ادب وفن

أشكال السرد البوليسي / محمد الأمين بحري *

وفق أسسها الفنية، لا تتجسد الكتابة البوليسية كتخييل إلا على خلفية بيئة بوليسية واقعية تنطلق منها في فكرتها وتعود إليها في دلالتها الكلية، وهو ما تكرسه أعمال الأوائل من أمثال إدغار آلان بو منذ 1841. وآرثر كونان دُويل وآغاثا كريستي وجورج سيمنون وغيرهم ممن اشتغلوا على الإيهام بالواقع في سرد استلهم ملامحه من يوميات مجتمع بورجوازي متمايز السلطات، يرسخ في ثوراته وتحولاته القيم الديمقراطية، ويحيا في سياق اجتماعي وسياسي مؤسساتي، خاضع لأجهزة رقابة ومتابعة وحماية حقوق الشعوب كأولويات عليا. وهي عوامل جعلت من البوليسي أداة أخلاقية تشعر المواطن الغربي بالأمان، وسلطة ضبطية عليا ذات هيبة واحترام في المجتمع الذي يحميها وتحميه. وهو الأمر المخالف لوضع الروائي العربي الذي يحيا في بيئة معادية لأخلاقيات وثقافة البوليسي في العالم، ما ينفي آلياً جدوى تغذية هذا الواقع لأي عملية تخييلية يمكن أن تتأسس عليه. ما يجعل من الرواية البوليسية المتجهة إلى هذه الشعوب ترفاً أدبياً لا فائدة منه حسب الناقد المغربي أحمد بلاطي. ومن خصوصيات السرد البوليسي أن يرفق فضاؤه المكاني بإجراء تقني يمنحه لوناً بوليسياً، يسمى: "التطويع"، أي تحويل المكان من بنية سردية عامة، إلى بنية بوليسية خاصة تغذي المخيال وتؤطره. غير أنه يعترضنا إشكال مرجعي للمغامرة البوليسية العربية التي يفترض فيها أن تقع في مدينة ما، تتوفر على أدنى شروط البوليسية. فهل تستجيب المدينة العربية لمتطلبات هذا الجنس أو تصلح فضاءً لواقع يمكن أن يُبنى عليه تخييل سردي بوليسي في مستوى عالمي؟ لقد باتت إشكالية "بولسة" المدينة العربية، من أهم تحديات السرد العربي، حين ينطلق روائينا من مدينته غير المؤهلة حضارياَ ولا تاريخياً ولا سياسياً ولا اجتماعيا لإنتاج واقع بوليسي. ولعل إكراهات التطويع البوليسي لمدينة غير بوليسية، هو ما شكل عائقاً أمام الروائي العربي، ما جعل الكتابة البوليسية من أندر الأنماط السردية في العالم العربي.
هناك أشكال عديدة للسرد البوليسي وهي:
1 ـ الرواية ذات اللغز، وهي النمط الأولي التقليدي أو الكلاسيكي للسرد البوليسي، وهي رواية لا تقدم لقارئها قصة واحدة بل قصتين: قصة الجريمة وقصة التحقق؛ تروي الأولى ما حدث بالفعل "في الواقع المسرود"، وتروي الثانية كيفية إخبار القارئ أو الراوي بالجريمة التي بنيت عليها الرواية. لتصل أخيراً إلى حل اللغز الذي تنبني عليه الرواية وبحله تحل عقدتها الرئيسة سواء أكانت نهايتها المتعلقة بمصائر الشخصيات مفتوحة أم مغلقة. وهذا ما يسمى بالسرد المركب. الذي طبع المنجزات الأولى للسرد البوليسي.
2 ـ الرواية البوليسية السوداء: وهي رواية كلاسيكية النمط، لأنها تقوم على بنية سابقتها "الرواية ذات اللغز" حين تدمج قصتيها الرئيستين "قصة الجريمة وقصة التحقيق"، لكنها تلغي الأولى أو تسطحها وتحيي الثانية وتعمق أثرها، لأن التحقيق هنا هو المقود المخيالي للمغامرة البوليسية. ومن مسوغات وصفها بالسوداء؛ أن التحقيق في جرائمها يسير في الظل، والعمل الجاسوسي فيها تحت جنح الظلام، وخارج مواعيد المهام الرسمية بالنسبة للمحققين الذين عادة ما يمتزج تحقيقهم البوليسي بمشاكلهم الاجتماعية، ونموذج هذا الشكل: رواية "الحوت الأعمى" للكاتبين المغربيين، ميلودي حمدوشي، وعبد الإله الحمدوشي، التي تتجلى فيها كافة ملامح الرواية السوداء. بمحمولاتها الشكلية في قصتيها الإطاريتين "الجريمة والتحقيق"، كما في محكياتها الضمنية:"الهواجس النفسية والخيبات الاجتماعية للمحقق والمطاردات الرسمية وغير الرسمية".
3 ـ الرواية البوليسية النفسية: وهي رواية يتخندق السرد بها في زاوية الهاجس النفسي والحس المأساوي، والهوس المرضي أكثر منه في مدارات الحدث والتحري البوليسيين. ونموذجها العربي الأبرز:"اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، إذ يعلن هذا النص عن نزوعه النفسي من خلال استغوار الهواجس الباطنية وطغيانها على كل تفاصيل النص التي بدت بلا معنى ما لم تتصل وتتغذى ولو بإطلالة على نفسية شخصيتها الرئيسة المدورة والانطوائية: سعيد مهران، البطل المتخبط في تناقضاته كأب ذليل وزوج فاشل، ومواطن شريد خائب، مهضوم الحقوق، ما قاده إلى التمرد عن القيم والقوانين حين انعدمت الحلول وأوصدت أمامه كل الأبواب.
4ـ الرواية البوليسية الاجتماعية: يتم تسليط الضوء في هذا النمط البوليسي على مآزق الحياة الشخصية سواء لرجال التحقق والشرطة الذين نلفيهم دوماً آباء وأزواجا فاشلين اجتماعياً وعاطفياً، شأنهم في ذلك شأن المجرمين الذين يكون تحديهم للقوانين وتمردهم على المجتمع ناجماً عن مرض أو صدمة أو انسداد أفق تسبب فيه هذا المجتمع نفسه، ونموذج هذا الشكل رواية "نبضات آخر الليل" للجزائرية نسيمة بولوفة، وهي رواية اجتماعية أكثر منها بوليسية، حيث جاء الخطاب البوليسي فيها خادماً للبعد الاجتماعي الذي حظي في النص بتبئير عميق جعل منه مجموعة من السير الذاتية لجملة من محققي الشرطة، عارضاً مشاكلهم الاجتماعية والعائلية الخاصة، ودخولهم كوسطاء في حل مشاكل اجتماعية لغيرهم من الشخصيات.
5ـ الرواية البوليسية الأسطورية: لعل أهم قفزة عرفها السرد البوليسي في تاريخه هي تلك التي دخل فيها منعرج استثمار التراث الرمزي الميثولوجي، مما سمح بتحويل متسارع لروايات هذا الجنس السردي إلى أفلام سينمائية. ومما حفز على الانتقال من النص إلى الفيلم هو قيام هذا النوع من الرواية على مواد أولية تنتمي إلى التراث الرمزي والأسطوري العالمي، واستثمار مخزونات الأدب الشعبي للأمم. ومن أبرز مستثمري التراث الرمزي الأسطوري والثقافات والمعتقدات القديمة في السرد البوليسي العالمي، نذكر في بواكير هذا السرد: رواية "الميت الحي" المشهورة بـ "دراكولا" للكاتب الإيرلندي برام ستوكر، وصولاً إلى ما تبدعه أقلام هذ العصر في صورة ما يقدمه الروائي الأمريكي دان براون من روايات يتعالى فيها الأسطوري والرمزي على البوليسي "شيفرة دافينشي، الرمز المفقود، الحصن الرقمي" والبرازيلي باولو كويلو في رواياته "الظاهر، الخيميائي، الرابح يبقى وحيداً" وقد منحت هذه الثقافة الأسطورية للشكل البوليسي امتدادات تجريدية تتداخل فيها رموز الأدب الشعبي مع ميثولوجيا المعتقدات القديمة وخطابها الرمزي، وقد انتهلت الرواية البوليسية العربية من هذا المعين الرمزي والأسطوري للسرد البوليسي، وهو ما اشتغلت عليه رواية "سكرات نجمة" للجزائرية أمل بوشارب، التي غاصت في تعريج هذا النمط البوليسي، إلى درجة طغت فيها لغة الرمز الميثولوجي على لغة السرد. رغم أن هذا العمل كلاسيكي التأثيث وتقليدي الهيكل والمبنى من أول حدث جرائمي كلاسيكي إلى آخر حل كلاسيكي أيضاً عند كشف صاحب الجريمة كمنتهى لجميع العقد. وإن لم يجدد هذا النص من هيكل السرد البوليسي التقليدي فقد يحسب له على الأقل أنه منح بعداً رمزياً أسطورياً للسرد البوليسي العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ ناقد وأكاديمي جزائري