ادب وفن

قراءة في قصيدة "شفتك مرة" لغازي خلف التميمي / عيسى مسلم جاسم

في دراستنا المتقدمة للمعاهد التربوية، ومن على مقاعد الدراسة، خبرنا اصول الصنعة "التعليمية" وفي الجانب الاكاديمي، ووفق الدراسات الميدانية تغيرت امور كثيرة، فاندرست طرائق دراسة الجزء اولاً، ثم المقطع ثم الكلمة، فالجملة، وقد عفا عليها الزمن، ووفق الحداثة والعصرنة في مجال التعيلم والحياة والمنطق معاً النظر للكل اولاً ثم التفاصيل.

عذراً، وصبراً عليّ عزيزي المتلقي، فاني لا أروم كتابة بحثاً تربوياً بسبب اني اكتب لصفحة "أدب شعبي" لا "تربية وتعليم" لكن وحسب الموروث الشعبي "الكفر في محله عبادة".
بيت القصيد قصيدة موسومة "شفتك مرة للشاعر- غازي خلف التميمي" المنشورة في الصفحة السابعة "ادب شعبي" ليوم الخميس 13 حزيران/ 2013 وبالعدد 202 لجريدتنا الأثيرة طريق الشعب.
فالرؤية الأولى تكون رؤية استطلاعية فاحصة ودقيقة وشاملة، وأحياناً قد يصل الناظر الى قناعة تغنيه عن الدخول في التفاصيل، لان هذه القناعة قد تسامت وارتقت الى مرتبة عالية وهي "اليقين" ومن النظرة الاولى صدر قرار العقل والضمير والنفس قراراً جماعياً بـ"التزكية" وبالموافقة وبدرجة "شرف" لان هذا القرار جاء بحكم المنطق والبديهة، والأمر ليس انفعالياً او عاطفياً ابداً بل هو ساطع دافئ كشمس آذار العزيزة.
القصيدة الشعبية تتألف من "واحد وثلاثين سطراً" متباينة الايقاعات مختلفة التفعيلات، وهي قصيدة كتبت للالقاء على المنابر وهذه مواصفات أغلب الشعر الشعبي، ومع حداثتها، لكن مواصفاتها المشار اليها منحتها "جواز سفر" لأذن وبصيرة المتلقي لتنوع النقلات الموسيقية، وابتعادها عن الرتابة والتقليدية. ومع تكرر حرف "الهاء" المدورة والمربوطة لثماني عشرة مرة. مع ذلك يجعلها ذلك في "منأى" عن شعر "التفعيلة" لان ذلك جاء منساباً بشكل هادئ كقطرات ندى من ارتفاع شاهق.
اما الحديث عن مفردة "مره" وقد جاءت لـ"اثنتي عشرة" مرة وذلك للاصرار والتوكيد، وكأنه يستخدم "المونولوج" الداخلي ويحدث نفسه عن سر هذا التواصل وهذا العمق على الرغم من ضيق الفسحة الزمنية للرؤية.
"شفتك مر... شفتك مرة" تكررت هذه العبارة لمرتين الأولى في السطر العاشر، والثانية في السطر الأخير، ولكن تأمل عزيزي المتلقي أن الشاعر لم يكمل الكلمة بل جاء "مر" ثم نقاط "اربع" والأمر يعني التوكيد والتواصل حتى ينقطع النفس!
النقاط وعددها ليس عشوائياً الأجدر بالشاعر أن يقنن بالنقاط ولا يبذرها فلا جدوى من "الأربع" بل الافضل "ثلاث" فقط، وهي ليس رغبة كاتب السطور المتواضعة بل هذا رأي المنطق الرياضي، وهذا يعني التواصل السرمدي "اللانهاية" معنى كم تغلغلت جذور الحب ومنذ الرؤية الاولى، وللقناعة اكثر، نرجع الى الشاهد الذي لا يدحض نجد ان الرقم "سبعة او سبعين" يتكرر في الذكر الحكيم وبدلالة "الكثرة".
القصيدة "غزلية خريجة المدرسة الرومانسية" وهذا المعنى الظاهر الذي يراه من هبّ ودب، ولكن تبقى هذه المفاهيم وطيدة الصلة بالترميز و"الفنتازيا" وهي حالة ليست بجديدة في الأدب المحلي والعالمي، لذا نجد الحكايا المختلفة تارة عن لسان الحيوانات مثلاً أو تغير "جنس الحبيب" ولنا في "كليلة ودمنه/ لابن المقفع" أو "حكايات جهينة/ لجليل العطية" وحين يتعمق المتلقي ويسبر أغوار القصيدة يجد المدرسة الواقعية فاتحة ابوابها وفي جناحيها النقدي والاشتراكي "ليل وشايل كوم غيوم/ شفتك وعيونك ذبلانه" الاقتباس من النص.
لغة القصيدة جاء بانسيابية هادئة وهي وسيلة من الناحيتين اللغوية والنحوية وهي حالة فريدة قلما نجدها في الشعر الشعبي الذي تمادى وبدون مسوغ في شطبه لقواعد اللغة، التي لم تبح للشعر الشعبي التفاعل و"الفلتان".
السطر الأول من القصيدة "شفتك مرة" والعبارة الأخيرة من القصيدة ايضاً "شفتك مرة" هذه حالة على الارض وقد توقفت عندها الشاعر الناقدة الراحلة الدكتورة- نازك الملائكة- في كتابها النقدي المعروف "قضايا الشعر المعاصر"فتصف الحالة ان الشاعر يتواصل عنده النتاج، ويعجز عن الوقوف كحصان جامح لذا يلجأ الى اعادة "المستهل" لختم قصيدته به، وهذا المأزق كما تقول الدكتورة وقع به شعراء كبار أقرانها؛ كالسياب، والحيدري وقباني والشاعرة هي كذلك، وتطلق على هذه الحالة مفردة "التدقيق" وهي سرعة القريحة، وسهولة التواصل، وهذا واضح على القصيدة، والشاعر يشاطرني الرأي- لذا جاءة "سلسة" تلقائية.
- شفتك مرة/ بين الحلم واليقظة/ شفتك مره- النص، وفي بداية القصيدة، نعم هي واحدة، وهي حالة توثق شحة تحقيق الأمنيات، وان الزمن الذي لا يجود الا بالقليل، لانه اداة طيعة بيد السلاطين الطغاة، لذا فالحالة توثق حالة الحرمان وتأجيل الاحلام المتواضعة اصلاً وينسحب الأمر على المعنى الظاهر وهي حالة الحرمان بين الأحبة وهي حالة كرستها الأنظمة الاستبداية وغرستها في المفاهيم الاجتماعية وحيى الروحية، أضف لذلك نجد مفردة "بين الحلم واليقظة" وهذه الرؤية "اليتيمة" هي مصدر شك هل هي حقاً حصلت ام لأن المرء يتمناها ان تحصل ولأنها عصية على التحقيق في اليقظة لذا يكون العزاء ان تأتي في الأحلام، وهو مؤشر كما اشرنا الى جسامة الاضطهاد وان مرحلة الصراع تبث سمومها على المشاعر الانسانية برمتها، وبالمناسبة فان قواميس الضحايا خالية من الأحلام؛ لأن الحلم يعني تحقيق شيء جميل وددت حصوله، وهذه حالة هي رديفة من تتحقق "بعض" احلامه.
لذا نقول لشاعرنا- يبدو انك تنظر بمنظار "وردي" اما الحقيقة فقواميس حياة عامة الشعب وطيلة عقود وعقود هي "الكوابيس بدل الاحلام" فطالما تفرّ مرعوباً وانت تجد نفسك على حبل المشنقة او في قاعات التعذيب في الأجهزة الحزبية والأمنية وحتى العسكرية وحين تستيقظ تجد نفسك سالماً غانماً، وريقك قد تيبس تحتسي قدح ماء مكرراً الحمد عدة مرات. هذا واقع الحال.
- وصارت دمعاتي البجفوني مثل الجمرة/ ومرت ايام العشناها حلوة ومرة- النص، وهي دريئة لكاتب هذه السطور من اللوم او الاتهام بالضبابية او حتى السوداوية هي ايام الشاعر وهو العينة العشوائية من شعبه ولسان حال معاناته وآلمه. نعم تتكرر في النص مفردات: الدمعات، الجمر، المرارة، وهي "فلاش باك" وثائقية ولم تكن من صفحات الماضي بل ارث من الاجداد فالآباء، والحمل القليل على الأبناء وأحدهم الشاعر "نفسه" هنا نجد مفردة "حلوة" جاءت "يتيمة" بين عشرات "المرارات" ومع الحلاوة فهي متواضعة وعلى وجل، وهذا واقع الحال ولم يزل.
وتأتي مفردة "لمواساة النفس واجتزاء لقطة في غفلة من الزمن العتيق نجد ومرت ايام العشناها/ وصارت ذكرى/ لحظة بلحظة- النص، الذي هو الآخر يعيش على قطرة "حلوة" وسط بحار من المرارة، ولذا فهي محطة مشرقة من الذكريات هذا يعني تواضع الاحلام وبساطة الطموحات، لا رضاءً بالقيود والمرارات، ولكن لشحة المقادير وظلامة الأيام، وسبق ان اشرنا انها قصيدة رومانسية، لكنها تقطر دموعاً وتنز الماً، لذا نجد حتى الغناء الوجداني مرايا للقهر والحرمان هي واقع الحال.
"شفتك مرة" وكم هي فاعلة هذه الرؤية الفريدة والمباركة، هي الاولى والخاتمة والقناعة الثابتة لنرى مدى حجم هذه "الرؤية" هي بلا شك فجر أبلج بعد ليل طويل كالح اهوج.
- ونسيت الراح من سنيني/ بشهكه وغصه وشوك وحسره/ شفتك مره... شفتك مره- النص. يستخدم الشاعر هذه الرؤية بلسماً شافياً من الكم الهائل من السنين المليئة بالـ"الشهكة والغصة والشوك والحسرة".
لنتوقف عند هذا "الهلال" الذي يفعل فعله ويشطب على المرارات، نعم لابد ان يكون اكبر من انسان "دم ولحم" ومن هذا الانسان الذي يطلي الايام بالدهان الوردي الشفاف، لابد أن يكون ذلك فكراً نيراً وسلاحاً ماضياً من يمتلكه بيده مقومات النجاح وسيمسك بالورد لكل الأحبة، بل والسيف البتار بوجه الطغاة الأشرار.
- شفتك لكن غيمة صيف/ بلحظه وعدت/ شفتك لكن حيره وخوف/ وكوم سنين ابوجهك خطت/ والضحكه الچانت عشفافك/ وردة غبشه شصار وذبلت النص، الذي يوثق صورة الفجر الذي بزغ، واستخدم الشاعر الصورة البلاغية الرمزية "غيمة صيف" اذاً حتى وان ابتسم الدهر يوماً فلا زالت الذئاب تمرح وتتحين الفرص للانقضاض من اضعف الحلقات حين يكون السياج به ثلمة نعم يقترب الشاعر اكثر عند مدرسة "الواقعية" وهي التي لا تفارق نتاجاتنا بما في ذلك العاطفية.
- وبين الحاير/ وبين مكابر/ اصرخ مره/ واصفن مره/ شفتك مره/ شفتك مره- النص وادلهمت الخطوب من جديد والمشاعر المتضاربة هل الصراخ هو رد الفعل، ام الكبرياء والمكابرة، وعدم اقرار الهزيمة، ام الصفنة والتفكير برد الفعل، واستلهم من "شوفتك" رد الفعل الثوري الفاعل والناجز وهو ليس نتاج فرد بل وصفة عملت ونجحت بها أجيال.
- آه شكد امحمله هموم/ يا دنيه العشناها بغربه/ ويا ليل الما ضايك نوم- النص، وهو يجتز الهموم والغربة لمن في البلد او خارجه على السواء مرحلة خطيرة جداً ورمز واضح حتى ان ليلنا "الانسان" لم يشبع نوم!؟
وصادف مره/ وطلعت كمره/ وشفتك مره.. وشفتك مره- النص، حسناً وتطل علينا "الكمرة" من جديد بفعل "الهلال" الموعود؟!