ادب وفن

«خذها لا أُريدها».. صوت الأم الأخاذ / مقداد مسعود

"الغسول" هو الفصل الأول في رواية "خُذها لا أريدها" للروائية ليلى العثمان وله وظيفة أخرى. حين أتمعن في هذا الفصل أرى: خلية سردية موقوتة ستتشظى، وهي خلية تتجاور مع المقدمة كهدب من أهداب النص. وفصل "الغسول" ينهض في فضاء مغلق وسقف بسبب مستلزمات تأشيرة الآخرة، أشد انخفاضا: كافور – طاسة السدر- صابونة الرقي – ليفة – مشط خشبي – قطن – كفن – تابوت.. وهكذا سيوصل المغلق إلى الأشد إغلاقا. حيث الفراغ الأبيض الأشد قساوة. والغسول هو القوس الإسلامي في الرواية، أما القوس الثاني في الرواية فهو "زفاف ماري" وتركيز السرد على تأشيرة الآخرة المسيحية: شمعدانات كبيرة – صليب ضخم – شموع صغيرة – بخور، وسط كل هذه الأشياء: سرير ماري، بدلة زفافها، مكياج لوجه الميت، وبشهادة الزوج المفجوع يوسف "نحن المسيحيين نزيّن موتانا، نزفهم كما نزف عرائسنا..". وهناك ميتات أخرى سيؤكد السرد على الفراغات التي ينتجها الموت: موت الأب/ موت زوج الساردة المشاركة في الحدث / موت زوج "بدرة" أم الساردة / موت مسعودة..
**
فضاء الرواية يتوزع بين ثلاث دول: الكويت، عمان، بغداد.. لا يرد اسم الكويت في الرواية، والقارئ الذي لا يعرف كويتية الروائية ليلى العثمان لا يشخص ذلك، حتى المفردة العامية لا تحيل إلاّ لدولة الخليج العربية قاطبة، وعمان لا تشخص بمعالم معينة كذلك، وبغداد لا تتضوع عطورتها، بل تذكر كمفردة تحيل إلى وطن أبويها: المهندس عباس الشويحي، جاء من بغداد واستقّر في الكويت وأمها بثينة الجوهري. وسفريات بدرة المتكررة إلى بغداد ستؤدي. والزمان في الرواية لا روزنامة له، ليس لدينا سوى مؤشر واحد للزمان، أبو زويد العربنجي، الذي يشتري سيارة بيك / والساردة المشاركة قارئة كتب، لكن لا تخبرنا عن قراءتها، وستخبرنا عن قصصها بعد ذلك !! كأننا أمام رواية تغترف من السيرة الذاتية للمؤلفة، أقول تغترف، لأن "خذها لا أريدها" ليست سيرة ذاتية، لكنها تتضمن صفحات منها.. من خلال إصرار الأب، على عدم ضرورة أن تكمل ابنته تعليمها، يجعلنا النص الروائي في خمسينات القرن الماضي ..
*
الآصرة بين الأم الميتة والابنة العائشة: توجزها الوحدة السردية الأولى في السطر الأول من الصفحة الأولى.. "وصلت ُ متأخّرة. أمي الحبيبة مسجّاة أمامي على اللّوح الخشبيّ بعد أن ثابت روحها إلى السكينة".. وبين توصيف ٍ وسرد تسألها نفسها الساردة المشاركة في الحدث الروائي.." من يصدّق حزني"؟
*
المحذوف من النص: لماذا الابنة وصلت متأخرة؟! ما الذي جعلها تتأخر..؟ وحين تتساءل الابنة "من يصدّق حزني"؟ أتساءل كقارئ: من يكذ ّب حزنها؟ هل الجارات..؟ وبشهادة الابنة "عرفنها أكثر منّي، تواصلن معها، أحببنها الحب الذي عاش حتى إغفاءتها الأخيرة حزنهن عليها واضح وصادق. وأنا...." والمحذوف الثاني: هو تغيب معرفة الابنة بالأم أثناء حياتها.. والتغيب لدى الابنة إنها كانت بين قوسي ّ.. "حب تصوّرته انطفأ، وندم يفصح عقوقي الذي دفعني إليه عناد أجوف.." ولبنى تحمل جرثومةً إجتماعية وراثية، انتقلت إليها من جدها لأبيها حين عصى والده وتزوج بدرة البغدادية، وبشهادة والد لبنى.. "فأبي الذي كسرت كلمته ظل غاضبا عليّ وبابه مغلق في وجهي.." فحرمه من زيارته، ومن الحضور في عرس أخته سارة "وظل غاضبّا متبرئا منيّ لحظة موته. كنت أقف ذليلاً وأنا أتلقى العزاء، فكل العيون كانت تلومني، وأمي حين عانقتها ناحت وصوتها يُدينني، ، أبوك مات بحسرته" وسيكون الموقف نفسه بالنسبة للأبنة لبنى وهي في المغتسل.."أصوات المعزّيات المبقّشات بالسواد تكرر التعازي، تلك بحنان، أخرى باللوم، وثالثة تتأسف: ماتت بالحسرة، وكأن أصابع اتّهامها تقصدني – بل هي تقصدني".
*
يُحدث الموت، تراسلاً مرآويا نسويا.. بين الأم/ الابنة.. "ماذا لو كنت أنا الميتة وأمّي ترفل بثوب العافية؟ هل ستبصق على وجهي وتهيل عليّ تراب لومها لتزجّني دعواتها الغاضبة في جهنّم وبئس المصير!؟ أم تراه قلب الرحوم يحنو ويزفّني إلى الديّان ليتكفّلني بما أستحقّ"؟!
*
تحدث نقلة جهوية، بانتقال السرد من الجواني، إلى البراني، بتوقيت المرأة غاسلة الميتات، المتسمة بسلوك مهني حيادي..
وحين تبدأ بتغسيل الميتة سترصد الساردة/ الابنة
سنلاحظ ان حرفية تغسيل الموتى، لا تتخاطب مع الأحياء، لم تسلّم على النسوة وهي تدخل المغتسل، بل استعاضت عنه بالبسملة والحوقلة والشهادتين، وتتخاطب بعينيها، مع مستلزمات تأشيرة الآخرة.
*
خُذها لا أريدها، نلتقطها في أثناء شجار بين الزوجين.. "صوتها الجاف ّ من أمومتها وصرختها المُجلة في وجه أبي تطاردني" نلاحظ أن الطفلة سمعت ما يعنيها هي فقط، وبقيت الطفلة لبنى طفلة في تعاملها مع هذا المشهد، بل أسقطت نفسها في بئر طفولة خاص مع تلك الصرخة من أمها. .فتلبسها زمنها النفسي – زمن الصرخة – وبشهادة لبنى نفسها.. "ظللت ِ يا لبنى تفُسحين للستائر السوداء مساحات شاسعة في ذاكرتك. كنت بإصرار تُرسخين المشهد الذي شرخ طفولتك ليبقى وقودا يُشعل حقدك عليها فتتشفيّن بالانتقام منها غير آبهة ٍ بعاطفتها. لم تحاولي حين كبرت، أن تستفسري منها عن أسباب ذلك العراك الدائم بينها وبين أبيك". وستتكرر هذه الإحالة مرة أخرى.. "وجه أمّك ِ المفرفر بداخلك كعصفور يقتنص فرصة الهدنة، يحدُق فيك ِ بتوسل لتتذكري وتسطعي بمشاهد من حنانها، لكنّك بعناد تصدّين لتوسلها وتسدلين الغلائل كي لا يُبعث أمامك ِ الشيء الجميل الذي يحقق لها العدالة".
هنا سيكون موقف الابنة مرتهن بمؤثرية الصوت :"كان صوت أمك ِ هو الأحد والأقوى ما دفعك ِ أن تتحيزي لأبيك ِ، وهكذا رسمت ِ لها صورة الظالم ولأبيك صورة المظلوم". من هنا ترى قراءتي للرواية أن نبرة الصوت يمكن اعتبارها شخصية رئيسة في الرواية، من خلال فهرسة الإحالات التي تحتويها هذه الجملة الفعلية الصلدة مرتين: فعل أمر "خُذها"، يعقبها "لا" النافية، في حين لا يذكر جواب الأب، إلاّ مرة واحدة.
*
نلاحظ أن إخبار الأب، جاء بنبرة قلقة "همس َ بصوت غير مرتاح لكن الهمس وصلك ِ دوّيا كالرعد "أمك طلبت أن تشوفك ِ".. سنلاحظ تأثير ذلك على صوت البنت.. "بحثت ِ عن لسانك الذي تشمع في سقف حلقك ِ، وما إن اصطدته حتى انطلق شاهقا وداميا "أمي....!؟" فمن باب الموازنة ستكون نبرة الأب متوازية لنبرة البنت "تعمد حدّة في صوته ليشعرك بأن الأمر ليس غريبا "إيه... أمّك. هل نسيت ِ أن لك ِ أمّا"؟ هنا يرّكز السرد على شخصنة الصوت كرابط تفاعلي بين الأب/ الابنة.. "لسانِك التوى حتى الحنجرة وقرفص هناك، سد ّ منافذ الصوت، اختناقك ِ أجحظ عينيك ِ باتجاه وجهه الذي لم يخل من ارتباك أصفر".
* طحنت الكلمة برأسك ِ.عواطفك الباردة لا تدرك معنى الكلمة، أصل الرابطة وعمقها، فلا صورة لحنان أمّك ِ تؤجّج ذاكرتك ِ.كل الصور تغيب إلاّ صورة الفراق الأخير.
الأم يأثم ظنها وتتهم الأب "أبوك – أسود الوجه – سوّد قلبك عليّ بعد أن سوّد َ عيشتي وخرب َ البيت و...." وتجدها البنت فرصة وهي تتذكر تلك الصرخة. فتصرخ الابنة في وجه أمها لا أريدك ثم تتساءل :"هل كنت ُ أنتقم لأبي أم لنفسي لأذيقها مرارة تلك اللحظة القديمة؟
*
نلاحظ من فهرستنا للجملة الفعلية النافية، ان كل تكرار يضيف مساحة سردية ويعمق المعنى، ويكشف عن وحدة وصراع الاضداد في ذات الابنة، وان هذه الجملة الفعلية هي نول ونسيج الرواية.. والسؤال الممكن طرحه، هل سبب الخلاف بين الزوجين : عبد الوهاب وبدرة، هو الاختلاف البيئي في زمن احداث الرواية بين بغداد والكويت، وحسب قول بدرة "وعيشتي بها لبيت اللي ما يدق بابه أحد. أهلك ما يحبّوني".
*
واللا مفكر فيه بالنسبة للبنى هو ما سمعته من صوت الأب لحظتها والتي تنقله هي لنا كساردة مشاركة.. "وأبي يهدّدها أن يأخذني منها..". يبدو أن المحذوف في النص يبقى محذوفا متواريا في النص! محض سؤال من نسيج "عطيل" شكسبير
"بدأت الوساوس تنخر بعقلي، هل تذوقت في أسفارها فاكهة غير فاكهتي؟ كنت ُ بكل حبي لها أصد تلك الهجومات كي لا أظلمها وأعذب نفسي".
يمكن أن نعثر عليه في موقف الأب من عدم الزواج بعد الطلاق.. بقوله لابنته حين تريده أن يتزوج كما تزوجت أمها.. "هل تدرين ما معنى أن تتزوج أمك ويتزوج أبوك"؟
*
المساحة السردية مكرّسة لشخصية لبنى، وكل الشخصيات الأخرى في الرواية تستضيء منها فهي الشخصية المحورية.. ومحور الشخصية المحورية: هو صوت الأم وهي تقذف جملتها بوجهه، فلا تصيبه بل ستصيب الجملة ابنتها الوحيدة لبنى.