ادب وفن

"سوق هرج".. مركزة المكان / عبد علي حسن

يعد المكان واحدا من الأركان المهمة التي يقوم عليها السرد الروائي، لكونه الحيز الذي تجري فيه الوقائع والأحداث. وقد اهتمت الدراسات والمناهج النقدية المعاصرة به- خاصة مناهج ما بعد البنيوية-- وفق وجهة نظر "فينو مولوجية" تتجاوز المفهوم الفيزيائي والجغرافي الى تقديم مفهوم فلسفي يستبطن الظاهرة المكانية لتقديم وعي النص بالمكان، لذا فان المكان الفلسفي قد استحوذ على الدراسات النقدية الحديثة التي تجاوزت المفاهيم السائدة والمستهلكة لمفهوم المكان.. كما اهتمت النصوص السردية ومنها الروائية بتقديم وجهة نظر تتضمن وعيا داخليا بالمكان، فالمكان الفيزيائي والجغرافي مكتشفان أما المكان الفلسفي فهو مكان يتم التوصل الى مغزاه ووعي النص به عبر التفاعل النصي واستدعاء المرجعيات الجمالية والفكرية للمتلقي.
لذا فان ورقتنا النقدية هذه ستدرس وعي النص بالمكان في رواية "سوق هرج" للقاص والروائي عائد خصباك.
تتبدى مركزة المكان، أي قصدية النص في جعل المكان بنية مركزية منذ العتبة الأولى للنص الروائي وهي العنوان، فـ "سوق هرج" دلالة لمكان راكز في الذاكرة الجمعية بعده مكانا لبيع وشراء المواد المستعملة على اختلاف أنواعها، ولعل في وضع هذا العنوان إشارة واضحة الى جعل "السوق" موضوعا للرواية ويتمتع بموقع متقدم ومركزي مقصود في عملية السرد الروائي، إلا ان النص فضلا عن التعامل معه كمكان فيزيائي وحيز يستوعب النشاط الاقتصادي الذي تقوم به الشخصيات، فانه يكشف عن وعي بالقيمة الداخلية لهذا المكان، وقد تبدى ذلك منذ الصفحات الأولى للنص الروائي "سوق هرج، أكثر من سوق، هو أقدار عدة تجمعت الى بعضها لابد أن شخصا مثل هادي طرزان أو ربما غيره يشعر بعاطفة صادقة نحو هذا الوطن المتلاصقة اشلاؤه المتكتل الى بعضه. ......". وفي الصفحة نفسها "هذا السوق كائن حي، ربما هو مثل العصافير أو الدجاج يغلق عليه باب عشه أو قفصه عندما تحين ساعة الغروب". ويحاول النص بذلك ان يمنح السوق صفة أخرى مستبطنة للمكان ببعده الفيزيائي تتجاوز التوصيفات الأخرى المألوفة أو المكشوفة للمتلقي فجملة "أكثر من سوق" تشير الى قصدية النص ووعيه بمركزة السوق والتعامل معه كمكان فلسفي يتضمن رؤية جمالية وفكرية، فهو "أقدار عدة تجمعت الى بعضها".
وفي هذا الاتجاه ينحو النص إلى تأكيد مركزة السوق عبر اسلوب الروي الأفقي الذي يكشف عن وعي النص بالمكان لنعرف ان الشخصيات التي احتوتها الوحدات السردية العشرون إنما هي نتاج السوق عبر العلاقات المتشكلة بين الشخصيات والسوق بطابعه وتوصيفه المهني أي ان الشخصيات قد انتجتها المصالح المهنية في السوق. فشخصية "هادي طرزان" التي امتدت على مساحة أكثر من وحدة سردية، إنما هو نتاج عملية البيع والشراء التي جعلته دلالا وسيطا لبيع المواد المستعملة، وكذا بقية الشخصيات التي اكتفى النص بالتلميح الى المهن التي يزاولونها في السوق، فالمكان هنا هو صانع للشخصيات الروائية، ولأجل أن لا تبقى غائمة الملامح في مجريات السرد فان الروائي يعمد الى بناء أفقي يتمثل في متابعة مصائر الشخصيات وأفعالها وما يحصل لها وكذلك تطورها، وكل ذلك يحصل خارج المكان "السوق" من خلال استخدام تقنية التوالد الحكائي الذي يظهر فيه أثر اسلوب حكايات ألف ليلة وليلة واضحا. فما ان تنتهي وحدة سردية ما بظهور شخصية الى مسرح الأحداث لأول مرة حتى تبدأ بهذه الشخصية الوحدة السردية اللاحقة لتختص هذه الوحدة الجديدة بسرد ما جرى للشخصية الجديدة حتى وصولها الى السوق واتخاذها واحدة من المهن المعروفة. ولعل هذه التقنية --التوالد الحكائي-- المكرسة للأحداث والوقائع التي مرت بها الشخصيات خارج السوق قد أسهمت في تعزيز البنية المركزية للمكان وعده مكان الجذب لهذه الشخصيات التي وجدت نفسها أخيرا في السوق بعد ان مرت بأحداث ووقائع خارجية. فالوحدة السردية الأولى تختص بـ "هادي طرزان" الذي يعد المحرك لعملية البيع والشراء في السوق، وهو من الشخصيات المركزية في الرواية وعنده تجتمع خيوط حركة وأفعال الشخصيات الأخرى من خلال العلاقات الممتدة التي تربطه ببقية الشخصيات التي أنتجتها السوق. إذ تكشف هذه الوحدة عن تفاصيل مكونات هذه الشخصية التي ستلعب أدوارا مختلفة خلال مجريات الرواية.
سواء خارج السوق أو داخله "هادي طرزان" باب "سوق هرج" الذي لا تؤتى إلا منه. .." وإذ تنتهي هذه الوحدة عند الشيخ باقر موجها حديثه الى فخري المكوجي "اترك هادي طرزان وشأنه" حتى تبدأ الوحدة السردية الثانية لتكشف النقاب عن شخصية الشيخ باقر الذي ظهر لأول مرة في نهاية الوحدة الأولى. .لتتعقب حياته وتفاصيل تكون شخصيته المهنية حتى الكيفية التي وصل فيها الى سوق هرج وفي نهاية هذه الوحدة تظهر شخصية درباس الحلاق في السوق مجاورا لمحل الشيخ باقر. لتبدأ هذه الوحدة الجديدة بالكشف عن تفاصيل الحياة السابقة لوجود درباس في السوق حلاقا. والدخول في تفاصيل حياته الخاصة وكذلك مجمل الأحداث التي مرت به في حياته حتى وضعه الأخير في سوق هرج. وعمله صبيا في محل الحلاقة ليكتسب خبرة في مهنة الحلاقة تؤهله لفتح محل حلاقة خاص به. وهكذا وعبر تقنية التوالد الحكائي هذه ليتمكن النص من الكشف عن الشخصيات الفاعلة والعاملة في السوق ليكون المتلقي على دراية ومعرفة على جذور الشخصيات كل ذلك من خلال السرد المتخيل الافتراضي الذي تولاه الراوي العليم "هو" وباستخدام ضمير الشخص الثالث ليكون هذا الراوي على دراية ومعرفة بكل ما يدور في السوق ومتابعاً لما يطرأ على هذه الشخصيات التي قصرت الرواية فعلها التخيلي والواقعي الراكز في الذاكرة الجمعية على أسماء ومهن الشخصيات التي شكلت العمود الفقري ومكونة للمظهر الداخلي والخارجي لـ "سوق هرج"، لقد أتاح استخدام ضمير الشخص الثالث في الروي للنص الدخول الى أعماق الشخصيات والكشف عن كل ما هو مستتر ومسكوت عنه عبر اسلوب يذكرنا بالشخصية الشعبية في الأدب العربي وتحديدا في روايات نجيب محفوظ من خلال التركيز على هذه الشخصيات الهامشية في المجتمع والمكونة لتفاصيل وأحداث الأمكنة المهمة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمدينة "الحلة". لذا يبدو سوق هرج هو الشخصية المركزية في الرواية ومنه تنطلق الشخصيات لتخليق تفاصيل حياتها خارجه تماما. إذ ان الأحداث الواقعة في السوق لا تكاد تذكر. . اذ كرس النص هذه المركزية للمكان في بعده الموزع للأدوار الحياتية التي تقوم بها الشخصيات، وبمعنى آخر فان العلائق بين الشخصيات قد وجدت بفعل وجودها بين تفاصيل هذا المكان الذي أنتجها بعدها شخصيات واقعية وبأحداث افتراضية تخيلية كشفت عن قدرة النص في المتابعة الدقيقة عبر لغة روائية ساعدت المتلقي كثيرا في متابعة الرواية بشغف واضح دون الوقوع في تقريرية إنشائية يتوقف عندها السرد، اذ ان الروائي عائد خصباك قد خبر الأساليب الروائية والقصصية منذ سبعينات القرن الماضي وقد تمكن في روايته هذه "سوق هرج" وبقصدية مدروسة من البناء الاسلوبي ومحايثة اتجاهات الرواية الحديثة فبالإضافة الى اهتمامه بالهامشي والمقصي من الشخصيات التي مارست حضورا اجتماعيا يجعل المتلقي على دراية تامة بمجريات حياتهم الخاصة ،اذ ان النص قد استثمر كثيرا ما هو حقيقي في هذه الشخصيات المتعالقة مع ذاكرة المتلقي بعدها شخصيات موجودة فعلا في الحياة. إلا انه التقط من هذه التفاصيل ما يمكن ان يكون خط الشروع في استكمال بنائها بناء افتراضيا متخيلا فيما بعد ولا ينس --وهو يقوم بذلك-- ان يكون للمكان مركزيته المقصودة وتبين أثره في إنتاج شخصياته الرئيسة والمعروفة، فـ "هادي طرزان، ترباس، الشيخ باقر، علي المخبل، فخري، بلبل، مرتضى السايس"، وغيرها من الشخصيات المعرفة لدى المتلقي وموجودة في الواقع خلال الزمن الروائي.على الرغم من التحوير الذي أجراه الروائي على هذه الأسماء، اذ ان النص يقترب من الواقع قدر ابتعاده عنه فالنص لم يكن سجلا توثيقيا لحقبة الأربعينات أو الخمسينيات من القرن الماضي إنما هو نص روائي حاز على المواصفات الاجناسية لفن الرواية، إلا انه تهيكل على الواقع مكانا وشخصيات فيما اختص الجانب التخييلي ببناء أحداث ووقائع لا صلة لها بالواقع الفعلي إلا ما ندر من أحداث كالتظاهرات ضد مشروع تقسيم فلسطين.
لذا فان المتخيل السردي قد أسهم في تخليق عوالم روائية مشوقة ومحفزة على متابعة مصائر الشخصيات مع استحضار الذاكرة الجمعية للمكان وللشخصيات.
فضلا عن اهتمام الرواية بالهامش من الشخصيات فانها قد اتبعت اسلوبا روائيا محدثا في خرق التتابعات الكرونولوجية في تسلسل الروي فتمتع النص بحرية الانتقال عبر الوحدات السردية العشرين من حدث الى آخر دون ان يراعى التسلسل التقليدي للروي، ولعل طبيعة المتن الروائي قد دفعته الى ذلك فضلا عن تخليق التشوق لدى المتلقي عبر هذا الانتقال وجعل المتلقي منتظرا أحداث أخرى تخص هذا الحدث المقطوع لتتم العودة إليه فيما بعد، فان الرواية لم تتبع خطا متسلسلا ومتتابعا لحدث مركزي ينبغي متابعته بل ان الرواية هي أصلا رواية مكان أسهم في إنتاج شخصياته التي امتلأت بتفاصيل حياتها وتكونها خارج السوق وغير خاضعة لبنية تتابعية أو مركزية في تسلسل الأحداث. وبذلك فقد تمكنت هذه الرواية من الدخول الى تقنيات سرد ما بعد الحداثة بخرقها التتابعات الكرونولوجية والاهتمام بالهامش وبظاهراتية المكان ليس بعده مكانا فيزيائيا يستوعب الشخصيات وما تقوم به من أحداث وأفعال وإنما تجاوزها الى طرح الرؤية الفلسفية للمكان بعده كائنا حيا ينتج شخصيات تمارس أفعالها وأحداث حياتها الخاصة خارج المكان وفق مخيلة خصبة ومتمكنة من لم خيوط اللعبة الروائية وواعية لمجريات الأحداث الكثيرة التي تضمنتها.
إذن هي رواية سيرة لمكان منتج لسيرة شخصيات ارتبط وجودها ومصيرها بالسوق عبر لغة روائية لا تستبعد الفنون البلاغية من وصف وإدارة السرد الذي استمد كثيرا من أحداث حقيقية وقعت في البنية الاجتماعية منذ تشكل السوق وحتى انتهاء فعالياته عبر التحول في البنية الاجتماعية وأثره في التغير الفيزيائي للسوق. ولعل صورة الغلاف التي تحمل في فضائها الدلالي ما يشير الى نهاية هذا السوق كفعل اقتصادي واجتماعي بعد انتهاء دور الشخصيات على الصعيد الحياتي والتحول المهني للشخصيات. وقد تبدى ذلك من خلال الباب المغلق بالسلاسل. ولعل ما كرسته ورقتنا هذه من توضيح لقصدية الرواية في مركزية المكان فان هنالك جوانب نقدية من الممكن ان تحوز على دراسات مستقلة للكشف عن الكثير من المظاهر الروائية التي كونت وجهة نظر النص لم نأت عليها ونأمل ظهور دراسات أخرى تعنى بتلك المظاهر.