ادب وفن

اليوسفيون .. رواية سيرة نصية / ياسين النصير

تبتدئ الرواية بحكاية الوزير الذي اشتكت العامة من ظلمه، وهي بداية لحكاية شعبية عامة، وليس لها نهاية ما دامت قضية الظلم قائمة، منذ القدم وحتى اليوم، وما دامت ثورة الحسين تجد لها الصدى الفكري العظيم في أحداث التاريخ المعاصر.
في ضوء ذلك تكون رواية الاستاذ كريم حسن عاتي، "اليوسيفيون" رواية سيرة نصية، ورواية السيرة النصية، هي ببساطة تروي تنويعات شعبية غير منضبطة على حادثة تاريخية مهمة، ولا تلتزم بحرفيات تلك الحادثة، بل تجعل منها نصا يروى بطرق فنية مختلفة" تنويعات" كي تمتد في أزمنة وأمكنة مختلفة، وتتحاور ومع ناس مختلفين وتستحضر مدونات حقيقية ووهمية، صادقة وكاذبه،عادية ودقيقة وان المؤلف ارد ان يقول عبر هذه التنويعات أن: سيرة واقعة الطف تلازم كل التحولات القديمة و المعاصرة، فما جرى بعدها ليس إلا تنويعات عليها، بما فيها ما يجري في زمننا العراقي المعاصر من أحداث وطرق نضال وشخصيات. ميزة رواية السيرة النصية، هي أن النص يتكلم عبر الأمكنة والأزمنة، ويصبح لسانا، ولا يتوقف عن الجريان ويمكنه أن يعبر إلى بلدان أخرى ليستعير أحداثا منها فالسيرة النصية غير ذاتية، ميدانها المتشابه لا المختلف، لكننا هنا في "اليوسفيون" نقرأ ألفاظا عن وقائع، وليست وقائع مختلفة ومجسدة، وهو ما يضعف التنويعات ويجعلها مجرد تدوينات لآراء .
الثيمة المهمة لرواية السيرة النصية، أنها بدون أعادة إنتاج لواقعة الطف في كل تنويعة من تنويعاتها، تصبح فارغة من معناها، الروائي وضع حكاية الطف إطارا مرجعيا عاما، فتغللت في كل التنويعات اللاحقة، ولذلك لاقيمة لأي تنويعة بدون أن تشير إلى واقعة الطف،الإشارة هي إحتذاء الطريق نفسه ولكن بالتعمق في كشف مستويات الطريق، "كما لاقيمة لأي حذاء دون أن يكون ثمة طريق".
اين تكمن حقيقة رواية السيرة نصية؟. من يقرأ الرواية سيتعب بالتأكيد، وقد يشعر بالملل، لكثرة الإحالات وهيمنة المقولات، لكنه سيوقن أنه يقرأ طبقات للرواية وليس سردا افقيا يحكمه زمن واحد، هذا التراكم الزمني جعل من الرواية فضاءا مركبا، بمعنى أن الرواية ليست رواية بسياق زمني تتابعي، إنما هي حكاية متراكمة لأحداث متشابهة اختلفت بتنويعاتها ولم تختلف بمصدريتها، لذلك فهي رواية إشكالية لها مستويات نصية متراكمة ولها رواة عديدون، إن رواية السيرة نصية تكتب ذاتها بطريقة ثنائية كما يقول سلفرمان: ساحة/ قصر، طائفة،/ طبقة، الحسين / ابن زياد، منزل اختباء/ موقع مكشوف، مسلم ابن عقيل / المختار ، دار الحكم/ قصر الخلافة، هوية/ قالب، تبديل الحكم/ العودة لسنن الله، الحسين العدل/ هيمنة بني أمية، وهذا واضح في تركيب الرواية، اعني في تنويعاتها الثنائية.كي يجعل الروائي من واقعة الطف مرآة كبيرة، نصبها في الطرقات التراثية والمعاصرة، تلك التي تؤدي إلى كربلاء، أو تلك التي تخرج منها، طرق واقعية، طرق مدونة، طرق مبهمة، طرق اسلوبية متضاربة، لكنها في مجموعها تروى في اليوسفية، الطريق الذي روي واقعة الطف، فالصور المرآوية تتكاثر ولن تتوقف لذلك تمتد الواقعة إلى اليوم، محشوة بالنظال.
وعندما تفتح الرواية لنا افق التأمل وتعيد كتابة التاريخ برؤية تاريخية معاصرة "الفرق بين التاريخ والتأريخ غير واضح في الرواية فيتكلم عن الاثنين بصيغة واحدة"، سنجد أن رواية السيرة النصية نسج قول على قول" أصوات كثيرة تنسج على منوالنا وتبتغي غير غايتنا، وتقول مثلما نقول وتنسبه إلينا" فرواية السيرة النصية طريقة في تغيير الرواة وتبديل الألسن وتنوع التواريخ،واستيعاب أزمنة،لكنها لا تخرج عن أفقية التتابع الزمني. هي سيرة لنصية منفتحه يكتب في هوامشها معلقون مختلفون، ولأنَّها سيرة لنّص مهيمن ومنفتح، نهضت واقعة الطف من جديد، وما رواه الاعمى ابن محنف وبجواره ابنته الصغيرة في "عين واحة الأعمى"، ما هو الا الجزء المختص بجسد الواقعة وليس تأليفا لها، وما سوف يسطر في صفحاتها هي سيرة نص ما سوف يحكى عن...، وبمجموع السير النصية الفرعية للسيرة النصية الأم"سيرة واقعة الطف" يحشر المؤلف قلمه كراو بينها ليؤكد انه يكتب أيضا بلغة القوم القديمة، وهذا ما جعل الرواية غارقة في الألفاظ والكتابة الروائية بلغة النصوص الوثائقية، كاستثمار الوثيقة شيء وهيمنة اسلوب الوثيقة على نص سردي حديث شيء آخر، تبدو ثقافة المؤلف التراثية أغنى من ثقافته المعاصرة، لذلك اغرقنا في النصوص القديمة الأمر الذي اعاق التتابع والفهم.
مجتمع الرواية
من عتبة العنوان "اليوسفيون" يتضح أننا ازاء تشكل عالم لجماعة اليوسفيين، وهي جماعة ذات أرومة عمل قبل أن تكون جماعة لأرومة نسب وانتماء أسري، هذا يعني أن اليوسفيين جماعة اجتماعية مشكلة، ولكن تشكلهم حاليا تم بصيغة الرواة المتعددي الأصوات. وكما يبدو أن المؤلف يريد تشكيل عالم خاص، اي البنية الاجتماعية الاساسية التي تؤسس لفكرة الحقيقة، حقيقة واقعة الطف وحقيقة ديمومتها، فالعالم بحضوره المتنوع والمتعدد حسب الرواة والألسن والمصادر، هو اعتراف " يتأكد وجوده في مجال الرؤية والسمع واللمس والاختبار الشمولي في الحركة والسكون" وبايجاز ،العالم هو"افق كل الآفاق وأسلوب كل الأساليب كما يقول ميرلو بونتي.
هذه الرواية تبحث عن الشكل الاجتماعي المتراكم في تشكيلاته الاقتصادية والثقافية لاستيعاب محتوى اليوسفية، ولكن المضامين لا تستقر على هيآتها القديمة، انها تتحرك من الزراعة إلى الاسواق، ومن السوق إلى البضاعة، ومن البضاعة إلى التبادل، ومن التبادل إلى النقد، ومن النقد إلى التطوير، وخلاصة الأمر أن الرواية حكت كثيرا عن مكونات هذا المجتمع ولكن ابقت حكايتها ضمن إطار الحكاية الفردية، مما يعني ان الحكي بقي دون فعل جماعي، وهو ما يجعل الرواية منسجمة وطبيعة مجتمع زراعي شبه ثابت. وعند التعمق بالمجتمعين: مجتمع المكان اليوسفي، ومجتمع الرواية المفترض، نجد ثمة اختلافات كبيرة ومهمة بين المجتمعين، فمجتمع اليوسفية المكاني يختفي بِعدّه مجتمعا أرضيا بعلاقات إنتاج زراعية، وبحكايات يومية عن الشح والغنى، عن حديث العامة وحديث الخاصة، قال سمعت ولم يقل فعلت، في حين ان مجتمع الرواية مجتمع مركب، فيه الناس المقيمون، وفيه الناس العابرون، وفيه الناس المؤقتون وفيها الناس الطارئون، وهؤلاء كلهم من صناعة مؤلف الرواية القائم على وقائع اليوسفية والمتحول من ناس تروي الحكاية إلى ناس تفعل الحكاية.
البناء الفني
ثلاثة أطر متداخلة لبناء هذه الرواية
الإطار الأول: هو حكاية مقتل الحسين في كربلاء. حكاية استهلال كبير.وحكاية اساس ببناء ملحمي لا يمكن تجاوزها.
الإطارالثاني: حكاية المدونات: الامتاع والمؤانسة والتفريعات، حكاية التنويعات.وهي الثيمة الأسلوبية التي توسع دائرة السيرة النصية،
الإطار الثالث: حكاية الراوي، المؤلف المعاصر. ونجد أن طريقة هذه الإطار متنوعة وغير مترابطة احيانا، فقد حاول المؤلف أن يطوع لغة التراث للغة المعاصرة، دون ان يدرك ان اللغة انتاج مجتمع وليست نتاج قواميس ومدونات قديمة.إن تشكيل الحكاية الجديدة يعني تشكّل بناء للحكاية وفق سياق ونسق أجتماعي معاصر.
ما هي الطريقة التي يريد القاص أن يبلغنا عبرها مايريد قوله عن الأطر الثلاثة؟ عبر الحكاية الاساس، أم عبر الرواية عنها، أم جعلها سردية اجتماعية خارجية من حدث قديم؟ تتوالى عليها المؤلفات والشخصيات والاحداث . فاجعة الطف في كربلاء،من الوجهة الاجتماعية، لا تروى إلا عبر تشعباتها، واجتماعية حكايتها وليست عبر مدونتها فقط. لا شك أننا أمام رواة باصوات متعددة ويبقى السؤال عِبرَ منْ يصلنا السرد؟ عبر المؤلف أم المحقق –النساخ-الموثق- المدون- أم عبر المؤلف الاساسي- أم عبر الناقل- المهمش. وكلهم افراد رواة، أم يصلنا السرد عبر مجتمع اليوسفية، أو عبر مجتمع الرواية الإيهامي الفني ؟.