ادب وفن

مظلتان لشخص واحد .. مي غصوب ومزاج المدن / مقداد مسعود

اشتريت ُ"مزاج المدن" بنداءٍ خفي من صورة غلاف الكتاب وعنوانه وأناقة المطبوع ،وبفضول لمعرفة ماذا يكتب هذا الاسم الجديد بالنسبة لي :"مي غصوب".. يهمني توسيع قوس قراءاتي والتعرف إلى اسماء أجهلها ، وانتبهت لاسم احترم كتاباته وقرأت له مقالات غزيرة أعني الاستاذ حازم صاغية ، فالكتاب من إعداده ومن ص11 عرفت ُأن "هذه المقالات كُتبت بين 1994 وشباط 2007" وعرفت ُ أيضا أن المقالات مكتوبة باللغة الانكليزية ثم تمت ترجمتها إلى العربية ونشرها في ملاحق لصحف عربية وموقع إلكتروني والمقالات في هذا المطبوع "تُنشر تبعاً لتعاقبها الزمني" .. وأوجعني أن صفحات هذا الكتاب "شهادة حب للحياة لم يتسن لمي ّ أن تكمل تأديتها" بشهادة رفيق دربها حازم صاغية.
في اليوم ذاته كتبتُ على الصفحة الأولى من الكتاب "29 نيسان 2011".. اشتريت ُ الكتاب بعد تصفحه ، فجذبني قصر المقالات واستوقفتني جملٌ تومئ إلى خبرة حياة ومعرفة .. هذا النوع من الكتب أحتاجها جدا ..لخفة دمها وأناقة جملتها ، هذا الكتاب مثل "صديق يمر علينا بعد العشاء، ويقضي معنا سهرة أطول مما توقعنا..."، هذا انطباع مي غصوب، وهي تقرأ لميلان كونديرا :"العهود التي تعرضت للخيانة" .. بالنسبة لي فأن كتاب "مزاج المدن" كان رفيقي في الطريق اليومي من وإلى "بصرة – أم قصر" عند الفجر وكذلك في أوبتي المسائية إلى البيت .. وهذا الكتاب صار يقتسم معي استكانة اللومي بصرة أحيانا في مقهى "سيد هاني". وحتى لا يثير فضول أدعياء الثقافة مَن يصادرون الكتب لتحنيطها في مكتباتهم الإشهارية ، فقد غلفته بغلاف كتاب منهجي..!! لا يعني أنني تفرغت لهذا الكتاب وحده .. لكنني وجدت فيه: ما يلائم ذائقتي وما يكسرها أحيانا ..قبل أيام وأنا أبحث بين كتبي ، طل علي ّ"مزاج المدن"، وكما تحتضن كفايّ كف صديق حميم ، لم أره منذ سنوات صافحته .. ثم تصفحته ُ.. استوقفتني الخطوط الحمر والزرق والخضر، وما كتبته على هوامش الصفحات بالقلم الرصاص.. أعود اليوم: 9/ 11/ 2016 لأقرأ للمرة الرابعة هذا المقال بسؤاله المعرفي "لمن نكتب"؟ وهو الجهة المغايرة لسؤالين سابقين :"كان السؤال سابقا: لماذا تكتب؟ أو ما الذي يدفع الكاتب إلى رواية قصته ؟../ 169.. و"لمن.." تشترط جهوية محددة معلنة بوضوح تام ..بالنسبة للكاتبة الغائبة / الحاضرة مي غصوب ،فهي تستثني شهرزاد ذات الليالي الألف.. "سبق لشهرزاد أن أعطت جواباً لا يدحض : انني أسرد من أجل البقاء على قيد الحياة ، فإذا توقفتُ عن السرد مت/ 169".. وتستثني الكاتبة ..المراهقين (ممن يكتبون لأنفسهم إذ يعانون أزمة عاطفية.."، وهناك من يروّج لتوسيخ السؤال ذاته بإجابة باطلة.. "إنهم يكتبون للغرب"! .. وهناك إجابة إعلامية بمثابة تتمة للتي قبلها حين يصرّح أحدهم "أنا أكتب لشعبي.." وتفكك مي غصوب هذه الجملة :"وهذا الشعب يفترض أن يكون من الشرق"... وتلاحق الكاتبة هذه الظاهرة الكتابية:"أنه لم يحدث من قبل لأي كان أن سأل مؤلفا موسيقياً: لمن تؤلف"؟
ثم تلتقط تهمة الجهة التي أصبحت موضة أو محاصصة الجهات بين الأدباء "كاتب يكتب أو تكتب" للغرب مقابل هذا الكاتب أو الكاتبة، أصيل لا يعبأ بأن يُترجم إلى الانكليزية أو الفرنسية"..
وتشهر لنا سخريتها اللاذعة "كما لو أن الكتّاب يكتبون لقارات" ومثلما حوّلت الكاتبة سؤال الكتاب مِن "لماذا.. إلى لمن.." فأن هناك من أنتج انزياحا في الكتابة لجهة معينة!! وهنا تفتح مي غصوب الباب على مصراعيه .."لنواجه المسألة بأكثر ما نملك من الصراحة: فالاتهام يعني، بصورة عامة ، أن الكاتب غدا شهيرا في الغرب لأنه يكتب ليعجب الغربيين، غير أن الذين يكتبون لشعبهم "الشرقي" لا يكتبون ليعجبوا القارئ الشرقي .انهم يفعلون نزولا عند أصالتهم وواجبهم تجاه الأمة!، وهذا يعني في الحالتين "أن الكاتب ليس صادقا، وأنه لا يكتب بهدف فن السرد بل بهدف الارضاء".
وهنا تقوم مي غصوب بفرز/ فضح عملية الخلط بين الخطابين: الأدبي/ السياسي "الذين يخلطون بين هذا وذاك من القراء، إنما يخلطون بين الروائيين والسياسيين وكتّاب الدعايات فالأخيرون ينبغي أن يعرفوا سلفا القارئ الذي يتوجهون اليه ، لأن قارئهم هو بالأساس المستهلك الذي يريدون بيعه سلعهم . أما الروائي فهو بالمقابل في المقابل من يحكي قصة وليس من يبيع جبنا أو عطرا".
ثم تنهي مقالتها بسطرين من "البقرة الضاحكة" و"الأجبان والعطور باتت هي نفسها في الشرق والغرب حتى إن كاتب إعلاناتها لم يعد هو الآخر، مضطرا إلى التحدث بلغة الجغرافيا القارية" وفي مقالة أخرى تؤكد على حرية الرأي "دائما كرهت الرقابة. فالمقصات صنعت كي تقص الأظافر لا الكلمات" بالطبع تعرف المؤلفة أن المقصات أيضا من أهم وسائل انتاج الخياطين . وهي تتناول حرية الروائي في الكتابة ترى أن حق التعبير كلفته باهظة ،لكنها تبقى على إصرارها.
"ان المخاطر التي تنجم عن الحرية أقل سوءاً بكثير من التقوقع في الشرنقة الآمنة للممنوع والمحّرم". وعياً منها "الناس هم الذين يقتلون ويؤذون ويرتكبون المجازر، لا الكلمات"..
أما الكلمات فهي حسب رأيها "مجرد أجهزة ارسال، وفي أسوأ الحالات أدوات فعالة". لكنها لا تستطيع إلاّ أن تغضب ،حين ينال الروائي العنصري ميشال هويلبيك جائزة الأدب الايرلندي العالمية، وسبب غضبها اشارته المقرفة إلى العرب". ويزداد غضب مي غصوب، مع كتاب "أوريانا" للآنسة الايطالية بالاتي، فهذه الايطالية.. "ليست الشاعرية نبرتها ولا سمة أسلوبها المسموم"، وسمها ينضح من تشبيهها الوقح :"المسلمون يتكاثرون كالفئران".. تعود مي غصوب إلى تاريخية كلمة، فئران، "الفئران: المصطلح الذي استخدمه الفاشيون، لاسيما في حقبة موسوليني ، كتعبير عن عنصريتهم ".. تثبت مي غصوب شحنة المصطلح الفاشي ، فكلمة فئران/ تقترن "بكلمة، تصفية، أو اجتثاث، وأن تدرك من ثم، أن كلماتها تحريض على العنف وعلى الهجمات العنصرية على المسلمين".
بالنسبة لي كقارئ أرى اخضراري الدائم في القراءة والكتابة، هما من تزودان روحي بما تحتاجه من أجنحة لتغتسل في هواءٍ لم يستعمل، بعيدا عن ضجيج المعدن الذي معدَن الإنسان طوعا وليس كرها !!فصار الكل ينكح الحقيقة ويزعم أنه القيّم الأوحد عليها! ولكن.. ما هي الحقيقة؟! مي غصوب بشهادتها "حين أسمع كلمة ،، الحقيقة ،، تقال ينتابني شعور بالغثيان". ولماذا يطالبون شعب تشيلي بالنسيان حين يكون المجرم الجنرال "بينوشيت" الذي حول ملعب سانتياغو إلى مسلخ بشري وبترَ جنوده أصابع كفيّ المغني فيكتور جارا، وذبحوا الرئيس اللندي ولويس كوفالان سكرتير الحزب الشيوعي.. لماذا أمريكا وبريطانيا وشقيقاتهما الشقر: يطالبن شعب تشيلي بالنسيان و "أن المستقبل أهم من الماضي والتنقيب فيه.."!
أرى من خلال تجربتي في الحياة والكتابة لا توجد سوى حقيقة روائية وكذبة رومنسية!