ادب وفن

الموسيقى العسكرية في العراق القديم / ستار الناصر

ما يميز جيش عن سواه من الجيوش؛ هو اهتداؤه قبل غيره من الجيوش إلى مسببات جديدة ومبتكرة من شأنها المساعدة على حسم الموقف القتالي وانتزاع النصر من العدو بالرغم من كل الظروف الصعبة التي تحول دون ذلك. وغالبا ما تأتي هذه المسببات المبتكرة الجديدة على شكل تدابير يوجدها القائد العسكري للجيش تلبية لحاجة ماسة تظهر من خلال الاستعدادات العسكرية لخوض غمار الحرب، أو مستلة من صفحاتها، أو أثناء سير العمليات القتالية. وبالتالي سوف يكون لهذه التدابير المبتكرة مع التحسينات التي تجري عليها اثر فعال في السيتراتيجية العسكرية في المستقبل إذا ما تأكد للقادة نجاحها. وهكذا تولد مسببات النصر وتتطور. ذلك لأن التقليدية في القتال لا يحالفها الحظ دائما. ومن هذه التدابير المهمة تلك الالتفاتة الذكية من لدن القائد العسكري الملك الآشوري شمش ادد الذي دام حكمه 42 عاما من سنة 1749 إلى 1717 ق. م. حيث اهتدى إلى فكرة لم يتطرق إليها أحد قبله؛ مفادها إن الموسيقى والغناء يمكن أن يكون لهما دور مهم في العمليات القتالية لا يقل أهمية عن الجندي وسلاحه، أو الخطط الحربية، خاصة في إدامة الجانب النفسي والتأكيد على إذكاء الذات المقدامة للمقاتل الآشوري. فما كان منه إلا أن يبعث هذا الملك برسالة إلى أحد ولاته في الأقاليم يطلب فيها المدد ولكن المدد هذه المرة لم يرده خيلا أو سيوفا أو جندا، بل هو مدد من طراز خاص لم يلتفت إليه أحد قبله من القادة العسكريين على مر العصور. فهذا المدد الجديد ليس سوى فرقة موسيقية يكون فيها المغني والموسيقي المشهور في ذلك الزمان "سين ــ ايقيشام" وسوف يكون واجب هذه الفرقة ليس تسلية الجنود أو إقامة ليلة من ليالي السمر ولا حتى تراتيل من تراتيل الشعائر الدنية كما كان المعتاد؛ بل واجبا جديدا ومن النوع العسكري البحت، وسيكون مكان هذه الفرقة بين الجند تماما جنبا إلى جنب وسوف يجري عليها مثل ما يجري على الجند من أخطار وأذى، ليس هذا حسب ؛ بل على المغني سين ـــ ايقيشام وفرقته ــ ما دام قد وقع اختيار الملك والقائد العسكري شمش ادد عليه، ربما وجد فيه القدرة أكثر من غيره على أداء هذا الواجب الجديد والصعب. أن يعد العدة لما رسمه له الملك والقائد فيعمل على تأليف أغان حماسية وأهازيج وموسيقى غايتها شحذ الهمة وتشجيع الجنود المقاتلين على البقاء في ساحة القتال مهما كلف الأمر، والمطاولة في الذود حتى النصر أو الاستشهاد. ويبدو أن هذه الفرقة الموسيقية قد حققت الغاية المرجوة منها، وقد استطاع الفنان سين ايقيشام أن ينجح في مهمته وأصبح رائدا فيها. لكن لم يحفظ لنا التاريخ حتى الآن غير القليل من مؤلفات هذا الفنان القديم. بيد أن هناك صورة كبيرة "جدارية" من الرخام رسمها فنان مجهول وكانت تزين قاعة من قاعات قصر الملك الآشوري "آشور بانيبال" الذي حكم من سنة 668 ولغاية 626 قبل الميلاد ويشاهد في هذه الجدارية الفرقة الموسيقية وهي تأخذ مكانها بين الجند. وكانت مكونة من أربعة عازفين يقفون على شكل صفين متقابلين , يقف في الصف الأول عازفان، في الصف الأول من اليسار يقف عازف على آلة الكنارة "وهي آلة وترية عراقية قديمة مازالت المتاحف تحتفظ بالمزيد منها"، ويقف العازف الثاني إلى جانبه وبيده اله "السيمبال وتسمى أيضا الكوسات" وفي الصف الثاني المقابل يقف العازفان الآخران، الأول على آلة الدف الكبير، "آلة إيقاعية من النوع الجلدي وهي آلة عراقية قديمة"، والعازف الثاني على آلة الكنارة أيضا. ويشاهد في الجدارية رجل آخر يقف إلى جانب الفرقة يقود أربعة خيول. يرى الدكتور صبحي أنور رشيد إن مهمة هذا الرجل هو لخدمة الفرقة في تنقلاتها بين الجند من مكان إلى آخر وهم يقدمون فنونهم الموسيقية والغنائية وأهازيجهم الحماسية. وأضيف؛ إن من واجبهم كذلك حماية الفرقة الموسيقية وكف الأذى عنها لكي تؤدي دورها الذي رسمه لها القائد العسكري. وعلى ما تقدم يسجل للملك شمش ادد انه أول من وعى دور الموسيقى والغناء في الحروب، وهو كذلك أول من اخرج الموسيقى والغناء من أماكنها التقليدية المعابد أو الأماكن التي تجري فيها الأفراح كالبيوت والساحات وغيرها وهو الذي أعطى للموسيقى والغناء دورا ثالثا بعد الدور الديني والمدني. والآن وكما هو معروف تتواجد الفرق العسكرية في جميع بلدان العالم . في العراق مثلا كانت هناك أجواق للموسيقى العسكري تشرف عليها مديرية الموسيقى العسكرية، وتظم مدرسة تسمى مدرسة الموسيقى العسكرية. وهذه المدرسة بالذات تعد من اكبر المدارس الموسيقية في الوطن العربي، وقد أعطت الفرق العراقية المدنية خيرة الموسيقيين خاصة الفرقة السيمفونية العراقية وربما اغلب عازفي الآلات الهوائية. وبالرغم من واجب هذه الأجواق المحدد في العزف أيام الاستعراضات العسكرية والأعياد لكن هناك المارشات العسكرية والأناشيد الحربية التي كانت تظهر أيام حروب في المنطقة العربية أو العراقية. ومع الأسف الشديد لم يجر حتى الآن إعادة هذه المدرسة ولا قامت الدولة بتطوير هذه الأجواق ومن ابرز من شغل منصب مدير الموسيقى العسكرية المايسترو المبدع عبد الرزاق العزاوي والراحل الفنان عبد السلام جميل.