ادب وفن

صادق جلال العظم.. موت حارس العقل / علي حسن الفواز

قد يضعنا رحيل صادق جلال العظم أمام سؤال الفقد، وهو سؤال إنساني وحميمي، لكن الأخطر أن يكون هذا الرحيل سؤالا موحشا في الغياب ..
موت العظم وفي ظل هذا الظرف التاريخي الفارق والساخن يعني الكثير، فهو رحيل لأحد أبرز حرّاس العقل، وغياب في لحظة تقتضي الكثير من الحضور، وعند عتبات مجنونة لعالمٍ يحتاج كثيرا إلى العقل إذ أخذه جنون الجنرالات والفقهاء والحروب والكراهيات الى مدارات من الرعب الثقافي والسياسي والقيمي، وبعد أن صرنا إزاء هذا الموت العلني وكأنه بعض يومياتنا، حيث الحزن والشواظ والعطب، وحيث عطالة الأحلام وخلو المسافات الآمنة، وحيث يأخذنا الاستبداد والخوف الى ما لا نشتهي.
موت صادق العظم ليس لافتة عابرةً في تلك اليوميات المفجوعة، إنه عنوانٌ واقعي جدا لمحنة العقل العربي وهو يفقد رموزه، وليتوه بعيدا في المنافي بحثا عن عقلنة قابلة للنقد والاستعمال. لذا يتبدى هذا الموت وكأنه فاجعة، أو كونه احتجاجا أو رفضا. فمنذ أنْ كتب "نقد الفكر الديني" و"النقد الذاتي بعد الهزيمة" وهو يجاهر بمسؤولية "النقد الاحتجاجي" بوصفه وعيا بالأسئلة، بالقلق المعرفي والتاريخي، والذي يدعو من خلاله إلى الفحص والمراجعة، وإعادة قراءة "التاريخ" والذات والخطاب والأيديولوجيا ولمؤسسة السلطة والجامعة.
هذه القراءة تشبه المراجعة، فهي تحريضٌ على استعادة الوعي، وتبيينٌ له ولأسئلته، كونه ممارسة في لعبة "الوعي الشقي" تلك التي صارت هَمٌّا ثقافيا ووجوديا كبيرا، من الصعب جدا النأي عنه، والهروب من مسؤولياته. فما يحدث اليوم في سوحنا القومية يُثير رعبا فادحا، ويُربك الكثير من خطواتنا، ويجعل السؤال الثقافي أكثر التباساً، وأكثر ارباكا إزاء ما يجري، حدّ أنّ البحث عن وعيٍ ضدي صار نوعا من المغامرة. فالحروب والثورات والاحتجاجات ملأت المشهد القومي، لكنها مسكونة بالكثير من الجنون، ورغم أنها خرجت عن توصيفها القديم، إلّا أنّ تاريخ الطغيان و"النقل" صار معها أكثر رعبا، إذ أفقدها روح الأنسنة، ووضعها عند نوعٍ مرعبٍ من الإكراهات، تلك التي أفقدت "العقل" مشروعه النقدي والمعرفي، وحيث تواصل حكومات الاستبداد والجماعات الطائفية لعبتها الدامية والطاردة في عزل هذا العقل، وفي تغريب وعي (الجمهور) تحت لافتات الجوع والجهل المقدس والخوف والشعبويات الغاوية.
المُفكَّر فيه حاضرا
مشروع النقد الفاعل عند العظم تعالق بمحنة الوعي الشعبوي، وبضرورة أنْ يكون السؤال النقدي بمستوى هذه المحنة. إذ أدرك مبكرا خطورة هيمنة التفسيرات الدوغمائية على العقل العربي، وأنّ جوهر مراجعة ومواجهة فكر الهزيمة يكمن في نقد هذه التفسيرات وفضح مرجعياتها.
يقول العظم في سياق تبنيه المبكر لخطاب العقل "إنّ الايديولوجية الدينية على مستوييها الواعي والعفوي هي السلاح النظري الأساسي والصريح بيد الرجعية العربية في حربها المفتوحة ومناورتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن، كما أنّ بعض الأنظمة التقدمية العربية وجدت في الدين عكازا تتكىء عليه في تهدئة الجماهير العربية، وفي تغطية العجز والفشل الذي فضحته الهزيمة على طريق مماشاة التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الاسرائيلي والخسارة العربية".
إنّ نقده الجريء المؤسسة الدينية ورفضه خطاب الجبرية يعكس جدّيته في وعي المواجهة، بوصفها جزءا من فاعلية مشروعه النقدي العقلاني، وإنضاجا لوعي الحرية بمواجهة لعبة تزييف الوعي ذاته، وتعطيلا لإرادة الجمهور عبر توريطه في متاهات غيبوبة العقل، وإخضاعه إلى أوهام التطهير والخلاص. فما يراه العظم في نظرته لنقد الهزيمة ينطلق من تكامل رؤيته الاجتماعية والتاريخية والتربوية للأحداث، ونقده الصريح الفكر الشعبوي، وللأسباب العميقة - إقليميا ودوليا- وتأثيراته على صناعة تلك الهزيمة القومية. وهو ما جعله من أكثر المثقفين العقلانيين تبنيا لنقد العقل العربي التقليدي، وعلى وفق معطيات معرفة الواقع واشكالاته، وعبر مقاربات تجاوزت أطروحات النقد التاريخي الى النقد الواقعي، والنقد التاريخي الى النقد السسيولوجي. وهو ما أشار اليه الناقد د. فيصل درّاج في تقديمه كتاب العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة" قائلا: لقد "أراد صادق العظم وهو يحلل مظاهر السلب إثر الهزيمة أنْ يحلل الظواهر الاجتماعية التي تقود لزوما الى الهزيمة، قبل زمن حزيران وبعده، فحلل صادق بهذا المعنى التخلّف من حيث هو، قبل أنْ يحلل مهدي عامل السياسات السلطوية التي تؤمّن شروط تنمية التخلّف وتقترح أسس علم تجديد الهزيمة"
كما أنّ مقارباته حول أطروحات "الاستشراق، والاستشراق معكوسا" اقترحتْ الكثير من الأسئلة حول منهجية الاستشراق، وأطروحاته النقدية للفكر الغربي ولنظرة الغرب الأوربي والأمريكي للشرق. فهذه الأطروحات يمكن أن تكون قراءة تجديدية لما طرحه أدورد سعيد في كتابه الرائد "الاستشراق" والذي فتح الأفق واسعا لأسئلة أكثر جدّة في التعاطي مع ما هو قارّ في الفكري الاستشراقي، وفي تعاطيه مع التصورات الثابتة عن الاجتماع العربي والاسلامي. إذ يجد العظم في منظور ادورد سعيد حدودا معينة، قد يفتقد بعضها إلى النقد المنهجي، حيث يرى في الصورة الشمولية التي قدّمها سعيد عن الاستشراق وما ينطوي عليه من مواقف عنصرية لا إنسانية، مايشكّل منعطفا يحتاج الى المزيد من المقاربات الموضوعية والمهنية. إذ يقول العظم " صورة كهذه لا يمكن أنْ تكون ناتجة عن تطبيق أي منهج علمي محايد في معرفة الشرق، أو عن أية دراسة تتحلى حقا بالموضوعية العلمية والاستقلال الفكري، والرغبة المتجردة في البحث عن الحقيقة بالنسبة للموضوع الخاضع للدرس والتمحيص"3
العظم وشخصية الفهلوي
قد تبدو هذه الشخصية المثيرة للجدل هي الأنموذج الذي يعكس معطيات التحوّل في الاجتماع العربي وفي ترسيم ملامح الشخصية العربية التي تعاني عوارض الخيبة والخذلان. وبوصفها ظاهرة سوسيولوجية، فإنها تكون الأقرب الى تمثلات الصورة الشوهاء للواقع، ولقيم الانتهازية والرثاثة والاستغلال والوصولية. فهذه الشخصية التي سمّاها الدكتور حامد عمّار بـ "الفهلوية" تمثلّ خير تعبير للتحولات الحادثة في مرحلة ما بعد هزيمة حزيران، إذ هي" صورة خصائص وأنماط سلوك وردود فعل ومشاعر واحساسات يتصف بها الأفراد في بيئات اجتماعية معينة وبنسبٍ مختلفة، قد تزيد من فردٍ الى آخر، وفقا للظروف والأوضاع".
مقاربة العظم السوسيولوجية لهذه الشخصية تفتح بابا للكثير من النقاشات التي تدور بشأن هوية هذه الشخصية، وطبائعها. فهي أكثر تحسسا للتحولات الاجتماعية، وأكثر تعبيرا عن المزاج العام الذي وجد نفسه أمام صدمة تاريخية ووجودية، لم تُستوعَب تداعياتها. مثلما كانت باعثا للتمرد والسخرية والمفارقة، وربما لكراهية السلطة ذاتها، بوصفها المسؤولة عن الهزيمة، وبما يجعلها عاملا مهما في صناعة بيئات تربوية واجتماعية واخلاقية، وحتى ثقافية معطوبة ومسكونة بالرثاثة، وتتسع لنمو شخصية المغامر والنزِق والتجاوز على القيم العامة، أو ربما التجاوز على ما هو شائع من قيم مجتمعية تخص التنوع والتعدد واحترام الحق العام والخصوصية. ومن أبرز خصال هذه الشخصية كما يرى العظم أنها "تجعلنا عاجزين عن تقبل الحقيقة والواقع، وفقا لما تعرضه الظروف الحرجة من تصرف سريع، وتضطرنا إلى اخفاء العيوب والفشل والنقائض بغية إنقاذ المظاهر".
سيرة الحارس العقلاني
سيرة العظم حافلة بروح المغامر الباحث في الفلسفات عن أهمية العقل، وعن فاعليته في أنْ يكون حارسا للوجود، والمعرفة. وبقدر ما كانت مغامرته الأولى التماسا عند العقلانية الأخلاقية عند إيمانوئيل كانط، فإنه أدرك خصوصية أن يمارس هذه الوظيفة قريبا من هواجسه القومية، تلك المُصابة بفوبيا التاريخ والمقدس والخرافة. إذ أدرك عبر سجالات وأسئلة في النقد والاستشراق معكوسا و"ذهنية التحريم" الكثير من الإشكالات التي تخص مفاهيم السلطة والتديّن والديمقراطية والحق، والتي وجد نفسه إزاءها وكأنه الأكثر تماهيا مع وظيفة "حارس العقل" الحامل لوعيه الشقي، ولعلمانيته المؤنسنة، والتي لا تعني تقاطعا مع "الدين" بقدر ما تعني النزوع للتصدّي العقلاني والنقدي لكل تعقيدات الصراع الاجتماعي والسياسي، والعمل على معاينة أسئلته بمنظور تحليلي يدرك الأسباب الخفية للعجز، ولتغوّل مظاهر التخلف وصعود الاستبداد والطغيان السلطوي والايديولوجي والأصولي.
حارس العقل هي الوظيفة المُضنية والخطرة، وربما هي وظيفة المجاهرة بالكشف والتعرية والفضح، إذ تجد الأنتلجنسيا العربية نفسها أمام رعب النقل والإخبار في مدونات التاريخ والمقدس، وأمام رعب المسكوت عنه السلطوي والتحريمي. وهو ما يجعل هذه الوظيفة أكثر استشرافا للمواجهة، ليس لأنها الوظيفة الضد، بقدر ما هي محاولة في اصطناع العتبة الساخنة، أو كما يُسمى بالعلم العسكري بـ "الحجابات" حيث المواجهة، والتلقي، وحيث الصدمة، والاشتباك، وحيث فكرة الأضحية. إذ لا مناص من أن يجد المثقف نفسه أمام رهابات طاعنة من تاريخ مسلّح، وأمام زمن قومي يجدد لعبة أوهامه وأضحياته عبر الهزائم الثقافية والسياسية، وكأنه يستعيد قدره المباح منذ هزيمة 1967 والى انتكاسات الثورات العربية في ربيعها الدامي.
موت الحارس العقلاني
رحيل صادق جلال العظم وسْط هذه المتاهة يجعلنا أكثر خوفا من عطالة العقلانية، وأكثر بؤسا في النظر الى التاريخ، بما في ذلك تاريخ الهزائم، وعجز الثورات، ومن أن نجد أنفسنا أمام سلسلة طويلة من الفقدانات، ليس للقيم الثقافية المعرفية والنقدية فقط، بل لفقدان القدرة على الدفاع عن المستقبل، وعن الوجود. فتغوّل الرعب لم يعد حكوميا فقط، بل صار جزءا من منظومات فكرية لجماعات وأدلجات وضعت العقل في "القفص" بوصفه كائنا مشبوها، وبوصف مقولاته ومفاهيمه محاولات لإبانة الكفر الثقافي والمعرفي. وهو ما كان الراحل العظم قد استلهمه نقديا، دفاعا، ووعيا، ورؤية واضحة لمشروعية المثقف العضوي، ولجدّته في الكشف عن كل مظاهر الخيبة والعجز والفشل. فالكتابة تعني هنا المواجهة، وتعني هنا "الوعي الشقي" وتعني أيضا حيازة القدرة على أنْ يكون النقد ممارسة في نقد المؤسسة، وإشهارا لهذا الوعي والدفاع عن أسئلته.
رحيل صادق جلال العظم فاجعة تُضاف الى ركام فواجعنا، وحدث ينبغي أنْ ندرك خطورة ما يتركه من أثر، لا سيما وأنّ أفق الصراع - اليوم - أكثر حاجة إلى قوة عاقلة وفاعلة تدرك خطورة ما يحوطنا، ووسط تحولات وصراعات لها نُذرُها وشررها، ولها ضحاياها الذين باتوا أكثر رعبا وهم يعيشون مراثي العقل، وموت أسئلة نقده ومراجعاته. تلك التي تحدث عنها الراحلون محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون، وها هو العظم يلحقهم الى عتبة الموت احتجاجا على لعبة الغياب القاسية.