وقوة قائلة له:
ـ لا.. لن يغريني كل ذهبك وأطيانك وقصورك على ان أبيع ربيع شبابي لخريف عمرك.
فاستاء الأمير واستشاط غضبا وأقام الدنيا ولم يقعدها، إذ كيف ترفض غجرية.. مجرد غجرية ذات أصل وضيع الاقتران بالأمير الكبير الثري خال والد الملك..
لكنها واجهته مرة أخرى وخاطبته:
ـ إنك عجوز متصاب ومغرور وظالم ومتكبر.. تعدّ الناس خدما لك ولرغباتك، ولكن هيهات ان تمسّ مني ظفرا..
فاشتد الجدال بينهما لتقود المطربة انتفاضة بعد حصول حالة رفض مطلق وعدم رضا عام عنه وعن تصرفاته ومظالمه نحو الفلاحين لتطلق شرارة ثورة عمت كل أرجاء الريف المظلوم ضد مجتمع الـ "2/1" في المائة أي الطبقة الحاكمة الإقطاعية المتنفذة التي كان بيدها كل المصالح الاقتصادية والزراعية ووسائل الإنتاج والوظائف الكبيرة قبل ثورة 23 تموز.
ويقول الصحفي المصري الشهير جليل البنداري مستغربا ومتسائلا:
"إن الثورة العارمة التي انطلقت من منطقة نجع حمادي لتقلب الأرض حمما تحت أقدام السلطة الرجعية الإقطاعية الحاكمة ورجالاتها المتنفذين يومئذ.. ارتبطت ارتباطا وثيقا باسم وداد الغازية وهي مطربة غجرية من طبقة مسحوقة ومهمشة"، ويضيف البنداري: ان هذا الأمر ربما شكل صدمة كبرى لأهالي نجع حمادي بل وخيبة أمل أكبر عندما علموا ان ثورتهم الشعبية ارتبطت باسم هذه الغازية "الغجرية" الشابة الرافضة لنزوات ذلك الأمير الإقطاعي العجوز باللقاء به في قصره سفاحا والغناء له وحده.
ومع اعتراض البنداري وغيره على "وداد" واسمها ودور أغنيتها الشهيرة "على حسب وداد گلبي يا بوي" التي ذاعت وشاعت وألهبت حماس الجماهير بل وشحذت هممهم الكسولة إزاء رفض الواقع المرّ والمساهمة في الثورة العاصفة التي لا يفقد الفقراء في مشاركتهم فيها سوى قيودهم.
ان مديات الشحن الثوري لا منتهية في الأغنية الشعبية النابعة والمعبرة عن صدق معاناة وقساوة الواقع الاجتماعي الذي يتطلب وعيا ثوريا وإرادة قوية وأهدافا ملهمة لان إرادة التغيير الثوري عموما أقوى من أعدائها ـ اعداء الحياة ـ كما يقولون.
وهكذا فان للأغنية الشعبية دور مهم في إذكاء همم الجماهير وشحذ إرادتها باتجاه التغيير والتطوير والوصول إلى غايتها المثلى في الحرية والكرامة والحياة الأفضل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجلة "الثقافة الجديدة" العدد 384