ادب وفن

" طشاري" والبحث عن الهوية / خضر حسن خلف

لنْ يألو القارئ جهداً في وضع اليد على الرسائل التي تبعثها رواية "طشاري" للروائية انعام كجه جي إلى العالم من القراءة الأولى ، فالبطلةُ التي تعيشُ حياةَ غربةٍ مجبرة عليها تقرأ مسيرة عالمها القديم الذي غادرتْهُ عنوةً نتيجةً للعوامل المعروفة المختلفة والاستثنائية ، فالدكتورة وردية وجدت نفسها اضطراراً تعيش غربتين ، الأولى :ــ داخل الوطن ، وهوَ الدرسُ الذي مكنّها من أنْ تصقلَ ذاتاً متوجسّةً . وتتجاوزُ بهِ عاملاً نفسياً كانتْ قد توشحتْ بهِ بفعل الهوّية ، فالأصلُ في هذهِ الغربة الداخلية غربة هوية. "عندمـا أخرجتْ كفـّها من الكيس القماشي وقـرأتْ اِسم المديـنة ، اِنكمشـتْ ووردتْ على بالـها كـلّ الاحتمالات".
وربّما كانَ توجّساً من عدم قدرتها على الانصهار ِفي مجتمع ٍفي توجههِ البيئي الاجتماعي وحتى الديني . ولكنـّها وجدتْ نفسها أَخيراً تعتمدُ على نفسها ومسؤولة عن أَرواح بشر بفترة ٍ وجيزة . وبفعل نشاط استثنائي في تلك البيئة الجديدة تتكيفُ مع الوسط وتنسى تخوّفها !. وهاهو الراوي العالم ؛ يعلمنا عنها ..
".. وفي الديوانية ستعيش وردية أَحلى سنوات شبابها ، وستواجه مخاطر المهنة وستسهر على نار أو تنام قريرة العين ، وستعقد أَوطد الصداقات وتخالط أَشكالا ًمن الناس وتتعلم كيف تتعامل معهم ، فرّاشاً ذا أَسمالٍ أو إقطاعياً صاحب أَطيان"، وليس هذا فقط ! ستلتفت في هذا المناخ الغريب إلى حالها وتنظرُ إلى الحياة بالسعادة نفسها التي يمكن أنْ تعيشها في بيئتها الأولى التي نزحتْ منها . وستحب وتأرق وتحفظ أغاني ام كلثوم وتذوق العسل الذي ما مثله عسل". إنها تكتشف أشياء جديدة في الألفة والمحبة واحترام الاِنسان على الرغم من الفقر المدقع الذي يلفّ شريحةً واسعة ًفي ذلك البلد . وقد أخذَ الوسط السياسي ينظرُ إليها مثلاً وانموذجاً في التفاني والاخلاص في مهنتها وفي خدمة الناس البسطاء .
ويمكنها آنْ تقود وتربي جيلاً من النساء إلى جانب مهنتها الأصلية ، فبعد ثورة 14تموز 1958 يعني بعد ثلاث سنواتٍ من تواجدها في المدينة .. "وجدتْ وردية نفسَـها مدعـوةً إلى المشاركة. لقـد طلبـوها لتصبحَ رئيسـة ًلرابطـة المرأة العراقيـة في الديوانية ، ذهبَ إليها طبيب من زملائها وأعطاها النظام الداخلي للحزب الشيوعي". لكنـّها تعتذر وتقول لهُ :"ما أحبُّ السياسة ، أَخاف منها" فيردُّ عليها :"تفتحين البطون بالمشارط وتخافين من حزبنا"؟
وأخيراً ترضخ للإلحاح إذْ "دائماً كانت أَقدارُها أَقوى منها" ولكن ليس للشيوعيين! بل لمناوئيهم القوميين . تستسلم ُ إلى الطلب الذي زارها من أجلهِ "المتصرف" وقائد الفرقة الاولى" وأَلحا ولم يتركاها إلاّ بعد أنْ نشفَ ريقها من عبارات التملص فقبلت العمل مع القوميين في منظمة نساء الجمهورية . لقد وجدتْ نفسها تعملُ مع نساءٍ محسوبات على ذلك التيار بحكم التبعية لأزواجهن . وبعدَ أنْ تفكـّك التجمع بفعل المماحكات السياسية غير المستقرة تنتهي تجربة وردية اليتيمة مع التيارات السياسية فتتنفس الصعداء.
هذه قراءة سيرة تتجاوزُ الذاتي إلى الموضوعي بناءً على تاريخ كيانٍ مهمّ من الطيف العراقي منذُ نشأتهِ وحتى انتشاره الجغرافي على رقعة الوطن ثم الهجرة الاجبارية نحو "الغربة الكبرى" التي نحن بصدد التعرف على خطوطها البيانية .
وهي العنوان الذي يعني للروائية الشيء الأساسي ، يعني تدهور هوية لها تاريخٌ متجذّر ضارب في هذه الأرض التي تتعرض إلى التمزق على يد متطرفي العصر !.
وقد جاءتْ "طشاري" التي تعني التفرق وكما تصفه :ــ "تطشروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كلّ الاِتجاهات".
فتكتشف أنّ آلامَها ومكابداتها ليس غربتها هي المجبرة عليها في البلد البديل عن الوطن الأصلي وإنـّما استيعابها الغاية التي ترمي توصيلها إلى العالم في تتبعها مسار اجبار طائفةٍ ومكوّنٍ عراقيّ أصيل على الهجرة والتغرب نتيجة للعوامل والملابسات الكبيرة التي يمرُّ بها البلد ، فالإحساسُ بتلك الحرقة يعني عدم استقرارها ، وعدم ألفتها مع المكان البديل ..
فيظلُّ لديها من اللوعة والاشتياق إلى الوطن الأم ما يجعلها أسيرة الماضي الذي دونْتهُ بمحبةٍ وجهدتْ بروايته بعرقٍ لم ينشفْ بعد . والروائية خبرتْ ذلك فاستعارتْ نصّ الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب "غريب على الخليج":
لو جئتِ في البلدِ الغريب إِليّ
ما اكتملَ اللقاء
الملتقى بكِ والعراق على يديَّ
هو اللقـــــــــاء
كما إنها تعي تماماً أسبابَ هذه الهجرة القسرية للطائفة ، وتعرفُ انها ازدادت بفعل التحولات التي عصفت بالبلاد جرّاء عدم الاستقرار السياسي وحتى الفكري مما سبّب استفحال التناقضات ، فتوشحتْ كلّ المكوّنات في الطيف العراقي بمضاعفاته وتوضّحت الأسباب التي شكلتْ المنحى للعنف والكراهية!
في الغربة يتعاظمُ الإحساس باليقظة وتكونُ المقارنة بين ما نحنُ عليهِ وبينَ ما نحسّهُ في العالم الذي نسكنه أساساً للتمايز ، فالروائية خبرتْ ذلك ولكنّها تصفُ بطلتها الدكتورة وردية التي لم يعد هذا التمايز يعنيها في شيء "تتعب من آهات التمني ويتراخى عنادها ، تذعن لنداء اولادها ، وتقرُّ بأنْ لا شيءَ يغريها بمواصلة العيش في مكان لم يعد منها ولم تعد منه .. " .
إِنّ وردية ــ بطلة الرواية هي الصوت العالي الذي يتبنى افكار الكاتبة أنعام كجه جي أو ما نسميه بالراوي العليم وقد أَدرجت قضية حكاية الهجرة المسيحية على مضمار القص . وأحياناً تتشاطر الكاتبة السرد مع راويها وربما تنوب عنها ابنتها الطبيبة "هندة" وهي في كندا مع زوجها وأولادها ، أو اِبنة اخيها "ام اسكندر" التي تحب الشعر وتكتبهُ سرّاً . إِنّ اِستعادةَ ما جرى يعني استعادةَ تأريخِ حقبةٍ من تأريخ العراق الحديث ويعني هذا انّ الروائية َالتي عانتْ هي ومكوّنها جرّاء العوامل والملابسات تفترض انتاج معادلٍ يخلقُ شخصياته الافتراضية صوب التسامح وتآلف العيش مقابل تلك الكراهية والعنف ، إِنّ حلمَها في أنْ تكون الأرض التي شبّوا عليها مكاناً للتواصل ثانية ًوهو حلمٌ افتراضي ظلَّ يقضُ مضجع وردية ، فيبادر "اسكندر" الصبي بعد أنْ رآها مهمومة لا تريدُ أنْ تـُدفن في تربةٍ أجنبية بتصميم مقبرةٍ إلكترونية تجمع عظام كلّ العائلة وممن تطشروا في بلاد الله الواسعة .
رواية "طشاري" تحاولُ أنْ تنقل الواقع العراقي إبّان الخمسينات مروراً إلى الواقع العراقي المعاصر من خلال شخصياتٍ ترسمُ تلك الحياة بلغة ٍواسلوبٍ سهل ٍمرن .