ادب وفن

لوحة للفنان جواد سليم، بين المنجز التشكيلي والتلقي / ستار الناصر

للتلقي في فن التشكيل - كما هو في الفنون كافة - كل الافتراضات والتأويلات ، ومن أجل التلقي أيضا هناك اشتغالات التجريب في انشاء مبنى المتن الحكائي للمنجز. فالتلقي بوصفه الحامل لعديد التأويلات التي يعكسها ما يبثه فضاء المتن الحكائي "اللوحة" الذي يفترض فيها كثير من العلامات ونظم الاشارة ؛ وعلى هدي تخطيط استباقي غايته مشاكسة الراسخ والتراكمات الجمالية في الذائقة. والمنجز الذي لا يدفع الى منطقة التأويل هو منجز ضعيف عاطل وبالتالي فهو عاجز ميت تماما.
ولادة التأويلات هي الدليل الأكيد على جمالية اشتغالات الفن التشكيلي. هكذا تعودنا في قراءة مشهدياته؛ بمعنى ان نبحث في أول المشاهدة عن مقتربات وجسور ندخل من خلالها الى فضاء اللوحة لنعرف المضمون، فاشتغال الألوان وانحناءات الخطوط التي تتحاور في متن المنجز وتنامي الفكرة على وفق أهداف ونوايا هي من تصنع المبنى الحكائي "الاخراج" للمنجز كمحصلة جمالية بالضرورة. فالمنجز الذي يغيب فيه الموضوع "المضمون" هو ليس أكثر من ثرثرة ألوان ولغو في متاهات الخطوط ومساراتها.
كثيرة هي معارض التشكيل اليوم، سواء الفردية أو المشتركة وهي غير متوقفة بل تتكاثر باضطراد ، لكن كم منها استطاع أن يوصل فكرته الى المتلقي؟ وكم منها خلق أرضا خصبة للتفاهم بين صاحب المنجز والتلقي. هذه التساؤلات وغيرها هي ما يدور الآن في المشهد التشكيلي.
لا نقصد بالتفاهم تبسيط أطر معالجة اللوحة، أبدا، بل دعوة إلى تفعيل الخطاب التشكيلي على وفق نظام دلالي مفهوم ، وذلك ما نجده تماما في أعمال الرواد رغم انهم اشتغلوا ، أو تأثروا بمدارس شتى سواء تخرجوا منها ، او نقلوها عبر مشاهدات ومشاركات عالمية ؛ لكننا كنا نخرج بعد المشاهدة ونحن سعداء بجماليات التكوينات مرحبين بخطاب التجريب، بمعنى لم تغب المتعة ولا سكة التواصل مع افتراضات صاحب المنجز ، أي أن آخر اللعبة الجمالية المعروفة بالمرسل والرسالة والمرسل اليه تتضح معالمها بفضل مقتربات وجسور شيدها المبنى الحكائي للمتن. وهكذا تجد التسابق على اقتناء اللوحات بأثمان عالية، وكم شاركت دول أو مؤسسات عبر دخولها مزادات للحصول على عمل من هذه الأعمال, أليس في هذا دليل على مسألة التفاهم بين صاحب المنجز وجمهوره؟.
شهدت مرة من هذه الفعاليات أجملها حين تم في مبنى الجمعية الثقافية السويسرية بحضور السيد وزير الثقافة الأسبق الأستاذ مفيد الجزائري مراسيم استلام مجموعة من اللوحات المسروقة التي اعادها الطيبون ، وكانت لأشهر فنانينا التشكيليين، كان الحفل يومذاك حافلا بأنغام الفرح والوفاء للثقافة العراقية. أين تكمن قيمة هذه اللوحات؟ أليس لأن مواضيعها استلت من واقع معاش ثم أعاد الفنان انتاجها على وفق رؤيا جمالية خلقت وشائج بين المنجز والتلقي؟
حين شاعت نظرية الفن للفن في الأوساط الثقافية رافقها أيضا النقد متهما اياها بالابتعاد عن هموم الناس وانزوائها في برجها العاجي، وهكذا ملها الناس حتى باتت لغة فوقية، بل رطانة لونية ليس لنا مقدرة في فك طلاسمها . فأمست وقفا على المشتغلين فيها دون التلقي الذي يفترض أن تكون كل الجهود له، فهو المحصلة لكل الفنون. وعلى وفق ما تقدم تظل الناس عطشى لفن الرسم، الفن القديم قدم الانسان نفسه، ونحن بحاجة الى فن مفهوم قائم على جماليات وان تعددت أوجهها، ومهما اختلف التناول الجمالي في الانتاج.