ادب وفن

شروخ الهوية في رواية "البلابل لا تغرد" / أمجد نجم الزيدي

ناقشت الكثير من الروايات العراقية مسألة الهوية وحضورها كهاجس ثقافي بدأ يتسرب الى بنية المجتمع العراقي، وخاصة الروايات التي تتناول المسائل المتعلقة بالأزمات التاريخية والاجتماعية لفئة معينة تنتمي الى هوية فرعية ما، أو ربما الهوية الجامعة برمتها هي التي تتعرض الى الاهتزاز أو الانتهاك.
ان توجه الروايات العراقية إلى تناول مسألة الهوية يأتي نتيجة للأزمات التاريخية المتتالية التي يمر بها العراق منذ القدم والى العصر الحديث، إذ تعرض الى الكثير من الصراعات الايدلوجية والطائفية والعرقية، لذلك فالهوية تتأثر ربما بكل هذه الازمات والصراعات، وقد حاولت رواية "البلابل لا تغرد" للكاتبة أمل بورتر، ان تعكس هذا الصراع وهذه الأزمات من خلال ثلاثة أجيال لعائلة عراقية مسيحية، عايشت الصراعات السياسية والايدلوجية منذ نهاية الخمسينيات حتى الوقت الحاضر، والانعكاسات التي نتجت عنها من خلال صعود النعرة الطائفية وتخلخل التماسك المجتمعي لمدينة بغداد، من خلال شخصية "بديع" الشيوعي العراقي و"فتح الله هادي" الجار المسلم وعائلته، والعلاقات الاجتماعية المتمثلة بنساء هاتين العائلتين فريدة وسميرة وناهدة ومنيرة وزهوة "بقين متماسكات وقد وحدهن الألم والخوف وكأنهن أصبحن جسداً واحداً، كل منهن الغت نفسها كلياً واصبحت كتلة من الحب والحنان للاخرى، غارقات بالفجيعة التي تلفهن كما لفت البلد الذي احتواه ظلام، صمت، خوف ورعب، فزع، دماء ودماء ودماء". وهذا التماسك يعكس انصهار الهويات الفرعية، عندما توحدها الظروف القاهرة التي يتعرض لها البلد "الهوية الجامعة".
قراءة هذه الرواية تتطلب تتبع الايقاع الزمني، من خلال سياق الاحداث، والذي ينعكس بصورة شفافة في خلفية الرواية، فعلى الرغم من ان الروائية قد قسمت الرواية الى ثمانية اجزاء، وتحت تسميات ترتبط بالسنين كـ "سنوات العجب العجاب" أو "سنة الجوري".. الخ، بالاضافة الى عناوين فرعية مرتبطة بالأيام كـ "يوم الدماء" أو "يوم ياتين ياتوت"، الا اننا لم نلمس لها تأثيرا قويا أو مباشرا على الايقاع الزمني، وانما جاء هذا التقسيم كتفسير في بعض المواضع، أو مجرد اشارة مستلة من المتن كـ "سنة المشمش" أو عنوان فرعي كـ "يوم النعجة".. وغيرها، فقد أشارت الرواية الى عام 1954 والأحداث التي رافقته، والتي تمثلت في مطاردة الشيوعيين وسجنهم وتصفيتهم، الا انها لم تقدم هذه الأحداث بصورة مباشرة أو تظهر الطبيعة السياسية وصراعاتها خلال الحكم الملكي في العراق والتي أدت الى تلك الصراعات أو تلك التصفيات، فقد اكتفت الرواية بالاشارة الى التحولات التي تطرأ على هذه العائلة العراقية المسيحية وجارتها المسلمة، باعتبارها انموذجاً لعينة من المجتمع العراقي، يمثل هوية فرعية تتعرض للهزات التاريخية التي تعرض له البلد، والذي انتج ذلك الصدع الهوياتي في المجتمع العراقي والبغدادي خاصة "ما يدور حولي يذهلني، اسمع أقوالا غريبة على مسامعي، لم أتوقع أن تقال هناك من يذكر كلمات لا أعرفها لا أستسيغها عن الكفار ووجوب قتلهم، فتاوى وتوبه وعزل للمرأة، ترى من اين جاءت وكيف نبتت هذه السموم".
زمنيا ربما ينتمي هذا الكلام في الرواية الى العصر الحديث، حيث صعود النعرات الدينية والطائفية، من خلال ظهور الحركات الدينية المتشددة "اشو احنا عشنا سوى وما سمعنا اكو ها الحكي بالدين، شاركنا بيبي فاطمة وعمو هادي وخالة منيرة كل شيء كنا عائلة وحدي مو عائلتين بالفغح والحزن وما سمعنا ها الحكي"، رغم ان الرواية قد اشارت الى ان الشرخ الهوياتي المتمثل بالدين قديم، الا أن السياسة الرجعية التي كانت تمارسها سلطة البعث والصراع السياسي والايدلوجي مع الشيوعيين قادت المجتمع العراقي الى هذه الهوة "ما حدث في زمن فريدة وناهدة؟ انهارت قيم واختفت مبادئ، تغير الفرد والمجتمع لماذا؟ لم ضاعت السبل بالجميع وانسد نهر التحدي، انتشر فيضان الاتكالية، الخنوع وتغيرت المفاهيم".
هذا المنلوج هو لـ "فتح الله" الشيوعي القديم وينتمي زمنيا الى بداية الثمانينيات حيث الحرب والجيش الشعبي والعنف والتعنت السياسي من قبل النظام الحاكم، الذي زج بمعارضيه بالصفوف الأمامية، الحرب التي حصدت الكثير من أرواح الأبرياء.
أما أبرز مظاهر الانتهاك أو الصدع الهوياتي الذي أصاب المجتمع العراقي كما اشارت الرواية؛ فهو حادث الاعتداء الغريب الذي تعرضت له "منيرة" الجارة المسلمة، على ايدي مجموعة من النساء في المستشفى بعد تخديرها "ليش هذوله النسوان كرهوني، لا أعرفهم ولا يعرفوني، عرفوا منو اذاني وكص هدومي؟ وشلون ومنو كص هدومي وعكدها، ليش لان اني مو منهم مو مثلهم، يمه كوليلي ليش ليش ليش شنو اللي صار ليش العالم اتغيرت، شو احنا ما تغيرنا بقينا نحب الكل، يمه كولي لي احنا همين تغيرنا احنا همين صرنه مو خوش اوادم".
هذا الحوار هو لـ "منيرة" وهي تخاطب أمها "فاطمة" بعد حادث الاعتداء عليها، والذي يظهر لنا عمق الصدع الذي اصاب التعايش بين اطياف المجتمع، بكل اديانه وطوائفه "التفتت الى المريضات مستغربة مستفسرة، أشحن بوجهن وأدرن ظهورهن".
أما المظهر الثاني الأكثر بروزا لهذا الصدع وتمظهراته هو علاقة وديع وزهوة التي هي من اعقد العلاقات، التي من الممكن ان تتعرض اليها الرواية التي تتناول الاختلافات الدينية في المجتمعات العربية خاصة، لانها من التعقيد بحيث تمثل شرخاً كبيرا في المجتمع المتماسك، لأن هذه الأديان تبني حول نفسها أسوارا كبيرة انعزالية، بأحكام وقوانين وطقوس تمنع الاختلاط، اذ من غير الممكن أن يتزوج رجل وأمرأة من دينين مختلفين، لذلك فدلالة هذه العلاقة داخل الرواية هي لتعزيز صورة ذلك الصدع المجتمعي الذي تخلقه الأديان والطوائف، وإن لم تبني الرواية ثيمتها الرئيسة على هذه الثيمة، بل انها جاءت ضمن سياق الرواية رغم اهميتها "دخلت الكنيسة بعد ان وشحت رأسها بإيشارب حريري، جلست على احدى المصاطب داخل الكنيسة، جاء رجل وأوقد مصباحاً كهربائياً يضيء تمثالاً لمريم العذراء، انحنت بخشوع إلا انها شعرت بانها شيطان رجيم يستغفل الناس والسماء أجمعين". وأيضا الشرخ النفسي الذي يصيب أبناء هذه الديانات المختلفة، والتي ربما تعزز الاختلاف والانفصال بينهم، عندما يصبح الانسان في مواجهة مباشرة وعلى المحك مع ممثلات هذه الاديان او هذه الهوية كالكنيسة او الجامع او غيرها.
لعبت اللغة في الرواية دوراً مهماً في تبئير الثيمة الروائية من خلال اعتبارها أداة عاكسة للبنية السوسيوثقافية للمجتمع العراقي، وهذا ربما ما دفع الروائية لاستخدام اللغة الشعبية الخاصة بالاسر المسيحية البغدادية القديمة، والتي اشارت في العتبة النصية التي وضعتها "تنويه" الى انها – أي اللهجة - ليست لهجة أهل الموصل وانما هي لهجة العائلات العربية المسيحية في بغداد، وهي محاولة من الروائية لابعاد الاسقاطات التي ربما توحيها ارتباط هذه العائلة ولهجتها بمدينة الموصل، بما تحمله من دلالة وخاصة في الاحداث الأخيرة المتعلقة بداعش وغيرها، ولكي لا تخرج ثيمة الرواية من السياق الذي رسمته لها، وان لا ينزلق القارئ في تأويل مغاير لدلالات الرواية واسقاطاتها، وهذه اللهجة تتغير طبقا لتغير المتحاورين، فتستخدمها العائلة المسيحية فيما بينها، لكن عندما ينتقل الحوار مع الجارة "منيرة" أو ابنتها أو "هادي" يتحول الى اللهجة العراقية البغدادية المعتادة، وهذا ربما يحيلنا الى الغرض من توظيف هذه اللهجة، وذلك لانها تشير الى الخصوصية التي تميز هذه العائلة، أي الانحياز نحو الهوية الفرعية، باعتبار إن هذه اللهجة خير واجهة لحمل البنى السوسيوثقافية لهذه الهوية التي تميزها عن باقي الهويات الفرعية الاخرى، حيث تغلب على لغة الرواية الحوارات الطويلة، اذ ان الجمل السردية والوصفية قليلة جدا.
قدمت الرواية وعبر عدة عقود من تاريخ العراقي الحديث، وعبر عدة أجيال صورة المجتمع العراقي البغدادي بكل تشكلاته، والتأثيرات التي أثرت به من خلال التحولات السياسية والايدلوجية "تكول الكل لوكية، الناس كلها صارت بعثية ما عداكم انت وعمو هادي، بس انت وعمو هادي مو بعثية ما اعرف غيركم". والتي مارست تعسفا ضاغطاً على هذا المجتمع، وغيرت في علاقاته، وصورتها الرواية من خلال هذه العائلة المسيحية ذات الثقافة الشيوعية، عندما كانت الشيوعية هي الصوت الوطني الذي تبنته اغلب الطبقة المثقفة في العراق، "النصارى أكثرهم شيوعيين، شو انت تاكلين من اكلهم؟ شفتها البارحة جابتلج أكل وياها، والله احنا ما ناكل منهم ولا من الصبة، ولا من ذولاك اللي يكلون الجري، تدرين ذولة النصارى والصبة ما يطهرون ولدهم، صدك شو رجلج ماكو خاف محبوس ويه الشيوعيين".
قدمت الرواية أيضاً صورة للتعايش بين أطياف الشعب العراقي والبغدادي بصورة خاصة، واشرت بصورة مضمرة الى البنى الاساسية في ذلك التعايش، والذي حاولت التيارات الرجعية ان تضربه وتفتته، وان نجحت بصورة او بأخرى في اجزاء من تلك الصورة، الا ان الارتباط التاريخي بين هذا الشعب كما قدمته الرواية عكس تلاحما يمد جذوره بعيدا في بنية هذه الهوية العراقية، كما هي علاقة هادي الجار المسلم وزوجته بهذه العائلة المسيحية، رغم ان الضغوطات الاجتماعية والسياسية كانت شديدة على العائلتين بعد التغييرات التي ضربت هذا التماسك، عندما صعدت بعض الأصوات الهدامة التي تنادي بتقسيم المجتمع العراقي الى طوائف وأديان وأعراق.