ادب وفن

الحرية الفكرية بين الحداثة وما بعد الحداثة */ روبرت بفولر

ترجمة: مزاحم حسين الشمري
"ما يجعل الناس تمضي نحو الاضطراب ليست الحقائق بعينها وانما آراؤهم حول تلك الحقائق". هذا ما دعا اليه الفيلسوف الرواقي ابيكتيتوس حول البؤس الانساني. فلقد قرنَ ابيكتيتوس الفقر مع الهيجان - وذلك يعني "غياب هدوء الذهن أو ما يدعى "اتاراكسيا"، وفيها يرى السعادة، كما فعلت معظم المدراس الفلسفية القديمة كمدرسة ايبيقور ومدرسة الفيلسوف الشكي بيرو".
ان الأنباء الجيدة لهذا المنطق هي أن الناس بما لديهم من فطنة قادرون على أن يحققوا السعادة. وبما أن الحقائق وفقا لابيكتوتس لا يمكن ان تتغير وانما مواقفنا تجاهها يمكن ان تتغير. فعلى سبيل المثال لا الحصر ان الحقيقة الحتمية هي اننا لابد أن نموت، ومن الممكن أن لا يكون ذلك سهلا في المستقبل القريب. ومع ذلك ما يمكن تغييره هي آراؤنا بأن الموت هو شر مطلق: وان لم تكن هذه هي القضية فان الموت ظهر بأنه شر حتى لسقراط ولكنه لم يظهر له هكذا كما يناقش ابيكتيتوس.
ما يظهر لنا كشيء بسيط أو واضح جلي في الحقيقة, اننا انْ جارينا ابيكتيتوس, فسيظهر شيء معقد, شيء أكثر أو أقل اختلافا في سلسلة من الحقائق التي نساهم نحن فيها، وهذا يعني طريقتنا في تشكيل هذه الحقائق, طريقتنا في وضع أنفسنا مع هذه الحقائق.
ان الشخصية المركبة التي قد تظهر بسيطة، تناولها ديفيد فوستر والاس في كلمته الجميلة "هذا هو الماء". وكما أشار فوستر والاس فاننا مثلا حين نقود سيارة فاننا قد يتملكنا الغضب مع سائقين آخرين يجبروننا على أن ندوس الفرامل في مناورة خطرة. ومن الممكن أن نجد في ذلك هيجانا واضطرابا واضحين، واذا تخيلنا سيناريوا مختلفاً فاننا يمكن أن نتخيل، وفقا لاقتراح فوستر والاس بأن السائق الآخر قد يقل طفلا مصابا في المقعد الخلفي للسيارة وهو على وشك الموت، ويجهد يائسا لإيصاله الى أقرب مستشفى بأقصى سرعة.
ان هذا التشكل يسمح لنا برؤية الوضع السابق الذي كوَّنا عنه رؤية مسبقة يمكن أن نستخدم اطارا مشؤوما يؤدي بنا الى الاهتياج. والفرق هو اننا لم نكن نعي الاطار المسبق . انه يحدث بصورة طبيعية من تلقاء نفسه كما يحدث للماء الذي يعوم فيه السمك. ومن هنا فان عنوان كلمة فوستر والاس هي اننا نعوم أيضا في غضبنا وحسدنا وغيرتنا وخوفنا وهكذا دواليك، بنفس طبيعة الماء الذي يعوم فيه السمك. ومما لا نلاحظه هي الحقيقة اننا بخلاف السمك نصدر انزعاجا او ما ندعوه "انثيال الانزعاج" في المقام الاول.
ومن هنا, يمكن للمرء ان يستنتج استنتاجا أوليا انه كلما زادت الاشكال اختلافا كلما أصبحنا أكثر وعيا لتكوين اطارنا الخاص ونصبح اكثر مرونة، ويصبح من السهل ان نزاوج بين الاطر المختلفة.
بعيدا عن تخيلنا عن الأب وابنه المصاب نستطيع أن نطور صورة اخرى وهي ان السائق المتهور ما هو الا رجل بوليس متنكر يطارد مجرما، "ووفقا لموقفنا تجاه رجل البوليس فاننا سنكون أما سعداء باننا محميون، أو نسب ونلعن باعتبار أن رجل البوليس وضع حياتنا في وضع خطر لكي يمسك باللص". ومع كل مخيال جديد فان وعينا وسرعة تقبلنا ستزداد نسبيا وهذا ما يجعل عدم قدرتنا على اتخاذ الاطار المناسب من التخيل الآني.
من المعلوم أن حقيقة عدم قدرتنا على اختيار الاطار المناسب سينتج توازنا فائقا في حياتنا العقلية. واننا كشكيّين بسطاء نتمتع بسلام رائع في الذهن.
وثمة سؤال ممتع ينبثق للاذهان في هذه النقطة وهو هل ان كل الأوامر هي من نفس النوع حتى تجعل شخصا ما يشكل اطاره بالضرورة وتظهر دائما نفس صيغة الماء بصورة طبيعية أو تعجيزية؟، حيث يمكن مع الاطار الثاني ان تكون قدرتنا متناسبة مع الاول - المهارة التي ستنمو مع كل اطار اضافي. أو فيما اذا كان هناك فرق جوهري بين نوعي الاطر تلك، فان اطرا معينة ستقودنا بالضرورة الى احاسيس محبطة والى الاستقرار المؤثر المنسجم للأفكار المتسلطة - حيث ان الاطر الاخرى من ناحية المبدأ لا تكون كذلك. وبهذا فان الاطر الاخيرة حتى وان كانت اطرنا الوحيدة سوف لا تضعنا في الهيجان.
ان موقف فرويد ولاكان من هذه القضية سيكون كالتالي: هناك أطر متذبذبة بينما الاخرى لا تكون كذلك. وهناك نوع واحد من الاطر لنا مثل الماء كوسيط غير مرئي لأحاسيسنا التعيسة، أو شقاؤنا المتقد.
ان المخيال في مفهوم "ايبكتيتوس" ستكون لكل من "فرويد ولاكان مناسبة جدا للمخيال حول متعة الاخرين. ونستطيع هنا أن نحتمل أي شيء عدا امرا واحدا، وهو أن الآخر سيستثنى من الاحباط الكبير الذي قبلنا به. على سبيل المثال حين يتوجب علينا ان نتعلم بان التمني المجرد لا يساعد في ذلك.
ان الآخر يصبح غير محتمل لنا حين يظهر ذلك، ان لم يتقبل درس الحياة هذا , كما لو ان لديه حياة بلا مشاكل في عالم مرغوب وبدون مبادئ، أو كما لو انه عاش في عالم المتعة غير المقيدة.
ان هذا الآخر الذي يتمتع بحياة خالية من المشاكل وغير مقيدة سيكون الشيء الوحيد الذي يجعل مخيالنا في حالة من استجلاب الهيجان. وليس فقط ان الاخر يتمتع، بينما نحن لا، وانما لأننا لا نستطيع ان نتمتع بصورة مناسبة بسبب متعته. انها ستصبح خطأه لأننا لا نستطيع ان نتمتع, أي سبب اخصاؤنا هو اللص الذي يسرق أمتعتنا.
لهذا فاننا يجب ان نفوز بشكلين مختلفين من المتنفس او المخرج، ويمكن ان نقول بدون ادنى مبالغة أن الشكل الأول هو شكل نمطي لما بعد الحداثة، والاخر هو من خصائص الحداثة. ومن وجهة النظر الاولى الما بعد حداثوية، فان الثانية أي الحداثوية مازالت ترقع البقع المبتلة للعواطف التي لم تجف بعد. بينما الحداثة لاتزال تؤمن بفوقية فكرة واحدة دون بقية الافكار التي تخلق الهيجان وفقا لوجهة نظر ما بعد الحداثة.
ان فكرة الفوقية سيكون عليها ان تذوب في نسق يسمح للمتشابهات السعيدة فقط باعتبار أن كل الافكار تقع بصورة متساوية في المتشابهات وعدم وضوح المعنى، فالسلام يعم والهدوء يضرب اطنابه.
ومع ذلك، ومن وجهة نظر الثانية اي الحداثة فان من الدقة ان هذه الفكرة يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار كبقايا من الماء المبتل للأولى اي ما بعد الحداثة - اللاشيء يجب ان يعني اي شيء, واللاشيء يكون مسموحا له ان يكون صائبا اكثر من شيء اخر، وبخلافه فان الحقيقة ستنبثق كاللص الذي يختطف المتعة من الاخرين. ولكن من ناحية أخرى، من الذي يقول أن الحقيقة صعبة جدا لأنها تحتمل؟. هل الحقيقة هي مثال المتعة, شيء ما مطلق - كما تفهمها الاديان والتي تعتقد بامتلاكها الحقيقة المطلقة والسامية ولهذا من الصعوبة ان تطبق؟
هل ان الحقيقة لا تعدو ان تكون الا تلك العلوم التي ندرسها يوميا, شيء ما راسخ بصورة كلية او مدنس او علماني او انتقالي, شيء ما متوفر وبسهولة التغلب عليه, مثل الهواتف الذكية وماكنات القهوة والتي تستبدل يوما بعد الاخر بالاحدث منها, او بهواتف ذكية أحدث؟، وهل ان الحقيقة شيء ما شائع بصورة كلية ؟، وما هو الذي سيمسي سيئا عند استبداله بشيء حقيقي؟ ولماذا نشعر بالحرمان من المتعة وغير قادرين على تهنئة الفائز المحظوظ ؟
بالنسبة للحداثة فان ما بعد الحداثة ستكون كرجل عصابي لا يستطيع احتمال ان ليس ثمة حقيقة, لكونه خاسر موجوع.
ومع هذين الشكلين في الذهن فاني بدأت بملاحظة نفسي ولا أستطيع اخفاء شعورا مؤكدا للسعادة والحرية الفكرية. انا اتأرجح بين هذين الشكلين واتردد في اختيار احدهما. وفي خضم هذا التذبذب وهذا التردد فاني ووفقا لابيكتيتوس وبيرو سأجرب السعادة القصوى أو بعبارة أخرى الطمأنينة القصوى لراحة الذهن. وما يسعدني بصورة خاصة هي الحقيقة التي لا يمكن أن أعرف من خلالها الانموذج وفقا للذي أنا فيه، أتأرجح حين تتأرجح الحقيقة بين هذين الانموذجين. ولا استطيع أن أشعر بأني حر كوني تأرجحت بين فكرتين. أنا أتأرجح بين هذين النوعين من التأرجح وأتمتع كليا بحقيقة كوني غير قادر على كشفها حتى لنفسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقالة مترجمة عن مجلة Continental Thought & Theory