ادب وفن

أوراق بانقيــــا.. سيرة مدينة النجف / جاسم عاصي

في التعرّف على كتاب "أوراق من ذاكرة بانقيا" لعبد الهادي الفرطوسي؛ نتداول ثيمتين تتعاملان مع المكان، أو ما أسميناه بـ "سيرة المدينة"، ذلك لأن السيّرة هي الأقرب إلى جمع الأطراف المعنية ومنها "الإنسان، الزمان، المكان، الأحداث" إذاً نحن أمام نص شامل، يتداول من خلاله المؤلف شتى أنواع المعرفة ومنها:
المعرفة بالمكان، وهذا يسحب معه نوع التعرّف على خصائص الأمكنة من حيث عمارتها وتأثيرها على الإنسان من باب وجودها ضمن حقل الذاكرة أولاً، وما يمكن أن يراه المرء وما يزال شاخصاً ثانياً. وهنا تكون الدالّة على المكان مباشرة، والتعرّف على مجموع علاقاته يكون وجهاً لوجه. بمعنى ما هو موجود مرئي يُحيل إلى ما اندثر معرفياً عبر ما تختزنه الذاكرة.
يكون التعرّف على البنية الاجتماعية من خلال ما يمكن التنقيب عنه حفرياً في خصائص المكان، وما يثيره من عوامل ومشاهِد الارتباط مع البنيات الأخرى في الأماكن المجاورة. وهنا نعني العلاقات الانثروبولوجية القائمة بين الجماعات.
البُعد التاريخي للشواخص الباقية والأخرى المندثرة، وبما يدفع إلى تاريخ هذه الأماكن، وتاريخ العلاقات فيها. فالتاريخ هنا مهم، لأننا بصدد سيّرة المدينة.
التاريخ المعرفي. لأن أزقة المدينة وشوارعها الضيّقة ذات دلالة اجتماعية، كما وأنها تحوي على نوع من الصفوف "التكيات" المعرفية. لأنها دور علم ومعرفة بالفقه وأصول الدين. ولعل تسمية هذه المداخل بأسماء علماء كبار دليل على هذا، كما هو "باب الطوسي" مثلاً.
المداخل إلى المدينة وأزقتها وشوارعها العامّة دالة على المقدس، فهي استهلالات مكانية لغرض التهيئة للدخول إلى الأضرحة والمزارات ودور العلم والعبادة، وبيوت المراجع الدينية.
أزقة المدينة بتصميمها القديم ضيّقة، حتى تصل في ضيقها أن يكون الدخول من خلالها صعباً لشخصين. وهذا له دليل تاريخي يخص الوضع الاجتماعي والسياسي القائم آنذاك، أي تاريخ المدينة الديني والانثروبولوجي والسياسي عبر تاريخ المدينة العام. وهذا يضفي نوعاً من الألفة بين أفراد الجماعات، والجماعات مع بعضها. فهو معمار نابع من خصوصية تكوينها الاجتماعي وبنائها الفكري. فهي متاهات تُرعب الحاكمين. ولعل معمارها المعقّد المتشابك صورة مرئية لذلك التكوين، كذلك ما يتضمن المكان من دلالات على المكين. إن شبكة الأزقة الضيّقة الملتويّة والسراديب المتعددة كانت حصوناً منيعة لأهالي المدينة وهم يقاومون كل سلطة ظالمة على امتداد العصور.
تبدو المدينة بمركزها الجامع "مقام ضريح الإمام علي" مدينة جاذبة، أي مركز إيواء الزائرين سنوياً، وعلى مر الأيام، إضافة إلى وجود مدفن مركزي "وادي السلام" وهذا المكان يُضفي على المدينة طابعاً يُضاف إلى جانبها المقدس، في كوّنها تستقبل الداخلين، سواء من يأتون زائرين، أو أنهم يودعون جثث موتاهم في المقبرة، كذلك الزيارات الدورية لقبور الموتى. كل هذا أضاف نوعاً من التفرد لهذه المدينة، وللمكان الذي نحن بصدد دراسته من خلال الكتاب.
كل هذه الخصائص والصفات المكانية حاول الكاتب أن ينضّد مدوّنته من خلال الدخول إلى المكان. فهو وكما ذكر العنوان "أوراق" أي مجموعة مذكرات ومصدرها الذاكرة واستنهاض مفرداتها من خلال المشاهدة والمقارنة، التي تُثار مكامنها عبر المشاهَدة والفحص المتواصلين. من أجل تنشيط محتوى الذاكرة ــ التي هي ذاكرة فردية وجمعية في آن واحد ــ تجري عملية المقارنة والحفر في أدق الأشياء المتعلقة بالأمكنة.
ما تأتي به الأوراق
لعل الأوراق المتعلقة بتاريخ المدينة الشعبي، وليس الرسمي. أي التاريخ المستقل عن السلطة الرسمية وإن ظهر تأثيرها على حراك محتوى الأوراق. فهذا خاضع لجدلية الوجود للمدينة وحيواتها. ذلك لأن كل الفعاليات لم تكن في يوم ما عائمة في الفراغ، بل أنها من صلب الحراك العام. فالمكان بمكوّناته الشعبية والرسمية يرسم وجود المدينة. ومن هذه المتعلقات التي تهدف إليها الأوراق هي البحث والإبقاء على هوية المكان. الذي كما ذكرنا له خصوصية دينية وتاريخية. فهو مركز للخلافة الإسلامية "الكوفة" مثلاً، وهو القريب من موقع "دومة الجندل" كذلك العلاقة بين المكان والمكان القريب الذي رسم وسجّل وقائع معركة الطف والاستشهاد في كربلاء. كل هذه المكوّنات تعني في أهم ما تعنيه:
ــ الهوية للمكان. من هذا نرى أن الأوراق تحث خطاها لوضع الأحقية لما تسبغه الذاكرة من حقائق هي من باب استعادة التاريخ الحقيقي للمدينة "المكان"
ــ ومن هذا أيضاً نقف على طبيعة المدوّنة السردية للمكان، لأن الأوراق جمعت بين السرد التوثيقي باعتباره منهجاً تاريخياً، والسرد الجمالي، لأن الكتاب من جانب آخر ارتبط بفن الرواية، بالرغم من غلبة الأرخنة على محتواها. فالهوية السردية المعاصرة أو الحداثوية ظاهرة في تسلسل الأوراق. فنحن نتداول محتوى لسجل تاريخي، معالج بحبكة روائية.
ــ يبدو أن الأوراق معنية بتاريخ الجماعات، لكنها في المحصلة التفصيلية معنية أيضاً بالأفراد. لأن المدينة حفلت برموز دينية أولاً وبمرجعيات دينية متعددة ثانياً، شكّل البعض منها نوعا من نشأة الحركات السياسية والاجتماعية، التي لعبت دوراً في تاريخ العراق الحديث. كما وأن هذا التعدد أضفى نوعاً من بنية التجديد والمحافظة على صعيد الحراك الديني. وهو لا يخص النص، بقدر ما يتعلق بالتطبيق والنظر إلى الواقع. وهذا ما وسم المدينة بتاريخ خاص ضمن حقل الأزمنة التي مرّت بها المدينة "المكان" فأسبغت عليها هذه الفعاليات الممزوجة بين الدين والسياسة نوعاً من النشاط والفعالية النضالية، شهدت لها فواصل من تاريخ المدينة.
ــ لعل تاريخ المدينة أنتجه العقل بفعالياته الدينية. لكنه أيضاً أنتج نوعاً من الفعاليات التي تتسم بخصائصها بمتن العجائبية، ومنها الأسطورة مثلاً. فالغرائبية تجتمع على الأمكنة المنطوية على حراك متمرد، يرافقه غموض متواصل "وهذا ما استفاد منه الروائي مرتضى كَزار في مدوّنته/ السيد أصغر أكبر" وما حاول الفرطوسي التداخل معه من خلال بعض الفواصل. سواء أنتج شكلاً من صورة الأسطورة، أو أنه دخل من منطق العجائبية والغرائبية إلى تاريخ واضح للمكان. لكن كما يبدو أن هذا الواضح يستتر خلفه الكثير من المضمر، والذي دفع الكاتب وسواه كـ مكي زبيبة في كتابه السيّري التوثيقي عن المدينة، والذي غلبت عليه الرؤى العجائبية أيضاً.
سقنا هذه الملاحظات باعتبارها فاتحة القراءة لأوراق الفرطوسي المعنية بالمكان من جهة، وبتاريخ المدينة الميثولوجي من جهة أخرى. فهي تنحو جانب المذكرات المفعمة والمسنَدة بالوقائع والوثائق التاريخية. بمعنى أن توثيق المكان ارتبط برموز التاريخ، بما أكسبه نوعاً من القُدسية. ولعل الجانب الشعبي كان الأكثر بروزاً في النص السيَر روائي. لأنه سجّل التاريخ الشعبي للمدينة. واعتبرها من المحركات المضافة إلى الوقائع الكبرى. فالتأثير هو ما يصب في تصعيد وتيرة الأحداث. لذا فلا تمييز بين المؤثرات، مهما كانت درجة مثولها، فهي تكتفي بذاتها، سواء في التأثير أو تصعيد الوتيرة. وأعتقد إن هذا المستوى من الحراك دفع بـ مرتضى كَزار إلى تخيّل المكان ــ المدينة ــ للصعود بها إلى مستوى الأسطورة والعجائبية. نرى أننا في مواجهة مجموع المهملات على صعيد الحدث والشخصية. وهي كما ذكرنا مهملات مؤثرة، واجهها الآخر بالقمع ومحو الوجود طيلة الأزمنة. إذاً تاريخ المكان هنا، ينبعث من تاريخ سردياته الكبرى والصغرى. فسردية مدينة "النجف / بانقيا" حافلا بالمركزيات ذات الطابع التاريخي كالانتفاضات والثورات، والأحداث الهامشية المؤثرة في المكان والحيوات، خاصة السلطة السياسية. من هذا نجد في جِراب كل من عاش وبقى على قيّد الحياة مجموعة من الحكايات، لعل الناقل الوسيط يحفظها، ويتحيّن الفرص للإدلاء بها. ولعل المؤلف واحد ممن شغله هذا، وحاول تنفيذه عبر نص حافل بدهشة المكان، وسريته المبهرة والمفيدة على صعيد البنية التاريخية والتوثيق. ولعل هذا انعكس على الأسلوب واللغة، من خلال تصعيد وتيرتها الشعرية في هذا الحيّز من الأوراق ، وفقاً لمدى ما تختزنه من تأثير على الرائي والناقل المدوّن. كان هم المؤلف أن يحافظ على طبيعة المكان وتاريخه عبر ما يجده مؤثراً، وما يضمن تسرب وقع السرد والروي على الآخر المتلقي. هي خاصية تُضاف إلى صورة النجاح الذي حاز عليها النص. فالمحو ما يشغل باله، لذا نجده يُنقب في بطون الوثائق، ويحث ملَكته في المتابعة لغرض توثيق معلومته، ودحض ما هو عامل على المحو برؤى توثيقية، غير غافل عن صيرورة ما يقوم به، وهو كتابة نص يجمع بين التوثيق والتسجيل، وحيازة المبنى الفني، لأن الكاتب له ما يرشحه في ضرب استعمال الخيال في روايات مهمة. لا سيّما أن البطل أو النموذج في النص، هو جمعي، أي أن النص معني بتسجيل تاريخ الجماعة، من خلال تاريخ الأفراد.
إن سدى ولحمة مثل هذا النوع من الكتابة، هو الاستناد إلى ما ترشحه العلاقات من فعاليات. لعل أهمها الطقوس والشَعيرات الدالة على المعتقد الراشح من البنية التاريخية للمكان وقدسية رموزه القارّة. من هذا نرى أن الكتابة من المكان ذات قيمة بنيوية، لأن الرائي والراوي والسارد يحتكم إلى حقيقة المعلومة، أولاً، ثم إلى الإحساس بما سطرته الأحداث ثانياً. فهو كاتب منفعل ومتفاعل. وهي أهم ما يمنحنا صورة المعادل الموضوعي الذي يُحققه للنص.
حراك المدوّنة
تدور أحداث الأوراق بين دخول "الطوسي" ووجود جسد الإمام علي "ع" من هذا نرى أن مخططاً معلوماتياً سوف يسير عليه المدوِّن. وهي بمثابة سند تاريخي بحت، شكّل إطار التسجيل للأحداث الجارية. يحاول المؤلف أن يمنح عمله نوعاً من التنظير، وهو البحث عن خيّار الكتابة السردية. أي ادخال نوع من التجديد المتعارف في الحوار الذاتي لخلق وانتاج نص جديد كما يعتقد الكاتب. فهو يتأمل تجربته الآتية في الكتابة، بين أن يتبع خطى المؤرخين، أو يسير نحو البحث عن المسكوت عنه في تاريخ المكان. وهذا أمر نسبي، فما يعتقد أنه مهمل أو مسكوت عنه، قد يجده غيره أكثر وضوحاً وتوثيقاً. من هذا نرى أن تأملات المؤلف في تنضيد نصه المكاني نسبي، لكنه يضمر حراكاً معرفياً جادّاً.
"كيف بنيت هذه المدينة ؟ وكيف كانت خطة البلدية قبل أن يهبط إليها الشيخ أبو جعفر الطوسي"؟
هذه الأسئلة دفعته إلى إلغاء فكرة التخطيط لبناء المكان، وانتفاء أي مخطط يجده مناسباً لتوليد قناعات معيّنة لذا قرر التمرد، واعتبار نفسه مؤسساً لتاريخ المكان، عبر تصوّراته وتأملاته وبحثه عن المهمل في التاريخ :
"هكذا قرر أن يتمرد على قواعد جيرار جنيث وجميع المعنيين ببناء الرواية
ويكتب على غير مثال"
هذا التصريح لا يبني صرح مقولته إلا بالشك بمخطط المدينة في الواقع، وعزمه على تأسيس مخطط لها على الورق الذي هو صورة مزيجه من تصوّراته ومعارفه. بمعنى وضع تاريخ روائي للمكان.