ادب وفن

البعد الملحمي في «ما يتركه الأحفاد للأجداد» / عبد علي حسن

تقوم رواية "ما يتركه الأحفاد للأجداد" للقاص والروائي الراحل غازي العبادي على أرضية تاريخية ليس بوصف التاريخ سجلا للوقائع والأحداث والشخصيات التي حصلت في زمن مضى وانتهى وإنما بوصفه ما يسفر عنه الصراع الطبقي في فترة زمنية معينة تمر بها المجتمعات البشرية حسب تعريف ماركس للتاريخ بأنه "صراع الطبقات" وهذا يعني ان هنالك شبكة من الصور قد تشكلت عبر الصراع الطبقي للمجتمع العراقي خلال فترة العشرينات التي شهدت الصراعين الوطني والطبقي، بعد دخول القوات البريطانية كقوى مستعمرة فضلا عن الصراع القائم بين طبقتي الفلاحين والاقطاع، لقد استقرت في الذاكرة الجمعية تلك الشبكة من الصور متمثلة بالحكايات والمرويات والبطولات والرموز الشخصية مشكلة مخيالا جمعيا متخذا صفة الملحمية وفق التراتب الحكائي الذي اجتهدت الرواية في تأكيده عبر السلالة البشرية التي شهدت تلك الصور أبا عن جد ، لذا فقد وجدنا بعد قراءتنا الرواية التي – تناوب على روايتها راوٍ كلي العلم وهو أحد أحفاد بطل الرواية ليتحدث عن شخصية جده ثم تولي الراوي العليم وفق ضمير الشخص الثالث رواية الأحداث حتى نهاية الرواية – انها تكرس متوالية الحكي الجمعي للمخيال الملحمي للمجموعة البشرية التي احتواها سلف الدواية كمكان للأحداث ، وللإحاطة بهذا المستوى من التوالي الحكائي فقد اجترحنا عنوان ورقتنا وفق ذلك.
تتبدى شعرية عنوان الرواية في المفارقة التي انتجها العنوان لتقاطعها مع ما استقر في الذاكرة الجمعية الاجتماعية من مفهوم الإرث واقتصاره على ما يتركه الأب لأبنائه أو الجد لأحفاده ، فاقلاب الحال واضح في نص العنوان الذي قلب الحال العرفي والراكز إلى حالة أخرى امتلكت خاصية الازاحة للحال العرفي بفضل اللعب اللغوي المنتج للمفارقة التي شكلت كسراً لتوقع أفق المتلقي ، إذن فالعنوان يعطي فرصة للمتلقي في تقصي مصداقية هذه المفارقة عبر جعله "العنوان" مثابة تشهد ذهاباً وإياباً منه إلى النص وبالعكس للتوصل إلى مغزى المفارقة وما انتجته من معنى اسهمت اللغة في تكوينه عبر الانتقال الوظيفي للغة من المستوى الإخباري المرجعي الاستهلاكي اليومي المألوف إلى المستوى الإنشائي والتعبيري فـ"ما يتركه الأحفاد للأجداد" ذات مرجعية في ما ترسخ في الذاكرة الجمعية وهنا امتلكت اللغة وظيفتها المرجعية الا ان اقلاب الحال يحول المفعول به "الأحفاد" إلى فاعل قد أسهم في نقل وظيفة اللغة الى الوظيفة الشعرية بالانزياح الحاصل في سياق الجملة الذي أنتج المفارقة المتقاطعة مع ذاكرة التلقي ولعل نص الرواية يشير في صفحاته الأولى إلى ذلك عبر سؤال الراوي كلي العلم وهو من أحفاد أحد بطلي الرواية "محسن الحمد" لأبيه :
"وذات يوم سألت والدي عن الشيء الذي تركه جدي العظيم لنا بعد الحياة الحافلة التي عاشها ، وقد اجابني وهو يطلق حسرة أخرجها من أعماقه نفّس فيها عما يكتمه في صوره من حزن واسى ومرارة،
وتكتسب هذه الحكايات وهذه البطولات بعدها الملحمي لتضمينها الانتقال السلالي ان صح التعبير للمجتمعات البشرية وهذا ما اشار إليه المفهوم الثاني لعنوان ورقتنا النقدية وهو "المخيال الملحمي" ولعل ما توصلنا إليه من كشف للفضاء الدلالي للمكون الأول من العنوان "شعرية العنونة" سيفسح الطريق الينا للوصول إلى الفضاء الدلالي للشق الثاني "المخيال الملحمي"، إذ ان اجتراحها لهذا المكون مرتهن لموجهات المكون الأول واعني به محاولة الرواية تكريس لبنية التواتر السلالي "الأجداد، الآباء، الأحفاد" في عنوانها عبر كسر توقع أفق التلقي لما استقر من معنى ثابت في الذاكرة الجمعية ومفارقتها المفهوم السائد إلى معنى آخر "شعري" يكرس بنية جديدة لتتصل بما يمكن ان يسهم الأحفاد فيه من تقديم تصور جديد يعمل على اذكاء جذوة الماضي ومنح الحاضر حيوية نضالية، لذا لابد من الدخول الى منطقة وضع هذه التراتبية في تصور المخيال المنتج للرموز والحكايات التي تواتر على تكريسها وتخليقها المجهود الفردي والجمعي لتستأثر بموقع التأثير في حيوية الماضي بعدّه الخاصية الزمانية لظهورها – ولتكون من الأجزاء المكونة للمخيال الجمعي، وازاء ذلك فإن مؤلف الرواية يشير في عتبة الرواية الثانية إلى أن "هذه الرواية بجزأيها ومايلي من اجزاء تدور على ارضية تأريخنا الحديث مع أنها من نسيج خيال المؤلف وإذا ما وجد أحدهم صورة لشخصية ما في الواقع فهذا يعني انني قد اقتربت من الحقيقة التي هي هدفي الأول من كتابة الرواية".
والجدير بالذكر ان هنالك مخطوطة للجزء الثالث لم تطبع بعد وهي بعنوان "الأبناء في زمن آيل للسقوط" وإذ يؤكد المؤلف على أن روايته هذه من نسيج خياله فأنه يجعل الوقائع التاريخية الماضية وتحديداً عشرينات القرن الماضي خلال الاحتلال الانكليزي للعراق وقيام ثورة "1920" التي حملت أهدافا مزدوجة ضد الانكليز وضد الإقطاع ، فهذه الارضية التاريخية الراكزة في الذاكرة الجمعية كانت الفضاء الزماني والمكاني لنسج أحداث وشخصيات روايته فهو - المؤلف – لم يشأ أن تكون روايته أرضية لنضال الفلاحيين ضد الانكليز والاقطاع لتكون توثيقاً لتلك البطولات التي افرزها ذلك النضال وتناقلته الاجيال اللاحقة حتى زمن كتابة الرواية إذ ان القدرة التخيلية للكاتب دفعته إلى جعل عمله الأدبي هذا هو "رواية" كجنس أدبي فني تعتمد الوقائع التاريخية الماضية "الحقيقية" كهيكل يقوم عليه البناء التخيلي الروائي "أحداث، شخصيات"، فتتضمن الرواية اسماء لها وجود حقيقي على أرض الواقع "الدواية، الشعيبة، الوجود الانكليزي، بعض شيوخ العشائر المتحالفين مع الانكليز" هي وقائع فعلية الا ان ذكرها لا يعني ان الرواية تسير بخط أرخنة لثورة العشرين وتفاصيلها وانما اتجهت الرواية فنياً إلى تأكيد مخيالية الشخصيات والحوادث التي افرزتها تلك الرواية متصفة بملحمية عبر تكريس شخصية البطل الجمعي ، إذ ان الشخصيتين الرئيستين في الرواية وخاصة في جزئها الأول هما "محسن الحمد" و"مهير الحيد" قد اتصفا بالتمرد ضد الانكليز والاقطاع وإن ظهر ذلك على نحو غير واضح إلا إنهما قد خلقا الأرضية المناسبة لنضال لاحق يؤسسه أولادهما "سبع ابن مهير وسيف ابن محسن الحمد" وآخرون. لذا فقد كان طموح المؤلف إلى أن تكون شخصياته لها مرجعية واقعية في تفاصيل تلك الثورة الوطنية والطبقية التي عززت الشعور بإمكانية التصدي للاحتلال والاستغلال الاقطاعي ومهدت الطريق أمام انتفاضات وثورات لاحقة أكدت على صلابة المواطن العراقي وعززت من ثقته بقدرته على مواجهة اشكال الاستبداد، وهذا ما تمكنت الرواية من طرحه، إذ ان ما قام به محسن الحمد ومهير الحيد والشيخ مجهول الطوفان هو من مكونات ما استقر من مخزون الحكايات وتحولها إلى مرموزات مخيالية في الذاكرة العراقية الجمعية وذات اتجاه ملحمي بتأكيدها على البطولة الفردية الموضوعية، أي كما يمكن ان تسهم هذه البطولة الفردية في اغناء المخيال الجمعي بعدها مرموزاً لبطولة مشكلة لنضال المجموعة البشرية التي تنتمي لها الذات البطلة.
وبذا تتحقق للرواية رؤيتها للعالم الذي شكلته البنى المكونة لنضال الفلاحيين ضد الانكليز والاقطاع وامكانية تناقل البطولات التي قام بها الفلاحون في تلك الفترة من تاريخ العراق الحديث عبر الشيوخ والصبيان لتكريس "الرواية" للمخيال الملحمي عبر النضال الوطني والطبقي وتكريسه كبنى مكونه للمخيال الجمعي في بعده الملحمي، وامكانية عدّه الأساس الذي سيعتمد فيما بعد للقيام بثورات وانتفاضات تستمد صيرورتها من شبكة الصور الملحمية المشكلة لذلك المخيال وقد تبدى ذلك في الانتفاضات الوطنية والطبقية للشعب العراقي حتى قيام ثورة 1958م وإلغائها القوانين الداعمة للإقطاع والتحرر من النظام الملكي والتبعية للاستعمار البريطاني ، وهذا ما يشكل رؤية العالم التي حرصت الرواية على طرحه بشكل غير مباشر أو دون وعي الكاتب بذلك وانما تم التوصل إلى ذلك عبر طبيعة الصراع الاجتماعي للقوى المتصارعة المشكلة للمخيال في بعدها الفردي والجمعي.
وازاء ذلك فلا يمكن عد الرواية "ما يتركه الأحفاد للأجداد" للروائي غازي العبادي رواية تاريخية على الرغم من قيامها على أرضية تاريخية وهي نضال الفلاحيين العراقيين في ثورة 1920م كما أكدت العتبة الثانية لنص الرواية وذلك للأحداث والشخصيات المفترضة المتخيلة التي شكلت مجمل بناء الرواية ، أي الرواية متخيلة الا أنها استفادت من تفاصيل ونتائج ثورة العشرين في إطار تاريخي دون المكونات الحدثية والشخصيات التي تم تخيلها الا أنها لم تبتعد عن ما ترسب في الذاكرة الجمعية من بطولات فردية متواترة اتخذت طابعها الملحمي ، إذ ان الجانب التخيلي في الرواية تغلب على الجانب المرجعي الذي تشكل في ذاكرة المتلقي أساساً.وبذلك فقد ابتعدت الرواية عن كونها وثيقة تاريخية تتوخى الدقة في ذكر الأحداث الحقيقية والأشخاص المساهمة في صنعها وظلت عملا فنياً أدبيا محضاً.