ادب وفن

المرآة والصحراء : البحث في انعكاسات أحمد الباقري / جاسم عاصي

إطلالــــــة
في خمسينيات القرن المنصرم كان أبي يصطحبني معه إلى مقهى الحاج كاظم مقابل بناية الإدارة المحلية التابعة إلى محافظة الناصرية . كنت أرى شابّا ً في مقتبل العمر ، يسير إلى جانب رجل أشيّب ذي شعر مسترسل وبشرة صفراء ، يبدو عليه التعب والانهاك، كان الشاب في كل مرة يحمل حزمة من الكُتب يرصها على خاصرته أو يقرّبها من أضلاع صدره ، بينما يحمل الرجل حقيبة قديمة بالية .
رأيته مرة يحمل في يده الأخرى لوحة تحتوي رسما ً جميلا ً ، كما بدا لي حينها ، فانشددت إلى الاثنين بالفِطرة . وحين سرى الزمن بعجلته ، عرفت أن الرجل الأشيّب هو الشاعر (قيس لفتة مراد) والشاب الذي بصحبته دائما ً هو الأديب (أحمد الباقري) ومنذ يوم معرفتي به عن كثب ، لم تدركني منه سوى دروس البساطة والتواضع ، لأنه مازال يتعامل بالفِطرة الأصيلة مع أقرانه مهما اختلفت الأجيال التي ينتمون إليها . فهو المكتبة الدائمة التي تستقبل زوارها ومريديها فتهبهم مراجعها ، والمقهى الذي يستقبل رواده بابتسامة عريضة ، وهو أيضا ً الأب الحنون على أبنائه ، يُلهمهم الدرس في البساطة والتواضع والعمق المعرفي ونكران الذات حين تستلزم المواقف .
في كتابة المعنون ( انعكاسات على مرآة في صحراء الروح ) تجتمع أكثر من دالّة على حشد الصور في حياة الباقري . ولعل المرآة دالّة أكثر بلاغة في إظهار الصور ، لأنها بلا حدود ممكنة . فكلما حدّق في صفحتها ، ظهرت له صوّر جديدة . حتى الصورة الشخصية الحاوية للملامح ، لا يمكن تطابقها مع التي قبلها ، لأنها نتاج استعدادات نفسية ووجدانية مختلفة . من هذا نرى أن الانعكاسات التي أتت عليها مرآة الباقري قد تعددت صوّرها من جهة ، وتفاوتت تأثيراتها من جهة أخرى . ولأنها أساسا ً ارتبطت بما استكمله العنوان في مفردتي ــ صحراء ــ وــ روح ــ اللتين كانتا غير معرفتين في الأولى ومعرفتين في الثانية ، مما جعل الأولى توصيفاً للثانية . فالروح هنا امتداد لا حدود له ، وحامل لتاريخ طويل . فهي ــ مرآة صحراء الروح ــ والصحراء هنا لا تدل على الجدب والخلاء والتبدل فحسب ، بل أنها هنا خزين لتاريخ عاش تفاصيله الكاتب . وما توصيف ما ورد في متن الكتاب ، سوى تداخل في المعاني التي أتى بها العنوان مع كل ما ورد في تقسيماته التي سوف نتناولها بالدراسة .
مرآة القص /
كتب الباقري القصة ، مواكبة لكتابة الشعر والترجمة . وكانت له مشاركة في كتاب حرره كل من القاصّين ( محسن الخفاجي وعبد الجبار العبودي عام 1974) بأربع قصص تحت عنوان مشترك ( سماء مفتوحة إلى الأبد ) وقد تميّزت قصصه بالتلقائية سواء كان هذا في تناول الشخصيات أو في لغة السرد والوصف ، ثم البساطة في التركيب ــ الشكل ــ فبقدر ما كانت شخصياته متواضعة في مواقعها الطبقية والفئوية ، فقد كان أسلوب تناولها موازياً لمثل هذا البناء . ويبدو أن الكاتب وهو يمارس كتابة القصة ، تشغله المعاني التي تنتجها الظواهر اليومية ، وتلك التي تؤثر على أمزجة النماذج وتشغلها . لأنها الأساس في حياتها التي لا تتطلب امتيازا ً ماديا ً ، أو رفاها ً ملفتا ً واستثنائياً ، بقدر ما يشغلها توفر أجواء السكينة والدعة والألفة . فهي وكما تبدو في قصصه فاقدة لمثل هذه المقومات البسيطة . وبهذا أستطاع أن يُخفي بهذا القدر أو ذاك روح السخرية والتهكم من القوى المتسلطة ، والتي تلعب دورا ً كبيرا ً في مصادرة الوجه الطبيعي لحياة هؤلاء . إن نَفَسهُ السياسي يختفي ، أو قل يتوارى خلف جمع الظواهر السلبية التي تقهر نموذجه ، معطلة إرادته . ومن هذا أيضا ً نرى أن المفارقة التي يُحدثها سرده ، هي حالة ذات بُعد واسع بالرغم من ظهورها كحِراك إنتاجي إبداعي قريبة من ظاهر الشخصية وليس باطنها . في هذا يرى المنتج أن هذه النماذج لا يأخذ بزمام أمورها التعقيد ، فهو يقترب ــ كما ذكرنا ــ من بساطة حياتها ، وتواضع طموحاتها .
إن جُلَّ ما يشغلها تيسّر مصاريف العلاج مثلا ً ، كما في قصة ( متى تهبط الملائكة في مدينتنا ؟ ) لذا نرى الكاتب جُهدَ الإمكان يُدخل الشخصية في إشكالات هي أقرب إلى الفانتازيا منها إلى الواقعية . صحيح إن العوّز صفة واقعية ، لكن ما خلقه النص لنموذجه فيه شيء من الفانتازيا المبالغة ، التي تهدف إلى التهكم بالعلاقات القائمة في وجود هؤلاء . فمعظم الصُدف التي واجهها الأب للبحث عن المبلغ الذي يُعالج به مرض ولده فيه شيء من الخيال الممزوج بالسخرية . بينما نجده في قصة ( صخب في البيت ) يحمّل النص طاقة جديدة من الصورة الممزوجة بالتراجيديا التي تخلفها ظاهرة اغتصاب الزوجة ، وبين نقد الواقع الذي غابت عنه قوة القانون . هذه الحالة لم تخل من الهدف السياسي الذي هو الضامن لكل ما يؤسس لعلاقات اجتماعية متينة . إن الباقري شأنه شأن الكتّاب ذوي الميول النقدية في تاريخ الأدب الإنساني من مثل ( تشيخوف موبسان غوركي وغوغول ) هؤلاء الذين واجهوا الانحرافات الاجتماعية بقدرة الكشف والنقد . وأقرب مثل على هذا هي قصة ( المعطف ) لغوغول ، التي لم تكن سوى قطعة أدبية نقدية ،امتزج فيها الواقع بالخيال . أو ما نطلق عليه أحيانا ً بالكوميديا السوداء . والباقري له مثل هذه المبادرات من خلال قصصه ، فهو لا يهوّل الحدث ، ولا يُشبعه خيالا ً صرفا ً ، بل يأخذ من هذا بقدر ما يأخذ من ذاك ، بحيث ينتج لنا قطعة متوازنة . فهو يتعامل مع الموقف الصعب بقدر ما يعالج حالة الجريمة ، الأمر الذي يبلور لديه حالة من الكشف والنقد اللاذع . أي الموقف من مجريات الوجود . ففي قصة ( قليل من الموسيقى .. كثير من الإزعاج ) يُحدث مفارقة بين الذوق الرفيع المتمثل بالموسيقى ، والموقف الوضيع الذي يتوفر عليه الآخرون الرافض لها . هذه الظاهرة ، ظاهرة الرفض ، تعمل على كشف البنية الداخلية للمجتمع الذي لا يترفع عن الكثير من السوءات الاجتماعية المتفشية ، ويثيره سلبا ً الفن ، لأنه تربى على رؤية خاطئة ومنحرفة ، ونقصد بها التشبع بثقافة القسوة والخشونة في الطباع . وهو نتاج سياسي يُغيّب الذوق السليم ويُشيع الخبل الاجتماعي الرافض لكل ما هو مربي للنفس كالثقافة بمكوناتها المختلفة . ولعل الموسيقى واحدة من أسس هذه الثقافة . فالباقري لم يقل كل هذا ، لكنه أثار الغبار المتراكم عن المنسي أو المسكوت عنه في المنظومة الاجتماعية . أرى أن هذه القصة من النوع التنبؤي ، بسبب رؤية الكاتب المستقبلية . ذلك لأن النص هو مزيج من كل الرؤى الممكنة والمساعدة على تنمية القدرة على الاحتمال والتنبؤ انطلاقات من الوحدات المعرفية التي تُشكّل وعي الكاتب العابر للأزمنة . وهذا ما فعله الباقري وهو يعالج إشكالية وجود الشاب الذي يعشق سماع الموسيقى ، بحيث شكّل هذا مفارقة مع الذي يرفضها . ولم يبتعد كثيرا ً في قصة ( ذكريات مخبأة تحت أحلام مؤجلة ) في كشفها لحياة ( حسن ) الغارقة في وهم سلطة رب العمل . هذه السلطة التي زحفت نحو حياته العائلية . وكان صديقه ( فاضل ) خير من يوقظه من هذه الغفوة بصحوة الواقع . فقد كان النص معالجا ً لجملة علاقات معقدة في حياة ( حسن ) استطاع ترتيبها من خلال تشكّل رؤيته الجديدة بسبب المؤثر الأخلاقي ( فاضل ) .
أرى أن قصة ( الهدايا الخضراء الغامضة ) واحدة من القصص المؤثرة ، لما وفره لها الكاتب من مقومات أخلاقية صاعدة إلى مستوى الرومانسية ذات الحس الأكثر إنسانية بين حياة فتاة وصبية تعاني من إشكاليات الوجود الأسري والاجتماعي ، وبين شاب يحمل ذخيرة معرفية ووعياً مبكراً ، تندرج مفاهيمه برموز الوجود الأزلية المانحة لأسس الحياة كالنهر . لذا يكون هذا الكائن المتجدد هو الفيصل الذي يتخذه النموذج لوضع حياة الفتاة ضمن الطريق الإيجابي . ولعله فَعَلَ المناسب من المؤثرات القريبة من وعي الجميع . وتكون الجملة الأخيرة في القصة ، هي المعبر الأخير إلى الضفة الأخرى : ( مضى يخطو متمهلا ً في الشارع . اخترقت الغيمة السماء وأصبحت زرقاء ورمادية . هبَّ هواء خريفي رطب من ضفة النهر ، لامس وجهها فارتعشت قليلا ً وداخلها حزن شفاف ، فاحتضنت أختها الصغيرة بحرارة تُحدّ ق في النهر . )
في القصص القصيرة جدا ً الأربع ، استطاع الباقري أن يضعنا بقوة أمام هذا الجنس من السرد بما توفر عليه من أسسه الممكنة ، ومنها : الاختزال والتكثيف وبناء الشخصية والمفارقة بين الأقطاب التي توفرت عليها النصوص ، وهي تتركز في المركز السلطوي المختلفة مصادره . بمعنى أن النماذج تواجه صراعا ً دائرا ً . وهو في معظمه له أسباب أخلاقية أنتجتها العلاقات الاجتماعية واختلاف الرؤى . ولعل الضربة القصصية كانت أهم ما يرمي إليه القاص . وهي في معظمها دالّة على موقف أخلاقي بحت .