ادب وفن

المطبوع الشعري الجديد "الاكثر نجاحاً" للاديب ناجح عنوز / سفاح عبدالكريم

في الزمن الصعب.. زمن التصحر والانفلات والتردي في الشعر والثقافة والحياة لا بد كما يتصور البعض ان الأمور قد انتهت عند هذا الحد ولا يمكن اصلاح ما أفسده الدهر. إلا انه ورغم كل هذا تظهر هنا وهناك نتجات واصدارات لا بد من النظر اليها والتأمل فيها لجماليتها ومصداقيتها والثناء عليها وهي تنأى صوب الاتجاهات الصحيحة والمؤثرة كاشفة عن وجه فاعلها وهي تتحدث عن اسرارها المعلنة في صيحاتها معبرة عن جوانبها الانسانية حاملة بكفيها مشاعل الحرية والسلام رغبة منها في الوصول الى المتلقي لتروي ضمأ رغبته وما "اسرار المكاتيب" للشاعر "ناجح عنوز" الانسان والشاعر الرسالي المثالي الراغب في الحضور دائما في المشهد الثقافي.

وما انجازه هذا الا تتويجاً لتجربته الشعرية بعد ان رفد الساحة الثقافية بمثيلاتها من الاصدارات الاخرى والتي شكلت حضوراً اشاد بها الجميع دون مجاملة ومحاباة.
ان الاشتغال الصحيح في هذه المجموعة الشعرية جعلته متميزاً دون بهرجة او اعلان مسبق كما يفعله البعض وما جاء هذا الا عن وعي واقتدار بالارتقاء بالمنجز الشعري المتحدث عنه. وقد آل الشاعر على نفسه أن تكون مسيرته مضاءة دون الالتفات الى الصيحات الخاطئة والتي تقف دون جدوى فهو إن أغنى النص بالمثل والحكاية والصورة أراد بفعله هذا أن يحتفظ بنكهة الموضوع وإدراك المتلقي للفهم بعد الاستجابة لمنابع التكوين والاصالة والطفولة البريئة والبديهية المعلنة في النطق والايثار. فالشاعر إن تحرك في الا مكنة وسار ضمن مجسات مرسومة ومألوفة التي يستنطقها بدلالة الأزمنة والامكنة يكون قد ساهم في تحقيق الرغبة في الحضور والتأثير والمواصلة. وكما اشار الى هذا في مقدمة انجازه الشعري "اسرار المكاتيب" الشاعر ناظم السماوي "ذا الانجاز الكبير في الشعر والاغنية" الى مدخل في القصيدة الشعبية والكشف عن الدلائل التي احتوتها نصوص هذه المجموعة الشعرية لذا ارتأيت أن أوجز حديثي عنها بما يلي:
1- خصائص اللون والتجربة:
ان شكل القصيدة التي يتحدث بها الشاعر مغايراً وليس تقليدياً او مشابهاً هي وان شاكلت في نتاجات الآخرين في الاطار الا انها تختلف في المضمون واسلوب الطرح والتركيز على صلب الموضوع ووحدته فهو لا يتنصل عن اخوانه دون تعالي والتصاق صميمي يشكل حضوراً انسانياً لا خلاص منه:

اذا هبت الريح إتلاطم الروج... سفينه انته او مهب الريح عالي
أچذب لو اگلك سعرك ارخيص... ذهب انته او تعرف الذهب غالي
أنا إبلياك احسّن مالي قيمه... او يحال الظيم عگبك صار حالي

ومن القراءة الاولى للنص تعرف اسلوب المبادرة في الكتابة من خلال المدلولات المألوفة والمقروءة لكن جمعها بهذا الشكل وتوظيفها في الوعي يحتاج الى قدرة في الوعي والادراك لها وتسخيرها للايصال الفهمي للفعل الشعري والمقصود منه حينما تقرأ النتاجات بعد اخراجها من مصهره تجدها ذا لون مكتمل ومغاير ومجتمع ليملأ عين المتلقي واشباعه بالقدرة الايصالية اللونية والحسية لغرض الفهم والمعرفة.
2- حنين الطفولة والذكريات:
ان المنابع الاولى للتكوين هي اللبنات التي تنهض بالبناء. وما الذكريات وصداها ما هي الا هاجساً في الايصال المعرفي دون ضغط فكري يراد منه انشاء قد يجهد المتلقي في الاستقبال والتفكير به. لكن شكله الحسي والطفولي قد يبعث في الروح النشوة والاستحضار لمرافئ الحنين الاولى. وهذا ما ينظر اليه بشكل واضح لدى الشاعر ناجح عنوز دون زخرفة قد يحتاجها النص الشعري في الكثير من الاحيان لكن اعتماده على الينابيع التي أهلته أن يكون من خلالها فارساً يشار اليه في الاسلوب الصحيح في الوصول والارتقاء بذائقة المتلقي. وعلى انه صاحب شأن في القضية وهذا ما لمسته في قصيدة "شوكـ وحزن".

بعدها اخشاب عرسك تارسه البيت... او كل يوم اليمر انتظر جيّه
او بعدها أمك تلوب او تذرف ادموع... او عمت منها العيون النرجسية
لأن مثلك حرام اينام بالگاع... وهو ابعازة زلم للغاضريه

ان الشعور بالغربة يدفع الشاعر أن يكون حريصاً على الغير من ثمن دفعه مسبقاً فتجلياته تأتي من المواقع والأمكنة التي استحوذته زمناً فالمناجاة عنده أمراً طبيعياً لانه ارتوى من ذلك النشأ والتربية. فدعاه الى لم شمل الاحباب في وطن نرغب أن نكون فيه معافين هانئين بظله متنهدين حسرات جمالية وانسانية صالحة. فالشاعر والقضية لا يفترقان جسداً واحداً وروحاً واحدة يفيضان بالحب والوفاء والعطاء وقد جاء في قصيدته التي اهداها الى شاعرنا الكبير مظفر النواب "ثمن الغربة".. دليلاً على ذلك"

عليمن راد.. ظل ابحسرتك وابحزنك إمگبع
عيش إعله الألم وامن العذاب اشبع
الوطن ذاك الدفعت إعليه ثمن غُربه،
صار او داعتك ساحه او صفت للغير... بسكوت الوطن "يمظفر".. اتوزع

ان مثل هكذا توجسات وغيرها لا يجد الشاعر غير مكاتيب يرسلها او يطلقها لمن يحب ويسعى اليه. انها صيحات انسانية تأملية تخفق بها روحه المتلهفة وذاكرة نقية تطلق أنفاسها من وجد صالحاً للانماء. فالنصوص التي اسميتها رسالية تحمل في طياتها الرغبة والايثار مع الاعتذار لمن ارسلت او وجهت اليه الحالة الشعورية المفروضة عليه حباً وتطلعاً.

تدري من تزعل تصير اشگد جميل... والخدود اتصير چنها إمرايه
نور وجهك قسته وي نور الشموس... خاف أچذب وجهك أحلى اهوايه
صادرت هلعام إلك أول رقم.. او راح اجيب الحضرتك مشايه
راح اكنسل كل الارقام التجي... خاف أغشك لو أزل بحچايه
هذا سر او لازم انحافظ عليه... او خلها ما بيناتنه امغطايه

ان اللعبة الحقيقية عند الشاعر ناجح عنوز وسر نجاحه كان من استحكامه اللغة وادراكه لها والتعايش معها وجاء عن رغبته فيها لحضوره في التعامل الصحيح منذ زمن كان لها التأثير الواضح فيه. فهو الذي عاصرها وأنهك فيها أيام طفولته التي جعلت منه هكذا مبدعاً دون التفريط والوصول بواسطتها الى همس المتلقي وما شط حبه الذي لم ينشف الا دليلاً على ذلك.

حچي الوادم يموت.. يكتل ابساع... ولا يشفه جراحه اشما تشدين
اكتبت حبنه شعر يا أحلى العيون... او عينتيچ معلمه او بيّ تدرسين

ان مدرسة الحياة منحته فرصة التعلم كغيره واذ جاء ذلك وفق رغبته تمسك بها اصالة ومعرفة والتي أحس بينبوعه الذي شكل حضوراً ومعيناً رغم امتلاكه لعقل ينأى عن اقتدار مع الانحناء لعاطفته التي تستفزه وتسرق استقراره المعهود وكم منا يمتلك هذا الحس الوجداني الرفيع!؟ فالشعر عنده الأداة التي تصل رغبته وسروره للوصول مع الاحتفاظ بمرونته المعهودة وصراحته.

عاتبني اذا غلطان وياك... ما أقبل تجاملني إعله الاغلاط
يلما شفت منك غير لوعات... ولأجل عينك گضيت ايامي ازماط
تخوف عشرتك يلعشرتك نار... واخاف احترگ واگعدلك عالبساط

ومع اعتزازي بـ"بيت الطين" الاصدار الآخر له كنت شغوفاً بقراءة النصوص التي تنأى عن شفافيتها وبراءتها. ينتابني هاجس الرجوع ثانية للارتواء من نهر كان صفاءه واضحاً.
ان الصورة الشعرية المجتمعة والمعبرة في تكوينها عن حالات تعبيرية صادقة جاءت الى المتلقي كأشارات لتكملة المعنى المقصود ولتضف الى الجمال جمالاً وحقيقة ومعنى ومع انه لا يفتقر الى اللوعة وعدم اجهاض النص بكاءً دون الالتفات الى متاهات قد تضعف المعنى دون الالتفات والاستغراب الى الحدث الذي لم يألفه باستمرار في زمن كان الاحترام فيه سائداً وفي ذلك يقول:

وكت خلّه الزمن مهيوب... وابن اجواد ناطوره
وكت خله الحرامي ايبوگ... وافعاله إعله طول الوكت مستوره

ان الشاعر ناجح عنوز لا يستسلم ابداً وفي نهجه الصريح هذا قد نقل الصورة من الواقع المرير واعطى لها علاجاً.. وموقفاً يسجل لصالحه وما اجتماع قصائده في هذه المجموعة الا وهي من محاولاته الجادة في تطوير حالة الشعر ومصداقيته. واني على ثقة تامة بان الشاعر ناجح عنوز لا زال ينهج طريق المبدعين الاصلاء الذين اغنوا القصيدة الشعبية بدماء شابة واصيلة لم تخرج عن الواقع. رغبة منه في التكوين والانشاء الصحيح والحضور ضمن كوكبة الشعراء الفاعلين في المشهد الثقافي العراقي.