ادب وفن

حفل تأبين الفنان الكبير الراحل عبد الجبار البناء

شهدت قاعة منتدى "بيتنا الثقافي" في ساحة الاندلس ببغداد يوم امس الاول السبت، حفل تأبين للفنان الكبير الراحل عبد الجبار البناء، دعت اليه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في مناسبة اربعينيته.
شارك في التأبين جمهور غفير تصدره عدد من قادة الحزب ومن الوجوه التشكيلية والثقافية، وألقيت فيه كلمات باسم جمعية الفنانين التشكيليين، وباسم عائلة الفقيد، وقصيدة لصديق الراحل ورفيقه حكمت شبر. وسبقت ذلك كلمة اللجنة المركزية للحزب، تلتها كلمة للاستاذ احمد ابراهيم.
 ننشر نصي الكلمتين الاخيرتين، والى جانبهما ننشر شيئا مما تختزنه ذاكرة صديق الفنان الراحل خالد عبد عميش الجنابي.
في رحيل عبد الجبار البنا.. الحلم الذي لا ينتهي / احمد علي ابراهيم*
ليس بعيدا عن مديات الذاكرة ذلك العنت الاستبدادي الذي احاط حياتنا ولونها بألوان قاتمة لمن بقي على قيد الحياة يتطلع الى نافذة يستنشق منها ما يوقد صبره ويمنحه مزيدا من القوة. وكأي عالم لا يليق بكرامة الانسان اكتشفنا مثل بقية الناس كيف نحمي انفسنا من الطغيان ولكن في الوقت نفسه كيف نجعل من التواصل غير المعلن نمطا حياتيا جديدا، وهكذا كان لكل منا اكثر من مجموعة او محفل او ملتقى.
مع عبد الجبار البناء ود. كمال احمد مظهر والراحلان سالم عبيد النعمان وعبد الفتاح ابراهيم ود. حكمت شبّر وصباح جميل العمران وامجد الحمداني وعدد آخر من الوجوه الاجتماعية كانت تجري لقاءاتنا المنظمة نستعرض فيها هموم شعبنا وتطورات الاحداث والاحتمالات المتوقعة وكان لكل منا ايضا امتداداته في تجمعات اخرى. كان عبد الجبار البناء يمتلك شيئا آخر لا نجاريه فيه صنعته التي يمارس بها وخلالها لعبة كشف الزيف لسلطة مارقة ويعيد في كل مخلوق يصنعه تشكيل فضاءاته الخاصة وجوه متعبة وعيون غائرة وانحناءات مرهقة بالضيم تلك العابه الخطرة الخارجة من واقع مأزوم الباحثة عن فضاء تلقى فيه صراخها حيث لا يسمع الصدى.
كانت المرأة عنده رمز النماء والولادة المحتملة والخصب في مناخ الجفاف وقد اهداني منحوتة برونزية لشبح انسان يحتضن امرأة وما بينهما رمز العطاء البقرة التي آمن بها مئات الملايين من بني البشر. كنت اجده يعيد رسم افكار جواد سليم والرحال لكنه ظل مؤمنا بهما روادا لفن عراقي عظيم بعد ان اختار طريقه الخاص في التجريد واعادة بناء هياكل مخلوقاته واصفا اياها بالابناء والبنات بكل ما يحمله من عواطف اتجاه ابنائه.
حياة الفنان الكبير عبد الجبار البناء ومسيرته الفنية الرائدة تغرينا بأن نمر على بعض المحطات الاستثنائية من حياته الثرية بكل تجلياتها بعد ان غادرنا في رحلته الابدية. وها انا استعيد من الذاكرة منجزه المهم الذي قدمه في المعرض الاستعادي الثامن في نهاية القرن الماضي.
وحيث دعانا مع بعض الاصدقاء الى زيارته في منزله الذي حوله الى ورشة عمل كبيرة للاطلاع على الاعمال التي كان ينوي عرضها على قاعة ما كان يعرف بمركز صدام للفنون التابع لوزارة الثقافة. وكنا في ضيافته مجموعة من اصدقائه المقربين اذكر منهم الدكتور حكمت شبر والدكتور كمال احمد مظهر والاستاذ المرحوم عبد الفتاح ابراهيم والاستاذ المرحوم سالم عبيد النعمان وآخرين، وبعد الاطلاع على اعماله اخبرت الاستاذ عبد الجبار (ابو دريد) برغبتي في اقتناء منحوتة خشبية سماها (عناق) وجدت فيها براعة فنية كبيرة.
وفي يوم المعرض الذي افتتحه وزير الثقافة في حينه الدكتور همام عبد الخالق حضر جمع غفير من الفنانين والمثقفين وعدد من ممثلي الملحقيات الثقافية للسفارات الاجنبية وفي المقدمة منها السفارة الفرنسية. واتذكر جيدا ان المرحومة ام دريد قرينة فناننا الكبير ورفيقة رحلته الحياتية الطويلة والشاقة كانت تقف بجانب منضدة وضع عليها سجلا للتشريفات يدون فيه الزائرون ملاحظاتهم واقوالهم عن المعروضات، وفي حين خلا المعرض الذي ضم مئات الاعمال من المنحوتات الخشبية والبرونزية واللوحات من اي عمل يمجد الطاغية تساءل الوزير في استغراب عن غياب مثل هذا العمل في معرض يغطي نشاط الفنان على مدى اربعة عقود او ما يمكن ان يخلد صفحات مجد للنظام الذي طالما تسابق الفنانون على اظهارها في مثل هذه المناسبات سواء كان ذلك عن قناعة بما يفعلون او مضطرين كما يدعون. وقد اجابه ابو دريد بوضوح شديد بانه لا يستطيع الا ان يجسد ما في عقله وضميره من احساس صادق وهو لا يمتلك ان يؤدي دورا لا يقدر عليه.
وقد سبب ذلك حرجا للوزير المهذب فالتفت الى ام دريد قائلا بابتسامة: ام دريد ديري بالج على رجلج. بكل ما في هذه الجملة من معاني مزدوجة توحي بالحرص وايضا بالتحسب والتخويف. وبالعودة الى المعرض فقد حظيت منحوتة (عناق) الخشبية باهتمام السفارة الفرنسية وعدد آخر من الزائرين وبخاصة الاجانب وعبر عدد منهم عن رغبته في اقتناء المنحوتة التي كتب عليها (محجوزة).
وبعد انتهاء المعرض كتب عدد غير قليل من الفنانين والنقاد عن المعرض وخصوا بالذكر هذه المنحوتة التي اثارت اهتمام الصحف والمجلات الثقافية وكتب عنها عدد كبير من المقالات ما زلت احتفظ بها في مكتبتي الخاصة.
وقد سُئلت في حينه عن المنحوتة فكان جوابي ان اهميتها لا تأتي فقط من الابداع الذي يتجسد في قدرة الفنان على تطويع الخشب واقترابه من التجريد في محاكاة للتراث العراقي العظيم الذي جسده جواد سليم وخالد الرحال، وانما في ذلك (الفراغ) الذي اسكنه الفنان في قلب المنحوتة على شكل نصف انسان مقلوب على رأسه، وكأنه اراد ان يعطي لهذه المنحوتة ذلك البعد الفلسفي لوحدة التناقض، بين ما هو انساني ينزع الى تواصل ويتجسد في الحب والعناق وبين الكوامن الدفينة في النفس البشرية التي لا تعرف مدياتها باتجاه العزلة والانفصام او بين الحياة المتجددة دائما عبر التلاقي والتفاني والاندماج وبين اشكال من العدمية وما تعكسه من تجارب الانكفاء على الذات، بين الفضيلة بتجلياتها الانسانية التي تغمر الحياة البشرية بالاحساس بالجمال وبين النفاق المضمر الذي يكمن في داخل الانسان كالحشرة في قلب الزهرة. هكذا رأيت في هذه المنحوتة افكارا حرة تسبح في الافق الواسع لها.
وقد راودني في حينه احساس غريب في ان ثمة ما هو مشترك في جميع منحوتاته حين شعرت بان مخلوقاته كانت تريد ان تصرخ لكن ثمة ما يمنعها عن ذلك، وعندما سألت الفنان عبد الجبار عن هذا الاحساس اجابني بسرعة: نعم هذا انا فوالدتي تقول انني عندما ولدت كنت اصرخ بدون صوت. كانت مخلوقاته يائسة مختلقة ولدت شعوراً بالهزيمة وفي الحقيقة كان ذلك صورة للانسان المقموع حيث يفقد القدرة على الاحتجاج.
اليوم وبعد هذه السنوات الطويلة ولأهمية منحوتة (عناق) اتمنى على امانة بغداد ان تجسد هذا العمل الفني المهم ليكون شاهدا في احدى ساحات بغداد عنوانا للفن الجميل وعرفانا لما قدمه هذا الفنان الوطني الذي لم يعرف الخنوع للدكتاتورية، وظل على الدوام قامة سامقة تستحق التكريم على مواقفها وما ابدعته في نضال طويل وحياة زاخرة بالفضيلة.
كانت ولادة الفنان عبد الجبار في بيئة شعبية في باب الشيخ ومنها استمد ايمانه بالدفاع المطلق عن الحياة الشعبية فألهمته الابداع باشكال فريدة كانت منحازة على الدوام الى فقراء وطنه وكادحيه وفيها تعرف وبنى صداقات مع جيل متفرد بالوطنية وظل يحتفظ بمشاعر متوهجة عن محمد حسين ابو العيس ومحمد صالح العبلي وعبد الرحيم شريف وغيرهم من شهداء الحركة الوطنية المجيدة.
وحين اضطر بعد عام 1963 ان يعيش في المنفى ظلت رؤاه عالقة في سماء بلده رغم الجور والاستبداد وعاد في اول فرصة اتيحت له في عام 1968 ليواصل مسيرته الفنية والنضالية فاقام معارض كبيرة في اعوام (1969- 1974- 1978- 2000)، ومعارض اخرى بعد سقوط الدكتاتورية.
ان تجربته الفنية خصبة بتمثلاتها وتعدداتها على تشكيل مخلوقاته الخارجة من عمق المجتمع ومعاناته وتضحياته، ورغم ما عاناه في اعوامه الاخيرة من مشكال صحية وخسارته الكبرى لرفيقة دربه ام دريد، الا انه ظل متمسكا بالعمل حيث تحول منزله الى ورشة كبيرة فالفن بالنسبة له وسيلة جدية للتعبير عن فكره الانساني ازاء الحياة وما يتعرض له الانسان من استلاب وحرمان واغتراب، ولذلك كانت مخلوقاته تصرخ وكأنها تقاوم من اجل حياة كان هو يحلم بها لبني البشر ولابناء وطنه، اضافة الى شغفه بالقراءة ومتابعة ما انتجه الفكر الانساني في حقول الادب المختلفة واصطفى لنفسه موقفا خاصا جسده بتمثال نصفي من الجبس لرب الشعر الجواهري الكبير الذي طالما ردد وحفظ الكثير من شعره العظيم.
في الثلاثين من ايلول من هذا العام غادرنا (ابو دريد) بكل مجده ليرقد بسلام في عالمه الابدي ملتحفا تراب وطنه الذي اخلص له وأحبه ودافع عنه مانحا الاجيال القادمة إرثه الفني الكبير، تاركا عند اصدقائه سطوع رؤياه وعظمة روح ملهمة وحلم لا ينتهي.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* المنسق العام للتيار الديمقراطي العراقي
************
ستبقى ذكراه تشحذ فينا الحب للناس والوطن*
حزينا وكئيبا كان ذلك اليوم .. الجمعة، التاسع والعشرين من ايلول الفائت. يوم وَهَنَ القلب الكبير، الذي عرفناه عارما لا يكل ولا يتعب .. وذوى نوره الدافق المشع.
كانت لحظات قلق وخوف داهمين، بدت طويلة .. وبدت خاطفة في الآن ذاته. وحين كفت في النهاية، كان القلب المضطرم قد كف عن الخفقان، والضياء قد انطفأ. كان الانسان والفنان الكبير، الشيوعي الصدوق الامين عبد الجبار البناء، قد اغمض العينين مودعا.
ونعى حزبنا رفيقه الوفي معلنا: "جسيمة هي خسارتنا وخسارة الفن والثقافة العراقيين برحيل ابي دريد"!
وكانت جسيمة حقا ..
نشأ الفقيد في بيت بغدادي بسيط وسط محلة شعبية عريقة، زمن اليقظة العراقية الحديثة، ونشوء الحركة الوطنية، والنهوض لمقارعة التخلف والظلم والاستغلال، والنضال ضد قمع الانظمة الرجعية المتعاقبة، في عشرينات وثلاثينات واربعينات وخمسينات القرن الماضي.
تعلم من والده البناء حب العمل والتشكيل والعطاء.
وتأثر في اواسط الثلاثينات، وهو تلميذ في الخامس الابتدائي، بأحد معلميه في المدرسة: حسين محمد الشبيبي، القائد الشيوعي في ما بعد، الذي تسامى شهيدا سنة 1949 مع رفيقيه يوسف سلمان وزكي بسيم .. تأثر به وبحبه وانحيازه للناس – للعامة الكادحين المحرومين، وانشغاله بهمومهم.
وفي سجن بغداد المركزي الذي زُج به فيه عام 1953، عقابا على وفائه لافكار معلمه الشبيبي ومثله التقدمية، ونشاطه العملي لنشرها، علمه قيادي شيوعي آخر هو الشهيد عبد الرحيم شريف، الفباء الماركسية والشيوعية.
فلما خرج من السجن توجه نحو الحزب الشيوعي لينضم اليه.
ومنذ ذلك الحين، وعلى امتداد الستين عاما ونيّف التالية، حتى لحظة توقف انفاسه، بقي ابو دريد امينا على العهد، مخلصا لحزبه ولافكاره ومثله ونهجه، ساعيا الى تجسيدها في حياته وعمله وسلوكه.
وفي اثناء الفترة التي التحق فيها الفقيد عبد الجبار البناء بالشيوعيين وحزبهم، كان قد وجد الطريق لتحقيق حلمه في دراسة الفن التشكيلي، وبالذات فن النحت. الفن الذي بقي منذ أثنى عليه معلمه الشبيبي، وهو يشاهد في المعرض المدرسي رأس فتاة نحته وهو ابنُ ثلاثة عشر عاما، وقال له متنبئا انه سيغدو "خوش نحات" .. بقي يتمسك به دون دراية، بتعامله مع الطين تشكيلا ونحتا بسيطين، ويتمنى لو يجد من يعلمه اصول تلك الصنعة واسرار ذلك الفن.
وقد وجد ضالته في ما بعد، عندما تم قبوله للدراسة في معهد الفنون الجميلة، الذي لم تكن قد مرت سنين طويلة على افتتاحه.
وفي المعهد وجدت موهبته خير من يرعاها ويهذبها وينميها: الفنان النحات جواد سليم، الذي كان رأسه يضج بالافكار والمشاريع التشكيلية الكبيرة، وبضمنها مشروع رصد واجتذاب المواهب الشابة والعناية بها وتعليمها.
كان عبد الجبار محظوظا. وقد مكنه تتلمذه على يد جواد سليم من التطور السريع فنيا، ليحتل لاحقا وتدريجا موقعه، ضمن الجيل الثاني من رواد النحت العراقي المعاصر.
ومنذ البداية في سنوات الخمسين من القرن الماضي، تشابكت مسيرتا عبد الجبار البناء الفنية والنضالية، حتى اندمجتا. فانصرف الى الابداع الفني مثلما انغمر في الكفاح الوطني والتقدمي، ملتزما في الحالين قضايا الانسان والحرية والعدالة والجمال والخير. وكما عجز في ما بعد عن استساغة الحياة من دون عطاء فني، فانصرف الى الرسم جالسا في سنواته الاخيرة، عندما سلبه التقدم في السن القدرة على الحركة والوقوف اللذين يتطلبهما الانتاج النحتي .. كذلك بقي متمسكا على الدوام بحزبه الشيوعي، مخلصا لفكره وقيمه ومُثُله، وفيا لرفاق الدرب والنضال المتفاني.
وإن ننسى فلا ننسى حرصه على الحضور الدائم، طول السنوات الماضية، فنيا وشخصيا، في الفعاليات الحزبية المتنوعة، وبضمنها ما يقام هنا على هذه القاعة، ثم خاصة منها المعارض التشكيلية السنوية، المقامة في مختلف قاعات العرض البغدادية، في ذكرى التأسيس اواخر آذار من كل عام.
ما اكثر ما عبّر ابو دريد، في تلك المناسبات وفي الكثير غيرها، عن تشبثه بالقيم الكبرى التي انشد اليها طول حياته، قيم الانسان والحياة والابداع، قيم العطاء الفني الرفيع، والوفاء لقضية الشعب وسعادته، والوطن وحريته.
ستبقى ذكراه تنير قلوبنا وعقولنا
وتبقى تشحذ فينا الحب للناس والوطن والابداع والجمال
ــــــــــــــــــــــــــ
* كلمة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي القاها الرفيق مفيد الجزائري
***********
ما لا يعرفه الآخرون عن الفنان عبد الجبار البناء / خالد عبد عميش الجنابي
تعود علاقتي بالفقيد العزيز الى عام 1970 حينما كان يستقل باص المصلحة رقم 69 من امام داري في منطقة البلديات الى الباب الشرقي، ومما عزز وعمّق هذه العلاقة وجود اصدقاء مشتركين هما الفنان الراحل علي الشعلان وزوجته الاديبة والمترجمة المدبعة الراحلة احسان الملائكة، حيث كانا جارين لي في المنطقة نفسها.
كان طيب المعشر حلو الحديث جميله، يحمل قلباً نقياً، قلب طفل، لا تشوبه شائبة في حب الناس وكثيراً ما كان يقول انني عندما اضع رأسي على الوسادة احس بأنني متصالح مع الجميع الا واحداً، وهذا الواحد كاد ان يودي به الى حبل المشنقة، في الوقت الذي كان هو من مد له يد العون والمساعدة في احلك الظروف وانتشله من وحدة التشرد والضياع.
اصدقاؤه كثر ومعارفه اكثر، زياراته دائمة ودائبة لاصدقائه ومعارفه ومحبيه ولهذا كنا ننطلق في ايام الجمع بسيارته لزيارة العزيز المرحوم سالم عبيد النعمان (ابو غانم)، نتوجه بعدها الى زيارة الاديبة الكبيرة بديعة امين ثم نتوجه بعدها لزيارة د. حكمت شبر الذي احرق مؤلفاته عميد كلية الادارة والاقتصاد آنذاك لانه شيوعي. وفي طريق عودتنا نلقي التحايا والسلام على المرحوم الشاعر الكبير خالد الشواف. وفي يوم آخر نزور الوطني الشجاع عبد الفتاح ابراهيم في داره الواقعة في الاعظمية/ شارع الضباط ونلتقي هناك بخيرة الناس امثال طه سالم وفؤاد عارف وآخرين.
له علاقات طيبة ومتينة مع الفنانين والنحاتين على وجه الخصوص: عادل كامل، صادق ربيع، طه وهيب وآخرون. وكثيرا ما كنا نزور قاعة الدروبي واللقاء بالعزيزة سافرة جميل حافظ التي كانت تستقبلنا بالترحاب وتنساب الاحاديث عن مجمل الوضع العام، الفني منه والسياسي. وكان يرتاد جميع المعارض الفنية التي تقام لفنانين من العراق ويلتقي بهم وتنساب الاحاديث هادئة بينهم.
كان شهما كريما لم يتوان يوما في مد يد العون للآخرين سواء كان بالمال او المواد العينية. وقد كنت اصحبه الى الاسواق لشراء ما تحتاجه العوائل من المواد، ولكنني لم ولن انسى ذلك اليوم الذي صحبته فيه الى باب الشيخ/ منطقة فضوة عرب حيث ركنا السيارة هناك وحملنا ما جئنا به من مواد غذائية (مسواك دسم) وانطلقنا ننهب المنعطفات والدرابين الى ان وصلنا احدى الدرابين غير النافذة وهناك قرع الباب وتكرمت عجوز بفتح الباب والترحاب بنا حتى كادت تزغرد من فرط فرحتها بقدومنا، واشارت الينا ان (حسين) في الغرفة العليا. وضعنا ما كنا نحمله من مواد وصعدنا الدرج وما ان دخل الغرفة حتى رمقه حسين بنظرة وصرخ باعلى صوته الله اكبر.. الله اكبر لك داد جبار هسا جنت افكر بيك واكول شلون اشوفك. الله اكبر. وتعانقا وهما ينشجان حتى استعر النشيج ليصبح بكاء.
راح يسأل الواحد منهم الآخر عن احواله وامضينا معه فترة ليست بالقصيرة. اخرج ابو دريد من جيبه مظروفا ودسه تحت مخدة حسين. رفض حسين الا ان ابو دريد اصر. تعانقا مجددا ووعده ان يزوره في القادم من الايام.
وبداعي الفضول سألته من يكون هذا الرجل فاجابني انه يدعى (حسين جلّوگه) وقد كان يدور بعربته في منطقة باب الشيخ حيث يسكن ابو دريد، يبيع الباقلاء. ولم يسلم اي من اولاد عبد الجبار البناء من ضربات حسين جلّوگه بطاسة الباقلاء او السباب لانهم كانوا يتحرشون به وبخاصة ابنته البكر.
كان العزيز ابو دريد محبا لا بل عاشقا لزيد بن علي بن الحسين لانه يعتبره من الثوار، فكنا في اليوم الاول من محرم من كل عام نتوجه بسيارته الكرونا من بغداد الى كربلاء مع زوجاتنا نؤدي مراسيم الزيارة للعتبات المقدسة ثم نتوجه الى علوة بيع التمور لنشتري ما لذ وطاب من انواع التمور الكربلائية، بعدها نتوجه الى النجف لتأدية الزيارة ثم نعود على الطريق الآخر حيث مرقد الشهيد زيد بن علي الذي يبعد بحدود 7كم عن مدينة الكفل. وهناك نؤدي مراسيم الزيارة ثم ننتحي مكانا تحت احدى المسقفات داخل الصحن الزيدي قبالة نخلة طويلة نتوسط مجموعة من بناتها اللاتي تحلقن حولها، وتأخذه الرؤى بعيدا الى حيث مأساة زيد ثم ينتحب. الى هذا الحد كان رقيقا. وفي طريق العودة يتحفنا بوصلة من المقام العراقي بصوته الشجي على طريقة يوسف عمر يملأ فيه وقت عودتنا. وحين اسأل في اليوم التالي عن سلال التمر تجيبني المرحومة ام دريد بانه وزعها على احبته من الجيران والاصدقاء. هكذا كان كريما وطيب الذات، وكان يقول: عندما تطأ قدمك ارض منطقة تزورها فلا بد ان تشتري من منتجها شيئا. عندما صارت الصائرة عام 2003 كان يدور بسيارته على الاصدقاء والاقرباء ليطمئن على احوالهم. ومن سمات كرمه ايضا اننا زرنا المرحوم زهير احمد القيسي شتاءً فلاحظ ان زهير لا يمتلك مدفأة لتدفئة المكان الذي نجلس فيه فما كان منه الا ان اشترى واحدة واوصلها اليه في اليوم التالي، كما لاحظ ان احد اصدقائه قد اغرق المطر بيته فلم يعد لديه ما يفرشه على الارض فما كان منه الا ان طوى سجادة غرفته وقدمها له.
طرحت عليه مرة في عام 2003، اي بعد التغيير، ان اقوم باعداد محاضرة عن مسيرته الفنية ويلقيها هو في مقر الحزب. رحب بالفكرة واتفقت مع الشهيد د. شاكر اللامي ان يقوم بتقديمه، وفعلا تم ذلك وكانت مناسبة جميلة في حينها. سيبقى ابو دريد حيا في ضمائرنا وشعلة وهاجة على الدوام.