ادب وفن

موت الزمن في "الوقت لا يكفي لبناء حلم آخر" / احمد عواد الخزاعي

من أهداف الأدب الجوهرية، التعبير عن الواقع بصدق، وهذا ما عبر عنه أرسطو بقوله "يجب أن يكون الأدب مرآة عاكسة للواقع"، غير أن مدارس النقد الحديثة أخضعت هذه المقولة إلى جدلية تتماشى مع ما أفرزه التطور الحضاري والفكري الإنساني، والتعقيد الذي شاب مشاكل الإنسان المعاصر والتحديات المحيطة به، فلم يعد تسليط الضوء على المشكلة ومحاولة البحث عن حلول لها هو التحدي الأكبر للأدب بكافة أشكاله وفنونه، بقدر التركيز على ما ينتج عن هذه المشكلة وتداعياتها وتأثيرها السلبي على الإنسان والمجتمع بصورة عامة. لذلك حاول الناقد محمد مندور ان يبلور رؤية أخرى لانعكاس الواقع في الأدب بقوله "يجب أن لا يكتفي الأدب بأن يكون مرآة عاكسة للواقع بل يجب أن يزحف إلى ما وراء ذلك الواقع"، وهذا ما حاول تصويره القاص عقيل فاخر الواجدي في قصته القصيرة "الوقت لا يكفي لبناء حلم آخر" في استهلال سردي حمل بعدا تشاؤميا ينذر بفقدان الأمل وعبور الزمن إلى الساعة الخامسة والعشرين، يضعنا القاص أمام مشهد ثلاثي الأبعاد وموندراما قصصية "لموقف حيوي محدود الإطار".
كما عرف الناقد ياسين النصير القصة القصيرة، وتصورات إنسان يعيش لحظة هزيمة تطل به على نهايات أكثر عتمة من تلك الليلة لمدينة غافية على نمطية تاريخية ثابتة، ومتوالية اجتماعية بائسة لا يتوقع منها ان تنتج شيئا غير مألوف، شيء قد يكون بطلا أسطوريا يعمل على تغيير واقعها وحياة سكانها المدجنين "الزمن المتبقي لا يصلح لتشييد عصر آخر، ولا الوجوه المكعبة تصلح لبناء هيكل بطل أسطوري، فكل ما في المدينة أزقة خرساء، وليل يتسلل كالخدر في المفاصل"، على هذا المشهد الذي يجتر نفسه كل ليلة تحت ناظري البطل القابع خلف شباك غرفته المنزوية، تتمحور الثيمة الرئيسة للقصة "كان الليل ملاذه الوحيد، ليتلمس وجوده في غرفته المنزوية، في طرف البناية التي تهالكت"، في مدينة ضاقت بالأحلام، وتسطح فيها كل شيء حتى الدعاء أصبح ساذجا حد الغثيان، هناك كان يعيش البطل بماضيه الموغل في الحزن والذي توقف عنده الزمن وحاضره الذي تلاشت معالمه واضمحلت، بسبب الفقر والعوز والحرمان والانكفاء على ذات منكسرة "الأحلام ضيقة في المدن التي تغفو مبكرا، والأدعية ساذجة حد التقيؤ، الأبواب مترصدة تترصد المارة، تنبح ككلاب بوجه المتسولين، لاشي يمكن أن تجود به البيوت الخاوية إلا الفئران".
وقد أوكل القاص مهمة السرد لنفسه، ليكون ساردا عليما مطلعا على كل شيء، عن ماضي البطل وحاضره وما سيؤول إليه مستقبله، وكذلك يعلم ما يدور في خلجاته وانفعالاته الحسية، مستعينا بتقنية الاسترجاع والارتداد "وهي جعل البطل يعيش لحظات من استذكار جزء من الماضي لتبرير سلوكه وتعاطيه مع حاضره، ولسد الفراغات التي تتولد في النص القصصي، ولخلق حالة من الإثارة والشد لدى القارئ" ولتكون رافدا حسيا وماديا للبناء الهرمي لنصه الذي غاب عنه الحوار، ووظف له لغة سردية أنيقة صافية خالية من التعقيد اللفظي والزوائد الإنشائية والحشو، منسابة كأمواج نهر هادئ، أو كلحن حزين..
وقد أجاد القاص في تصوير حالة الانزواء والاستلاب القسريين التي يعيشهما البطل عبر تدويره الإحداث بطريقة جعلت من الماضي اشد حضورا وتأثيرا من الحاضر نفسه، في لحظة عبر عنها القاص بأنها لحظة ندم غيرت مسار حياة بطله وانعطفت به إلى المجهول.. "أيقظه جرس الندم وهو لا ينفك يرن في ذاكرته، مشتتا من حوله لحظات الصمت، التي يعج بها المكان ولحظات الاسترخاء التي يعيشها، متصفحا السكون من حوله، من على كرسيه"، وهنا نلاحظ طغيان النزعة "التشيخوفية" في السرد، الميالة إلى تصوير الانفعالات النفسية الحادة والمؤلمة للبطل واظهارها بطريقة مؤثرة تجعل من القارئ في حالة تعاطف معه، الذي كان وعي القاص حاضرا من خلاله، في تصوراته ورؤاه ونظرته إلى المجتمع المحيط به، تنم عن ثقافة استثنائية امتلكها هذا البطل، وجد لها القاص تبريرا منطقيا حين جعله بائعا للكتب، فنجد خلال السرد أن هنالك عزلا تاما بين البطل المتيقظ ومجتمعه..
وفي تصوير خضع إلى مفارقة اجتماعية اجتمعت فيها الأضداد.. "البراءة والدنس، الوفاء والخيانة"، حملت مقاربة مثيولوجية في إشارة إلى يوسف النبي وعقدة الرابطة الأخوية الزائفة، يصور لنا القاص السبب الحقيقي الذي يقف وراء هذا الانهزام النفسي والحرمان المادي اللذين يعيشهما البطل حين تنازل عن ارث أبيه لأخوته دون علمه.. "ضحك كثيرا وهو يغمس إبهامه في الحبر، وعدوه بالكثير من الحلوى إن رسم لهم ظلا لإبهامه على الورقة، كم ضحك كثيرا في وقتها ومازال يضحك حتى الان من خيبته".
وهنا أود أن أشير إلى القوى المؤثرة التي ساهمت في بناء هذا النص القصصي وهي:
"الحلم" الذي شكل محورا مهما بدءا من العنوان وحتى موت هذا الحلم في خاتمة النص، كانت الأحلام هنا تمثل وعيا ذاتيا امتلكه البطل، ونتاجا لفوضى التداعيات النفسية التي تجتاحه، فأخذت بعدا "انطولوجيا" أو يمكن أن نصورها حسب رؤية الناقد البولندي رومان "على إنها شبكة من النوايا والأفكار والرؤى وتفسير لما يحدث في الضمير" أو هي محاولة من البطل في اللجوء إلى الذات لخلق حالة من التوازن بينه وبين محيطه.
"الزمن" الذي مات هو الآخر، شكل هاجسا حسيا وماديا داخل النص، جعل من البطل في سباق محموم وغير متكافئ، كما عبر عنه القاص في خاتمة قصته.. "والحزن يجلد البقايا من حلم تسمَّر عند أطراف النافذة المظلمة، مدركا إنها لن تطل مرة أخرى ولا الوقت يكفي لبناء حلم آخر" .
"الرمزية" كانت حاضرة بين مفاصل النص المهمة، منها المقاربة الإيحائية بين قصة البطل وقصة يوسف النبي، وهنالك رمزية أخرى أراد لها القاص أن تكون حاضرة ببعدها الأسطوري وهي "العصا"، عصا أبيه وتركته له، رمزا لقوة تلاشت بين طيات الزمن، وسطوة أبوية لم تعد سوى ذكرى حزينة، وهنا استعاض القاص بمفردة "عصا" رمز القوة والبطش بدلا من "عكاز" رمز الضعف والوهن، لعظم الفارق بين المفردتين ودلالاتهما، في إشارة إلى حالة الاستقرار النفسي والاجتماعي اللتين كان يعيشهما البطل في طفولته وهو في كنف أبيه.. "أعوام يستظل العصا التي هي كل ما ورثه عن أبيه، معلقة على الحائط منذ أن اقتسموا تركته".
"الوقت لا يكفي لبناء حلم آخر" قصة قصيرة بزخم وحضور رواية كبيرة، اختزل فيها القاص عقيل فاخر الواجدي سفر طويل من الإحداث والتداعيات عبر زمن ميت توقفت على أعتابه أحلام بطله.