ادب وفن

عدنان المبارك .. من رواد الحداثة ولغتها ووسيلتها وتوصيلها / جاسم المطير

أنا اكتب إذاً أنا أتحقّق..
هذا القول التزم به صديقي عدنان المبارك الراحل بصمت وهدوء في بداية شهر اكتوبر 2016..
التقيتُ به أول مرة في مدرسة متوسطة البصرة أواخر اربعينات القرن الماضي. لا أتذكر أسم مديرها ولا اسماء مدرسيها لكنني اتذكر أنهم جميعاً كانوا منبهرين بذكائه وبمستواه الثقافي الموصوف من قبلهم أنه غير اعتيادي خلال اللقاء الأول به . أتذكر جيدا الطالب المجتهد (عدنان المبارك) إذ بدأ التزامنا بصداقة مشتركة أوجدت لنا معاني الكينونة والفعل والوجود. لم يكن قوله ( أنا أكتب) مجرد نشوة شبابية، بل كان وعياً تخطيطياً دفعه للعناية بتعلم تقنيات الكتابة ، منذ شبابه الأول، ليوظفها تحت تصرف عقله واصابعه، حتى صار كاتباً متدفقاً ، أبان وجوده في المدرسة المتوسطة، بعد ان احتال على نفسه بعدة وسائل ليقرأ كليلة ودمنة قراءة عميقة ليرتقي - كما اخبرني - بعقله الى مستوى وجوديات الصفات المشتركة او المختلفة بين الانسان والحيوان. اختار هذا الكتاب عن قصد وتصميم كي يتعلم الكثير من التراث، مجددا طاقاته ، جامعاً مختلف عناصر وأدوات رسالته .
حين سمعت قوله عن ( فن الكتابة) لم أكن اعرف قيمة ما سمعت، فقد كنتُ أمارس القراءة ولا امارس الكتابة. ثم مضى الزمان صاعداً بنا سريعاً، الى اعلى مستويات الصداقة ، بمراحل مختلفة من سنوات العمر، كانت خمسينات القرن الماضي اعلى اشكالها حتى حين تخطى طلبي الشخصي، أكثر من مرة، بترشيحه للانتماء الى الحزب الشيوعي بالبصرة.
أجابني اول مرة ببداية الخمسينات:
• اعذرني فأنا لست بمستوى شرف عضوية الحزب الشيوعي.
ثم أجابني ،حين كررت طلبي بانتمائه في اواخر الخمسينات أيام كان الحزب قد بسط نفوذه على الشارع البصري كله. قال :
• اكتشفتُ ان عهدي مع نفسي ينمو بنضال الكلمة وليس بالنضال الحزبي.. سامحني وليسامحني الحزب الشيوعي ايضا ، لأنني قررتُ السعي لأن أكون كاتباً حراً، تحليلياً، تفكيكياً، في الادب والتاريخ الادبي.. تقنياتي غير تقنيات المناضلين الحزبيين وسياقاتي غير سياقاتهم وبناءي غير بنائهم ، لكن سأظل قريبا جدا منهم الى آخر العمر.
وجدتُ جوابه في الزمنين المختلفين مبهما، قبل ثورة تموز 1958 وبعدها. لم يستطع بهما تخصيب طلبي بالرغم من انه كان فتى مؤتلفاً مع نضال الحزب الشيوعي العراقي ومع اهدافه بالدفاع عن حقوق الانسان وعن حقوق الكادحين من العمال والفلاحين .. كان شغوفاً بقراءة جريدة الحزب وبياناته، كما كان مؤيدا ومشجعا ومساندا لشقيقته المقيمة حالياً بنيوزيلندا ، المناضلة الشيوعية النشيطة (ناطقة المبارك) ، دافعاً برضا تام جميع مبادراتها بتأسيس رابطة الدفاع عن المرأة في البصرة وتنشيطها. حظيت الفتاة الجميلة المثقفة (ناطقة) بتشجيعه التام في ممارساتها اليومية مع مناضلات اخريات (نورية عباس، سميرة محمود، آمنة صادق، ماجدة الشهباز، ماجدة سالم، فاطمة السلمان، نهاد جاسم ، جليلة ناجي، نهوض اسماعيل وغيرهن كثيرات) ، مثلما حظيت (ناطقة) بتشجيع خاص من صديقتها المناضلة نظيمة وهبي التي كانت علاقتها بالسيدة ناطقة وطيدة تكاد تكون يومية بمرحلة من مراحل فترة الخمسينات .
لم يكن عدنان المبارك مترنحا بين اليمين واليسار، لكنه فضّل بتلك الفترة ان يكون يساريا ،خارج التزاماته بنظام وبرامج ونضال الحزب الشيوعي العراقي. ظل محبا مخلصا للشيوعيين العراقيين، الذين يصفهم انهم امتلكوا التزام مهمة ومغامرة الدفاع عن حقوق الكادحين العراقيين. هذه النية الشيوعية وحدها والعمل بقدرات خارقة على تحقيقها كان يراها اعلى من مستواه، لذلك انغمر منذ البداية بتركيز جهده على تخصيب ذاته الادبية. تميز عدنان بصفتين اساسيتين يندر وجودهما بشخص واحد. كان (نهم القراءة) و(غزير الكتابة) بوقت واحدة. يكمل قراءة كتاب او الجزء الاكبر من صفحاته كل يوم ، كما يكتب مسودة من 5-7 صفحات يومياً. حتى صار بعد سنين قليلة بعد تخرجه من الدراسة الاكاديمية العليا بإمكانه أن يكمل تحرير او ترجمة كتاب واحد كل شهر. كان يفهم علاقته بالإنسانية من خلال التفرغ للقراءة والكتابة ففيهما - كما يقول - يجد اتصاله بالناس المناضلين من اجل غد افضل. كان ينكر لنفسه بعض حاجاتها من اجل ان يظل بطريق البحث عن الحقيقة بوجودها في الزمان والتاريخ المتطورين.
سريعا ما انفصلتْ عرى العلاقات المباشرة بيننا ، خلال عقد الستينات كله، فقد اصبحتُ فيه سجيناً في نقرة السلمان، بينما اصبح عدنان المبارك طالبا مجدا موهوباً بالعلم والمعرفة للدراسة الادبية في بولونيا ،من ثم لنيل شهادة الدكتوراه من احدى جامعاتها. لكنه لم يكتف بذلك ، بل كانت هذه المرحلة بداية فاعليته في البحث المتواصل عن دور الثقافة والآداب والفنون جميعها في احداث الدهر الرأسمالي المتعالي على اكثرية البشرية. يريد ان يعصم نفسه وافكاره عن كل شائب ودخيل من افكار الرأسمالية المقتحمة بلاد البولونيين وان يكون له ولإنتاجه الادبي والثقافي تحريرا وترجمة حضورا في الغد وليس ملء اليوم فحسب. اتصلت افكاره بالحداثة وما بعد الحداثة كوسيلة من وسائل الاتصال بالإنسانية المتجددة.
رسالة واحدة فقط ذات اربع او خمس صفحات – لا اتذكر- ارسلها لي بالبريد العادي من وارشو الى نقرة السلمان لم يبرح في سطورها غير التاكيد على منهجه بموضوعات وقيم التجديد والحداثة في الادب والفن حتى انني وجدت في رسالته تلك مصطلحات وعبارات وكلمات وقضايا لم يشهدها ولم يصنعها جيل الخمسينات. كان قد عبّر بتلك الرسالة عن ارادة دخوله الى عالم الحداثة في الآداب والفنون.
في السبعينات عادت علاقتنا من جديد. كنا نلتقي طويلاً بأحاديث متنوعة وتبادل أفكار مختلفة، خلال زياراته العديدة الى بغداد او نتبادل المكالمات التلفونية والرسائل بين بغداد التي احلم ان تتنعم، ذات يوم، بنسيم الحرية والخلاص من الدكتاتورية ووارشو التي تبتغي عالما متحررا من قيود وافعال النخبة الاشتراكية الحاكمة المنحرفة عن الأصول والجذور . اضطر الى مغادرة بولونيا بعد سقوط النظام الاشتراكي مختارا الدانمارك ليعزل نفسه في احدى مدنها الصغيرة ،متفرغا لإمكانيات القصة والرواية والبحث الادبي الحديث ،محاولا دراسة ابرز ظواهر الحداثة وما بعد الحداثة، ليتعامل معها تعاملاً اصيلاً لاكتشاف وخلق ادبه الخاص وثقافته الخاصة المتميزتين بتجاوز الحاضر والسمو الى المستقبل.
كان لقاؤنا مجددا بعد قيامي بتأسيس موقع القصة العراقي الألكتروني بجهد وحيد، ضم ابوابا عديدة لنشر كنوز الكتاب العراقيين المخبوءة او الممنوعة من النشر في الصحف والمجلات . حين اطلع على الموقع بادر الى الاتصال بي وتزويدي بكثير من نتاجاته الحداثوية والفكرية والنقدية.
بعد فترة قصيرة من عودة علاقاتنا اسعدني بموافقته الفورية على اقتراحي ان يكون هو وليس غيره رئيس تحرير الموقع لضمان تطوره على اسس ما بعد الحداثة . كان جديرا في تحويل الموقع الى مجلة الكترونية يجد فيها المشاركون من الكتاب والقراء ممارسة جادة في قراءة وممارسة معايير جمالية حديثة الى جانب الموروث الاكاديمي.
بالفعل استطاع الدكتور عدنان المبارك ان يقدم نصوصا فكرية وتأويلية وبنيوية لكثير من قضايا الادب والفن جذبت انتباه الكثير من النقاد العرب البارزين ومن اساتذة الجامعات المتخصصين، حتى اثمرت جهوده بجعل (موقع القصة العراقية) بمثابة حلقة دراسية متواصلة دائمة الانعقاد، بالرغم من شخصية عدنان المبارك الهادئة البسيطة المتواضعة لا يحب الظهور على شاشات التلفزيون والدعاية لنفسه عبر المقابلات وغيرها، حاله حال العديد من الموهوبين بمدينة البصرة امثال محمود البريكان ومحمود عبد الوهاب وغيرهما، مما جعل رحيله يمر بالأوساط الادبية والثقافية في البصرة والدانمارك من دون توديعه باي بيان تابين يليق به. كذلك علمت من الصديق الرفيق (محمد الكَيم) ان صدى رحيله لم ينعكس لا في الوسط العراقي او العربي المقيم في بولونيا ولا بالوسط الاكاديمي ايضا.
خسر العراق مثقفا تقدميا واسع الرؤية ليس موهوبا فحسب ،انما كان اديبا طليعياً ، يسارياً، رائعا ومثابرا ، ومثقفا يقينيا جدلياً. كان قادرا منذ شبابه الاول ان ينهض بمهام المساءلة الادبية والفنية ، نظريا ونقديا.
تميّزالراحل عدنان المبارك بعقلية علمية صارمة قامت على مقولة (انا اكتب إذاً انا موجود). كان متأملا بجدية ظاهرة الطبيعة الرأسمالية في التطور المتناقض والسياق المتعارض، مما جعله يبحث عن انسان جديد في قصصه ورواياته قادر على حسم مسألة الصراع وتكثيف المعارف العلمية في المستقبل. تمركز بحثه النوعي عن (الإنسان الجديد) بقصصه القصيرة وبرواياته وبأبحاثه وترجماته، خصوصا بعد تأليف ونشر كتابه النظري العميق الموسوم (القرن العشرون التحولات الكبرى في تاريخ البشرية ) المنشور في العاصمة البريطانية من قبل دار الزمان .
كان هشام البعاج (طالب شيوعي) أسبقنا ثقافياً في مجموعة أصدقاء حلقة كبيرة من محبي الادب والفن والثقافة. كنا مجموعة من الطلاب الاصدقاء نتبادل الكتب لقراءتها ومناقشاتها تتكون من فيصل الحجاج ( طالب نشيط) ،هادي الصكر(رسام)، هشام البعاج ( طالب مهتم بقضايا الاقتصاد)، نزار رفيق ،عدنان المبارك ( متطلع إلى إنسان المستقبل) ،انور طه ، شاكر علوان (عامل نفط شيوعي) وغيرهم.
هشام قارئ نهم ، متحدث لبق، ساحر بالجدل. لكن مع الأيام أصبح عدنان المبارك اسبق الجميع صار بإمكانه ان يقرأ كتابا ، كل يوم ، استنادا لشعار رفعه بنفسه لنفسه حتى تجلت لديه، بسرعة مذهلة، القدرة على التمييز بين الثقافة الاستهلاكية والثقافة الانتاجية، بين الثقافة الشعبية والسطحية والدراسات العميقة. كما كان اسبقنا في التعرف الى حقيقة السياسة الرأسمالية الامريكية ودوافع الحرب العالمية الباردة وهستيريا مكافحة الشيوعية وتأثير كل ذلك على اتجاهات الادب والفن وكيف ان هذه العناصر توفر عوامل تسريع الحداثة وما بعد الحداثة في العديد من مؤلفاته ، خلال دراسته في بولونيا ومن بعد خلال اقامته بالدانمارك، استطاع عدنان المبارك ان يتخيل ويدرس حالة الادب الانساني من خلال كتابه (برج بابل الالكتروني في اشكالية المواجهة) وفي صفحات كتابه ( الاتجاهات الرئيسية في الفن الحديث على ضوء نظرية هربرت ريد) وفي رؤيته الفنية النظرية بكتابه ( فن الشمولية.. الطليعة الروسية نموذجا) وعلى صفحات كتب عديدة أخرى عن حالات الثقافة الانسانية الأخرى.
انتج عدنان المبارك لغة علمية رصينة كشف بها مواقع ونسب الهيمنة والتفوق بكل معسكرات العالم المتناقضة او المتحالفة واستطاع تحديد تطور الناس والمجتمعات على وفق انموذج الحداثة وما بعد الحداثة . تعمق بكشف محددات الليبرالية الثقافية وحرية الفرد وحقوق الانسان، التي طرحها العقل الغربي في الدولة الامريكية والالمانية والفرنسية ابتداء من مثاليات القرن الثامن عشر حتى زمن العولمة حيث الهيمنة الأمريكية على العالم.
بهذا المقال احاول توديع صديقي و استاذي عدنان المبارك، الذي تحرر سريعا من كل نوع من انواع الغلو المثالي ليكون مقتدرا على مواكبة حركة التاريخ . كان معلما عراقيا من اساتذة الادب العراقي مدافعا عن رؤية الانسان إلى مستقبل أفضل، داعيا الى انتصار وجوده الابدي.
رحل عدنان المبارك في بلاد الغربة من دون صدى لمكانته العلمية ،لا في موطن مولده (البصرة) ولا في موطن تعليمه (وارشو) ولا في موطن اقامته الابدية (الدانمرك) .
في الحقيقة وجدتُ نفسي حائرا كيف أبدأ كتابتي عن جوهرة ثقافية عراقية ثمينة ولا حتى كيف انهيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 24 – 10 – 2016