ادب وفن

ناظم رمزي وداعاً / فيصل لعيبي صاحي

ظهر التصوير الضوئي في باريس ولندن معاً في عام 1839 من قبل الفنان والمصور الفرنسي لوي جاك ماندَداجيَر (1787 1851) والبريطاني الفنان المصور وِليم هِنري فوكس تالبوت
(1800- 1877). كل على إنفراد وبدون علم احدهما بالآخر. وقد إنتشر بسرعة في كافة انحاء المعمورة من نيويورك الى بكين ومن أوسلو الى جنوب افريقيا.
كانت حرفة التصوير الضوئي (الفوتوغراف) تخطو خطواتها الأولى وقتها فلم تعتبر فناً مثل فن التصوير الزيتي الذي كانت له الأفضلية بسبب الحرفة الراقية التي يملكها فنانوه فظل التصوير الضوئي كحرفة ميكانيكية لا ترتقي الى مستوى الإبداع والإتقان الفني الذي وصلها فن الرسم الزيتي في نهاية القرن التاسع عشر تقريباً.
لقد طرح هذا الفن سؤالاً على فناني التصوير بالألوان الزيتية وغيرها من المواد المختصة بفن الرسم والتلوين ألا وهو، إذا كانت الكاميرا قد عكست صورة العالم الخارجي بمختلف أشكاله وبدقة متناهية فما قيمة الرسم الواقعي إذن ? فكانوا يبحثون عن طرق جديدة للتعبير، لكن مع بزوغ القرن العشرين تحرر الفنان الغربي من هيمنة الواقع عليه ودخل في مشاغل التقنيات والتعبير الداخلي لمعاناته وبطرق بعيدة جداً عن أساليب القرون الماضية لفن التصوير الزيتي كما أصبحت اللوحة تستمد شرعيتها من داخلها وليس من العالم الخارجي، فتغيرت المفاهيم والقيم وحتى الأدوار.
اخذ فن التصوير الضوئي يتقدم شيئاً فشيئاً الى ان حقق إستقلاله كفن قائم بحد ذاته، وتحرر من تبعيته السابقة لفن التصوير الزيتي وحرفيته فيما يتعلق بالموضوع والإنشاء التصويري وحتى الظلال والوضعيات والمفاهيم .
وقد ظهر الفن الضوئي عندنا من خلال الرحالة الأجانب، الذين كانوا يجوبون مناطقنا المختلفة بحثاً عما هو غريب ومختلف ومناسب لتصوراتهم الإستشراقية عنّا، وايضاً بسبب الحاجة لتصوير الحكام والولاة والشخصيات النافذة في مجتمعنا فالأخوة عبد الله وهم ثلاث اخوة من الأرمن مثلاً قد صاروا من مصوري السلطان عبد الحميد الرسميين .
وفي العراق كانت المسز بيل وفريا ستارك و ت . إي . لورنس أيضاً من بين ابرز من سجل لنا صور بدايات القرن العشرين في العراق، إضافة لمصوري الجيش البريطاني والصحافة الغربية طبعاً.
كانت الأسماء العراقية التي إهتمت بالتصوير الفوتوغرافي منذ بداية الحكم المحلي قليلة نسبياً قياساً لما هو موجود في بلاد الشام ومصر وفلسطين، ولكنها حققت نتائج هامة من الناحية التسجيلية والوثائقية، واهتم بعضها بالجانب الفني البحت أيضاً، امثال المصورالأرمني أرشاك يوسف يانيكيان كامل الجادرجي حازم باك مراد الداغستاني، ناظم رمزي لطيف العاني كريم مجيد (عمو كريم) عبد الرحمن محمد عارف (المصور الأهلي) احمد القباني جاسم الزبيدي رفعة الجادرجي، فؤاد شاكر، سامي النصراوي، قاسم عبد قتيبة الجنابي هيثم فتح الله خالد خزعل وعلي طالب وغيرهم. والتصوير الضوئي أو الفتوغراف العراقي بدأ مثل بداية الرسم العراقي نفسه. متتبعاً خطى الحياة وعاكساً المواضيع التي كان الناس يميلون الى تجسيدها. صور سياحية مشاهد شعبية، آثار وأبنية تاريخية مع صورعن الطبيعة والمجتمع بشكل عام. لم تكن هناك مواقف محددة من الموضوع المصوَر، ولم يفكر المصوِر وقتها بغير تسجيل لقطة لحظة من الزمن الجاري - كانت هذه الصور تستهوي الأجانب، كما كان قسماً منها مفبركاً داخل الأستوديو، كأن تصور فتاة بالعباءة وهي تضع على كتفها جرة الماء وتغطي نصف وجهها بعباءتها وغيرها من صور النساء والرجال الذين كان المصورون يستخدمونهم في صورهم السياحية أوالتجارية .
لكن مع السياسي العراقي البارز الأستاذ كامل الجادرجي، - الذي بدأ بتصوير حياة الناس في العراق ومهنهم منذ ثلاثينيات القرن الماضي - بدأت آلة التصوير، تأخذ موقفاً آخر من الموضوع. أصبحت الصورة ذات مغزى، ولها علاقة بما يجري على الأرض هناك كتاب خاص بصور الأستاذ كامل الجادرجي طبعه ولده المعماري الفنان رفعة الجادرجي قبل سنوات - فأصبح التصوير الآلي او الضوئي يتخذ موقفاً واضحاً من الأحداث والعلاقات الإجتماعية، وصارالمصور منحازاً وله رأيه الخاص بما يدور حوله .
لكن كل ماتم خلال قرن كامل من التصوير، تقريباً من قبل هؤلاء المصورين،لم يفكر مصور عراقي واحدمنهم بطبع أعماله بكتاب خاص به، بإستثناء الفنان الكبير ناظم رمزي، فقد اصدر اكثر من كتاب عن اعماله التصويرية ومنذ ستينات القرن الماضي ولحسن حظنا ان الفنان ناظم كان يملك مطبعة جيدة ايضاً تناسب ما تتصف به أعماله التصويرية من دقة ومهارة وفن وأقام أيضاً اول معرض للفن الوتوغرافي في العراق. وقد تبعه بعد ذلك العديد من المصورين في طبع أعمالهم في كتب خاصة بهم وإقامة المعارض .
لكن من هو ناظم رمزي هذا؟؟
رسام كاريكاتيري، خطاط مصمم حروف طباعية راقية أول من ادخل الطباعة الفنية الحديثة في العراق، مطور الإعلان الفني والتجاري الحديث، مدني متحرر من الفرعيات الأثِنية ومنتمي للعراق كله، حفظ أهم اللحظات التي مرت على عراقنامنذ أربعينيات القرن الماضي في صور فنية غاية في الدقة والمهارة. أحد مؤسسي ودعاة الحداثة الأوائل في عراقنا ..مصور فني مذهل ومصور سينمائي في فيلم (عليا وعصام)عام 1948 ماذا بعد؟؟ إنسان من طراز نادر وفريد .
ولد الفنان ناظم رمزي عام 1928 كما يذكر في كتابه (من الذاكرة) الصادرفي عام 2008 عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، وهو غير متأكد من التاريخ لكني سمعته وبحضور الراحل الفنان الكبير محمود صبري يقول: أنه مولود ومحمود بسنة واحدة وهذا معناه أنه من مواليد عام 1927 .كانت طفولته مليئة بالشجن والأوجاع وبقدر موازي من المرح والشيطنة والتمرد. مرضت والدته وهو صغير، فتبنته خالته وجدته من أمه وتربى بعيداً عن والده بسبب طبيعة وظيفته كقائم مقام والتي تتطلب التنقل من مكان الى آخر بشكل دائم، وكان الوالد يختلف في طبعه عن ولده رمزي ولايتعاطف مع رغباته وميوله الفنية. وظل الوالد والولد في نزاع بين عاطفة الأبوة وحب الإبن لأبيه، وبين إختلاف الأمزجة والرؤى وإحتياجات الطفل الذي لا يستقر على حال : " أنا مثل الزمبلك لا أهدأ ولا أستقر على حال " .
من أصدقائه بديع وكمال أولاد الكاتب والصحفي اللامع والوزير في العهد الملكي روفائيل بطي. درّسه المناضل الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) الرياضيات في كلية الملك فيصل،التي كانت مقتصرة على النابغين من أبناء العراق لكنه يعترف في انه دخلها بالواسطة عن طريق دفعه 60 ديناراً كبدل تسجيل كما يذكر في كتابه (من الذاكرة). ومع انه من طلاّب هذه الكلية لكنه كان يحب معاشرة بسطاء الناس ويهتم بهم وقد منحهم كل وقته في التصوير، ليعكس معاناتهم وتطلعاتهم. كان وهو يافعاً يأخذ قسماً من مؤونة الدار التي عاش بها مترفاً، ليقدمها لعوائل أصدقائه والمحتاجين من الجيران، وكان هذا يثير غضب الوالد عليه، كما بدأ منذ صغره في الإعتماد على نفسه في تدبير شؤونه المالية، وله في هذا حكايات طريفة نشرها في كتابه المشار إليه اعلاه .
أول رسوماته في الصحافة كانت في مجلة (الثقافة الرياضية) عندما كان طالباً في كلية فيصل وهو لا يتجاوز السبعة عشر وبتكليف من أستاذه في الكلية نوري عمران مدرس الرياضة، وكانت عبارة عن رسوم للتمارين الرياضية نسخها عن مجلة غربية تهتم بالصحة البدنية. وأنتبه لفن الكاريكاتير، عندما زار معرض الفنان سعاد سليم للكاريكاتير،الشقيق الأكبر للفنان الخالد جواد سليم، في أربعينيات القرن الماضي، وهو اول معرض لفن الكاريكاتير في العراق. من أصحابه المقربين الفنان والخطاط ورسام صحيفة حبزبوز الفنان الساخر مصطفى طبرة والرسام غازي أبو الكاريكاتير العراقي المتميز، كما شده الخطاط الكبير هاشم محمد البغدادي والخطاط كريم رفعة الى فن الخط وبدأت خطواته في هذا الفن منذ تلك الإنتباهات، بدأ بالتفكير في إحتراف الفن بمختلف جوانبه التي نعرفها منذ تلك الأيام.
لقد تعددت مواهبه وأبدع في معظمها، عمل في خط عناوين المحلات والدوائر الرسمية ورسم للصحافة وصمم الإعلانات للسينما وغيرها وابتكر الخطوط والحروف والأشكال. وصوّر الحياة والأرض والأنسان في العراق وبقية البلدان التي زارها، ثم أسس بعد ذلك (مؤسسة رمزي للطباعة والإعلان) في الصالحية عام 1965 وكان صديقه وزميله في حرفة الطباعة الفنان مريوش فالح خير عون له في مشروعه ذاك.
إرتبط الفنان ناظم رمزي منذ بداياته الفنية بأهم رموز الإبداع العراقي في السينما والمسرح والفن التشكيلي والأدب والموسيقى وكان واحداً من رواد الحداثة العراقية التي بدأت تشع على بلادنا منذ منتصف الأربعينات وما تلاها، فقد كان صديقاً وزميلاً لفائق حسن، جواد سليم، عيسى حنّا، محمود صبري، حافظ الدروبي، عطا صبري، زيد محمد صالح زكي، نوري الراوي، إسماعيل الشيخلي، خالد القصاب، نزار سليم،رفعة الجادرجي،كاظم حيدر، دلال المفتي، وداد الأورفلي، شاكر حسن آل سعيد، قتيبة الشيخ نوري،محمد غني حكمت، خالد الرحال، خالد الجادر، جميل حمودي، فرج عبو، أرداش كاكافيان الفنان الساخر غازي الرسام إسماعيل فتاح التركوعشرات الفنانين من الأجيال اللاحقة، ومن الأدباء : بلند الحيدري حسين مردان، جبرا إبراهيم جبرا عبد الملك نوري، أنور شاؤول كمال عثمان صادق الصائغ زاهد محمد عبد الرحمن منيف وغيرهم ومن المسرحيين والممثلين هناك عزيمة توفيق يوسف العاني، إبراهيم جلال عبد الله العزاوي، يحيى فائق وآخرين، ومن الموسقيين نجد سلمان شكر، منير بشير وفريد الله ويردي الخ. إضافةًلمجموعة هامة من أعمدة المجتمع العراقي الحديث والشخصيات الإجتماعية البارزة ممن أرتبط بهم بعلاقات ود وإحترام وعمل.
كانت مساهمته في تحديث الشكل الفني للأغلفة والتصاميم الداخلية للكتاب العراقي من ابرز ما قدم للطباعة وللصحافة معاً كما كان تحديث الإعلانات الفنية من مساهماته الجادة بعد جواد سليم بالذات. ومع انه في مجال الرسم لم يتميز عن غيره من مجايليه، لكنه كان ضمن موجة الحداثة التي هبت على العراق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والمساهمين فيها. ويمكن إعتبار حروفه الطباعية التي صممها للصحافة ولتشكيل العناوين الرئيسة من أبرز الأشكال الفنية للحرف على النطاق العربي والدولي لكنها مع الأسف لم تستخدم بالشكل الذي يبرزها ويعطيها اهميتها التي تستحقها، بل كانت ستؤدي به السجن نتيجة نميمة وفرية أحدهم بدعوى تشابه بعضها مع الحرف العبري، وهي فرية عارية من الصحة قطعاً لكن الغيرة هي التي دفعت ذلك الشخص الى مثل هذه الفعلة القبيحة. فأستعملت هذه الحروف بشكل محدود، في مجلة العاملون في النفط الأقلام آفاق عربية وفنون عربية المحلة الراقية التي أسسها وكانت أحدى المجلات العزيزة على قلبه والتي كانت تعني بالفن التشكيلي العربي إذ كانت تنافس المجلات الغربية في هذا المضمار، من حيث الشكل والمضمون والطباعة والتصميم والتي ظل يعمل من اجل إصدارها سنوات طوال، حتى رأت النور في ثمانينات القرن الماضي إذ صدر العدد الأول في عام 1981 وأستمرت للعدد التاسع ثم توقفت نتيجة تدخلات النظام وزبانيته في أمورالشركة التي أسست بين الفنان ناظم والسيد نوري العبيدي، أحد المقربين من رموزالنظام آنذاك، وربما من العاملين في جهازه الأمني، الذي إنتحر لأسباب عائلية كما قيل وقتها.
يمكن إعتبار أعمال الفنان ناظم رمزي، المصورة بآلة التصوير الضوئي من أهم الأعمال التي يمكن وضعها في حقل الأنثروبولوجيا من جهة وحقل الإبداع الفني من جهة أخرى، إذ كانت للفنان ناظم رمزي عيناً ثاقبة وجادة وإنسانية بكل معنى الكلمة، في تناوله للمواضيع التي عالجها من خلال آلة التصوير التي يملكها، كما ان مهنيته وحرفيته لفن التصوير وأجهزته المتنوعة أضفت على اعماله شخصيةً مختلفة عن سائر من صور من المصورين الذين سبقوه وميزته عن الذين جاءوا بعده.
تعتبر السنوات الأولى لثورة 14 تموز المجيدة من أخصب سنوات إنتاجاته في مجال التصوير، حيث حفظ لنا جهاز تصويره، لحظات تاريخية ومؤثرة في مسيرة هذه الثورة المغدورة. وواكب أفراح الناس وآلامهم من زاخو الى الفاو، ناقلاً لنا عالما زاخراً بالخير والتنوع والثراء الباذخ مع جمال باهر،وعاكساً طقوسَ وعاداتَ وتقاليدَ عراقنا بمختلف طوائفه وقومياته وإنتماءاته . ومتخذا في أعماله هذه، الموقف الإنساني النبيل والمخلص منها.
في عام 1969 تم تلفيق تهمة التجسس ضد الفنان ناظم رمزي، لكسر شوكته وما يملكه من روح للتمرد و"هو الذي لايهدأ ولا يستقر في مكان"، حسب ماوصفته لي الفنانة الراحلة دلال المفتي رفيقة درب الشاعر الطليعي بلند الحيدري، عند مرافقتي لها بسيارتها لتوصلني الى محطة المترو، ونحن راجعان من زيارتنا له في بيته الذي كان يقع مقابل حديقة الهايد بارك في لندن قبل سنوات عديدة.
كانت هذه هي الطريقةالتي إتبعتها سلطة البعثمن قبل في إنقلابها الدموي عام 1963 وكذلك بعد مجيئها الى الحكم مرة ثانية في إنقلابها الثاني في 17 30 تموز عام 1968.لإرهاب المثقفين العراقيين. فتعرض للتعذيب والذل والإهانات التي تفنن بها جلاوزة هذا الحزب خصوصاً ضد القوى الحية في مجتمعنا العراقي. وقد شاركه الزنزانة رئيس وزراء حكومة المرحوم عبد الرحمن عارف الأستاذ عبد الرحمن البزاز، الذي أعجب بخصاله ورزانته وعقلانيته . وبعد محاولات المعارف والأصدقاء والخيرين تم إطلاق سراحه، بعد ان هدد بعقوبة الإعدام نتيجةً للتهمة الملفقة. ومن سخريات القدر ان تكون الخطوة التالية لإطلاق سراحه هي مقابلة "السيد النائب" صدام حسين الذي اخبره فيها بأنهم أرادوا إختباره طالباً منه ان يصمم لهم جريدة الحزب (الثورة) لكن هذه القضية أهملت أيضاً لأن الهدف كان هو تحذير وإنذار للذين لا يريدون التعاون مع السلطة الجديدة المكروهة اصلاً من قبل العراقيين نتيجة ما فعلته من جرائم خلال سنوات تسلطها على مقاليد الحكم في العراق.
وتعرض بيته في بغداد للتدمير والعبث من قبل أحد رموز السلطة أيام فترة الحصار، إذ إستولى عليه بشهادات مزورة ففقدنا أرشيفاً هاماً من الصور الفوتوغرافية والشرائط التي التي لم تطبع بعد و كذلك الكتب والأعمال الفنية، التي كانت موجودة في تلك الدار وقد آلمه كثيراً، وهو في لندن، سماعه أخبارعن عرض الكثير من مقتنياته المسروقة للبيع على أرصفة الشوارع آنذاك .
كان الفنان ناظم رمزي من محبي أغاني محمد عبد الوهاب القديمة وكثيراً ما كنّا نغني معاً بعضها، عندما تسنح الفرص لنا بذلك، مثل أغنية : "احبو مهما أشوف منو والحبيب المجهول وحياتي إنتَ " وغيرها من كلاسيكات عبد الوهاب الرائعة عندما كنا نتجول في (الهايد بارك) او في الطرقات الهادئة بعد عودتنا من زيارة معرض اومتحف او كاليري. كما كان يتذكر علاقاته مع الفنانين العراقيين، وكان يسرني بكثير من الحكايات الطريفة فهو يتميز بروح ظريفة ومنفتحة وبتواضع جم. وناظم رمزي كريم النفس ومضياف الى أبعد الحدود يحب الأكلات العراقية واحياناً نذهب الى المطاعم العراقية المنتشرة في (اجورد رود) لتناول الكباب وغيره من أصناف المطبخ العراقي المتنوعة، وكان يوصي على وجبة اخرى (سفري) كما يقول ليأخذها معه الى البيت.
في سنواته الأخيرة إنكب على تصميم جديد للقرآن ويبدوانه قد فكر به كمشروع ينهي به سنواته الباقية، وقد اكمله بعد عشرة أعوام متتالية وهو في غاية الدقة والإتقان، الذي عرف به ناظم رمزي، كما يعتبر من افخر القرائين المصممة حتى هذه اللحظة. وقد زين كل صفحة منه بنقوش جميلة ومبتكرة . فظهر كتحفة من التحف النادرة، ويمكن إعتباره أفضل هدية دبلوماسة تقدم لمسؤول كبير يزور العراق وكان يفكر بطبع عدد محدود منه، حتى يحافظ على ندرته،لكني ذكرت له ان هذه الطريقة ستحرم الناس من التمتع بجماليات هذه التصاميم في حالة طبعها بأعداد محدودة، ويبدو انه فكر في الأمر أيضاً فعمل نسخة مصغرة مصورة له، وقد كنت امازحه على طول صبره ودقته وحرصه على هذا الإنجاز وأقول انه سوف يدخل الجنة قبل الجميع بسببه فيضحك معلقاً على قولي: "ليش الجنة خان جغان يافيصل".
كان تواضعه يجعله يرفض كل مقترح لإقامة معرض لأعماله كما كان يهرب من اللقاءات الصحفية والحضور في المناسبات التي يتوجب حضوره فيها وهو كثيراً ما يمتنع حتى في إلتقاط صورة له للذكرى، لكنه احياناً يتورط في مثل هذه المفاجئات ويذعن للضرورة كارهاً .
لقد حاولت أكثر من مرة، ان أسجل له حديث طويل ومصور، عن حياته كوثيقة للأجيال القادمة لكنه عادة ما يبتسم ويعلق على مقترحي بالقول: "ما لكيت غيري عيني فيصل؟ أكو افضل مني واهم "ولكن بعد ان حاصرته بضرورة إجراء مثل هذا اللقاء، ذكر لي بان ولده خالد بدأ بتسجيل مصورعن حياته وهو مشغول به هذه الأيام، وكانت المفاجأة التي أحزنتني، عندما سألت خالد عن الفيلم بعد وفاته إبتسم وقال: " أراد الوالد الهرب من إلحاحك عليه بهذه الحجة، فليس هناك فلم ولا هم يحزنون". كان يحاول ان يبتعد عن الأضواء قدر الإمكان وهو في هذا يشبه الراحل الكبير محمود صبري أيضاً، الذي لولا بعض الحريصيين على تراثه وتسجيله لضاعت منا الكثير من جوانب حياته التي تعتبر جزءً من تاريخ الثقافة العراقية التقدمية والحديثة.
والان وبعد ان رحل عنا فناننا النبيل، ناظم رمزي، هل سنفكر في طريقة صحيحة، لحفظ ما تبقى لنا من عطائه الثر؟ الى من يمكننا اللجوء؟ ماذا عن وزارة الثقافة جمعية الفنانين النقابة؟
كيف سنرد الجميل لهذه الجوهرة النادرة؟؟