ادب وفن

"الانسة جوليا".. بين التمرد وتبادل المراكز / صباح هرمز

مثلها مثل مسرحيتيه البجعة واللعب بالنار يتعرض سترندبرغ في "الآنسة جوليا" الى المرأة التي تنساق إلى نزواتها عبر خيانتها الأسرة أو الطبقة التي تنتمي اليها.
تنشأ حبكة المسرحية من حيث ترقص جوليا مع حارس الصيد وتمتد هذه الرقصة الى خادمها وبالتالي ترتبط به بعلاقة غير شرعية التي تدفعها تجنبا لأمر افتضاحها إلى الهرب مع جان .
و"جان" هو الشاهد الوحيد الذي رأى بأم عينيه حادثة فسخ خطوبة جوليا، اذ أن خطيبها هو الذي فسخها وليست هي لأنه عرف كيف يقف بوجهها بعد أن كانت تحمله على أن يقفز فوق سوط خيلها كما تعلم كلبا على القيام بحيل وقد قفز مرتين ولسعته بالسوط كل مرة وفي المرة الثالثة أنتزع السوط من يدها وكسره الى قطع صغيرة ثم انصرف.
وجان وكريستين يحبان بعضهما البعض وتطلب منه أن يرقص معها ويعدها، الا أن جوليا تحول دون ذلك من خلال دعوته هي الأخرى بعد أن تسمح لها كريستين أن ترقص معه ، ويرى جان من غير اللائق لجوليا أن ترقص مع الخدم لأن الناس ستتكلم عنها وعن عائلتها بسوء ،بيد أن جوليا لا تعتبر هذا أمرا مهما طالما الليلة عطلة فيجب أن يتمتع الكل ولا يفكرون بالرتبة ، وتطلب منه أن يغير ثياب الخدم بثياب الرقص وعندما تحس بخجله تدير له ظهرها لكي يتسنى له ذلك ، ويروقها مظهره بالسترة لانه يبدو فيها جنتلمانا ، ومن خلال هذا الاعجاب ، تحديدا جملة "تبدو جنتلمانا في هذه السترة" يبدأ التقارب بينهما وتزداد معرفتهما الواحد بالآخر ليتحول هذا التقارب وهذه المعرفة الى حب ومن ثم الى علاقة غير شرعية، حيث تشرع نقطة الخلاف بينهما حول هربهما قبل افتضاح أمرهما، ومن هنا أيضا تظهر حقيقة الطبقة التي تنتمي اليها جوليا ويتوضح زيفها ودجلها وانها لاتختلف كما يتوهم العامة في تفكيرها وسلوكها عن بقية الناس إن لم تكن أسوأ منهم ، وهذا ما يسعى المؤلف الذهاب اليه وبرهنته عبرشخصية جوليا في ثاني علاقة حب فاشلة لها مع شابين مستوى طبقتهما أدنى من مستوى طبقتها ومدى صلتها بتفكك أسرتها الناجم من عدم سفرها مع والدها الى بيت عمها .
وليس الكونت وحده دكتاتورا ، فجان هو الآخر كذلك ، وإذا كان الأول يستخدم هذه السلطة مع أفراد أسرته وفلاحي قريته فإن الثاني يستدخدمها في البداية مع كريستين ثم مع جوليا ،وتنطوي هذه الدكتاتورية بين ثنايا الجملتين اللتين تطلقهما كريستين:":أنت أصعب من الكونت" و"لم أر رجلا صعب الإرضاء مثلك" وهاتان الجملتان بقدر ما يشيان الى هذا المعنى أنهما بنفس القدر يشيان الى هجرة جان لكريستين لتحليه بالدكتاتورية وهجرته لجوليا لتحلي والدها بنفس الصفة. وهذه الصفة تنسحب الى جوليا ذلك لأنها لا تتمرد على طبقتها من خلال ربط علاقة غير شرعية بجان فحسب وأنما أيضا لأنها تحلم أن تعيش بين عامة الناس من خلال عدم أحساسها بالراحة ألآ بعد أن تستقر على الارض في الأسفل وتجتاحها رغبة عارمة في أن تغرق أكثر فأكثر داخل الأرض ، بعكس جان الذي يحلم أن يصل الى أعلى . أي مثل جوليا متمردا على طبقته .
اذن لكلا الشخصيتين أطوار غريبة وتختلفان عن بعضهما البعض، ومن الطبيعي ألا يلتقي مثل هذين النموذجين حتى في أدنى مرافق الحياة وأبسطها نجاعة وتنشب الخلافات بينهما وتتطور الى تكشير أنيابهما ليقذف الواحد بوجه الآخر سمومهما لخاتمة تقليعة من السباب والشتائم كقول جوليا لجان:أنت أيها الخادم أيها التابع قف حينما أتكلم أليك ورد جان عليها قائلا: أنت يا ... لم أر في حياتي فتاة قدمت نفسها كما فعلت انت الليلة . . . ومخاطبتها بهذه الجملة: أصلي أفضل من أصلك.
تسعى جوليا إلى أن تفرض سلطتها على جان مثلما حاولت مع خطيبها الأول عبر مراعاته رفقة المرأة ليشاركها بدون خجل شرب البيرة وعندما يرضخ لأمرها تطلب منه أن يقبل حذاءها ليكمل صورة السيد المهذب ،ولكنه لايحبذ أن يبقى معها على هذا النحو خوفا من تعرضهما إلى مداهمة شخص ما التي لا يهمها ذلك وتمضي في غيها داعية إياه إلى الخروج معها الى الحديقة ، وعندما يرفض دعوتها بشدة خوفا من عيون الناس وألسنتهم ، تتساءل فيما إذا كانت واقعة في غرام خادم فيرد عليها جان : إن هذا يحدث ولا شيء مقدس عند أولئك الناس ، وتعتقد من وجهة نظره المتعالية هذه على طبقتها أنه أرستقراطي ولأنه يتفق مع رأيها مع أنه خادم هذه الطبقة إلا أنه يسعى إلى أن يرتفع الى مستواها، فتقترح عليه أن تختار بعكس طموحه ، أن تخطو هابطة ، ويفهم جان هذا الهبوط أو الناس هكذا ستفهمه لا فرق ، انه سقوط .
ولاعتقادها أن رأيها عن الناس أفضل من رأيه تقص عليه الحلم الذي يراودها بين فترة واخرى ،حيث يتراءى لها أنها تتسلق عمودا عاليا ولا تعرف كيف تنزل ذلك أنها لن تستمتع بأي سلام وراحة الا بعد أن تستقر على الأرض. ما معناه أنها ترغب في الانسلاخ عن طبقتها والانتماء الى طبقة جان ، بينما يحلم جان بأن يصل الى القمة ،أي أن ينكر هو الآخر طبقته وينتمي الى الطبقة الأرستقراطية ، وبنزولها هي الى الأسفل وصعوده هو الى الأعلى حيثت تتحقق أحلامهما تقع الخطيئة في الحديقة بعد أن يناما على تسع زهرات من أزهار منتصف الصيف، إذ تقع ابتداء من قول جوليا "شيء في عينيك دعني أرى" مرورا بجملة جان :"الا تعرفي أن من الخطر اللعب بالنار" وانتهاء برد جوليا عليه :"لست أنا ، فأنا مؤمنة".
ولكل منهما مسوغاته في الانجذاب إلى الآخر ، فإذا كانت مسوغات جوليا تكمن في تعويض الخطيب الذي فقدته بآخر أقل مرتبة منه لترويضه إشباعا لانحدارها الطبقي ، فان مسوغات جان تنحصر في تحقيق جزء من أحلام الطفولة بالعودة الى المكان الذي هو حديقة الكونت بغية الوقوف على حقيقة الطبقة الارسقراطية ومعرفة طبيعتها. ولكن جوليا لم تفطن بأنها ستواجه خادما أشرس من خطيبها الأول ودكتاتورا لا يلين ولا يخضع إلا إلى دكتاتورية والدها الكونت، بدليل أن جرس الكونت برنتيه أبطلتا فراره مع جوليا، بالإضافة إلى احترام لمهابة سيده لم يمارس الحب معها داخل المنزل. ومن هذا الفهم لمسوغات انجذابهما الى الاخر فأنهما غير متحابين بل يكرهان بعضهما البعض وجوليا تعلن صراحة أنها تكرهه كما تكره جرذا، أما جان فيظهر كرهه لها بطريقة أخرى وهو يخاطبها قائلا أذا بصقت علي فلا بد أن تتوقعي مني أن أمسحها بك ، وانجذابهما هذا قائم على مصلحة الطرفين ،ويتضح هذا أكثر بالكذب عليها زاعما السعي إلى لقاء حتفه أثناء استلقائه في سرير البصل، وبالمقابل عدم احتمالها الفضيحة لأنها أسقطتها، وأساسا فهي تكره الرجال واقسمت ألا تصبح عبدة لأي رجل.
كما أن جملة "كيف يمكنك ان تكون قاسيا الى هذا الحد" التي تأتي على لسان جوليا وان جاءت متأخرة بعض الشي ء،فأنها من جهة تشي الى الدكتاتورية التي يتحلى بها جان ومن جهة أخرى تشي بتركها الى مصيرها المجهول مع والدها الأكثر دكتاتورية .
تشبه علاقة والدة جوليا بزوجها بعلاقة زوجة الابن بصديقها في مسرحية "اللعب بالنار" لنفس المؤلف في كونها عشيقة صديق زوجها ، وبمسرحية "الاشباح" لأبسن من حيث عدم تأمين الدار التي شبت فيها النار، وفي مسرحية "البجعة" في تبذير الزوجة اموال زوجها انتقاما منه لنفس المؤلف ايضا.
ولأن الفعل المسرحي لذبح العصفور لم يفض لا الى نتيجة ولا الى نهاية المسرحية فإن وجوده داخل الحدث بدا مفتعلا وآتيا من خارج الحدث لأن هذا الفعل لم يغير او يقدم الحدث اللهم بعض ما اصاب جوليا من استياء.
ولربما أراد المؤلف عن طريق هذا الفعل ان يشبه حالة اليأس التي تمر بها بحالة بطلة تشيكوف في مسرحيته "طائر البحر"، جوليا من خلال المخلوق الحي الذي يحبها وهو العصفور، ونينا عبر تشبيه "عشقها للمسرح بعشق نورس للبحيرة اشارة الى ربط حياتها بحياته"، ولكن شتان بين مسوغات المسرحيتين ،فإذا كان هذا الفعل في طائر البحر يأتي في البداية ليوظف بما يبرره في النهاية فأنه في الآنسة جوليا جاء فقط وهو ايضا مسوغ ضعيف من اجل ان يظهر المؤلف توق جوليا إلى التحرر كتوق عصفورها المحبوس في قفص.