ادب وفن

«أقول أنا وأعني أنت».. ومحاكمات القراءة / حميد حسن جعفر

ما الذي يريد الشاعر من القارئ؟ وأي نوع/ صنف من القراء، وأي طبقة قراءاتية من الممكن أن تقنع الشاعر بأن الرسالة من الممكن أن تصل؟ كل هذه المفاصل/ الكائنات وعبر عدد لا يحصى من القراءات التي يجب أن تكون مختلفة، فما من قراءتين متماثلتين مهما اقترب القارئان/ القراء من بعضهما/ من بعضهم، فتعدد مستويات القراءة أمر واجب الحصول.
"أقول أنا وأعني أنت"، هذا الكتاب الشعري الذي يؤكد على قصيدة النثر التي يكتبها معظم الشعراء، ولمعظم ما يسمى بـ "الأجيال الشعرية" -بعد أن تحول النص النثري إلى دعوة إلى الاختلاف في الكتابة، حيث يشكل الاختلاف و المغايرة أهم معالم الكتابة المنتمية إلى خصيصة اللا تشابه، حيث يجد القارئ نفسه وسط كم هائل من المغايرة.
قصيدة النثر كائن شعري ينتمي إلى الشعر بقدر انتمائها إلى النثر، بل يبدو أن النثر الذي راح يتسيد الموقف بات يحتل الكثير من المساحات التي تنتمي إلى ما سبق القصيدة الكلاسيكية/ النص الموزون المقفى، ويحتل الكثير من المساحات التي تحتلها قصيدة التفعيلة.،

انفتاح هذا النص "قصيدة النثر ومنتجاتها"، لم يجد أمامه سكة قطار، ولن يمنح الشاعر قارئه خارطة أو بوصلة ولا أنظمة تعتمد التوقع، أو الاتفاق، إضافة إلى أن هذا النص لا يشكل متاهة كما يتهم أو يتقول البعض إذا ما تمكن القارئ من الاستفادة من الخزين المعرفي المنتمي إلى القراءة، لا إلى الاستماع، الذي لم يكن الا ما يرادف المشافهة، حيث لا يكون المتلقي إلا مستقبلا، يتمتع بالسلبية أكثر مما يتمتع بالإيجابية.
قراءة ما يكتبه الشعراء اليوم ومن بينهم الشاعر جبار الكواز تتطلب فعلا أو مجموعة أفعال تتشكل فيما بينها من أجل صناعة حالة كشف لمخبوءات النص التي لا بد له من أن يكون ماكرا، غير معلن عن سبل الوصول إلى ما لا يعلن عنه الشاعر، حيث يتحول القارئ وفي الكثير من الأحيان إلى منتج لنص آخر خاص به، إذا ما استطاع أو تمكن من أن تحاذي قراءته كتابة الشاعر، إذ أن ما يسمى "كيمياء القراءة" - هو فعل مجاور لما يسمى "كيمياء الكتابة" وبقدر ما يقدم النص نفسه بعيدا عن الاتكاء على سيرة الشاعر يتمكن القارئ من إنجاز قراءة قريبة من النص ذاته.
جبار الكواز لم يقدم منجزه، ولم ينجز فعله الشعري خارج المنجز الإبداعي للنص المكتوب، حيث الكثير من الحواريات، التي تنتمي إلى المسرح، وحيث الكثير من الاسترجاعات التي تنتمي إلى السرد الروائي وإلى الكثير من تدمير الخطوط المستقيمة للأزمنة التي توفر فعلا استفزازيا للمتلقي لتخليصه من الرتابة، --سواء كانت تنتمي إلى الموسيقى أو لتسلسل الأحداث، حيث لا مكان لمفاصل كهذه وسط منجز شعري كهذا.
"أقول أنا وأعني أنت" نص يعتمد الكثير من ثنائيات الشاعر و ثنائيات الآخر، انه النص الذي يعتمد قول ما يقف خارج هواجس الشاعر نفسه، وخارج توقعات القارئ، حيث اللا مألوف الذي يتسيد الفعل القراءاتي، إذا على القارئ أن لا يتوقع قراءة بسيطة وسهلة ورتيبة، بل إن المفاجأة -مفاجأة الاستقبال المختلف هي التي تتشكل عبرها القراءة التي تصنع لحظتها، بين يدي الكتابة،
هل على القارئ أن يستقبل نصا صادما للقارئ الكلاسيكي الذي يمتلك عمقا استقباليا تسيده النص الكلاسيكي؟ من الممكن أن يقول أي قارئ كان هذا القول، وقد يرفضه الكثيرون، معتمدين على افكار وتصورات صنعها اللا شعراء، و اللا نقاد، بل صنعها الرواة و الحفاظ. حيث لم يكن الشاعر يشكل سلطة تقف خارج القصيدة "إلا من أوتي علما" وما له في صناعة قوانين وأنظمة الكتابة، على العكس تماما عما عليه الشاعر المعاصر والذي تمكن من الدخول إلى فضاء النقد والتنظير والبحث عن فضاءات/ أشكال ثقافية لا تنتمي إلى الشعر فقط، بل إن الأجناس الأدبية/ الكتابية استطاعت أن تجد لها مكانا وسط النص الشعري، وإذا ما انفردت القصيدة الكلاسيكية، وقصيدة التفعيلة بفعل آخر مثل "المسرح الشعري والقصة الشعرية" أو سواهما، فإن القصيدة المعاصرة "قصيدة النثر أو النص المفتوح" استطاعت أن تذيب حبات الأشكال الإبداعية الأخرى السرد /المسرح /السينما / التشكيل / الدين/ الفلك /السحر / التاريخ الجغرافيا مع الاحتفاظ بالكثير من خصائصها التي تمكن القارئ من الإشارة إليها.
هل يعتقد القارئ أن الشاعر بإمكانه أن يقول كل ما لديه عبر القصيدة/ الجملة، أو القصيدة / الديوان،؟وهل استطاع شعراء العالم أجمع أن يقولوا مقالتهم حول ما يدور في المعمورة في الظاهر منها وفي المستور؟
لا أعتقد أن هذا الاستفهام سيمكن القارئ من الوصول إلى نهاية اللحظة الشعرية! التي حاول من الشاعر قبله التعبير عنها ورسم ملامحها.
الشاعر وعبر ما يقارب مائة وعشرين صفحة وكذلك عبر ثلاثة وخمسين نصا/ وحدة/ قصيدة، يحاول الاقتراب من فعل الشعر، أو الدخول إليه/ حيث الاحتراق الذي لا مفر منه، فالمعرفة لا تتم إلا عبر ممارسة الحياة الفعلية التي تنتمي إلى القصيدة.
القارئ ربما لا يمكن أن يكون مطالبا بالقراءة الكاملة للنصوص الثلاثة والخمسين لكي يضع حول عنقه قلادة الأسئلة، لكي نطالبه بما ترك النص في اعماقه من تصورات و مفاهيم، ومن متع ولذائذ.
والقارئ يشكل الكثير من الاختبارات القراءاتية، تلك القراءات التي يتجاوز عددها عدد الوحدات الشعرية الثلاثة والخمسين، إذا ما أضفنا، نحن القراء بوابة النص /العنوان، مقتربا قراءاتيا، إضافة إلى المنجز الإبداعي المتوفر لأفعال الشاعر الإبداعية، وربما صورة الشاعر في صفحة الغلاف الأول قد تشكل أكثر من عتبة، ومن نص ينتمي إلى نص الصورة، وليس الكلمة، وليتشكل لدينا العدد من مفاتيح ونوافذ القراءة.
هذه التقنية السردية والتي استطاع الشاعر أن يستفيد من قدراتها في صناعة الحراك من خلال ما ينتمي إلى الصراعات الروحية والفكرية أولا وأخيرا، الشاعر لم يلجأ إلى الصراعات التي تعتمد القوة الجسمانية ضمن وضع فكري لا يجيز استخدام القوة من أجل الإلغاء.
تعدد الشخصيات هذا وفر للقارئ من بعد الشاعر أكثر من فرصة لإقامة بنية القصيدة المتعددة المحاور، المتعددة المناخات، حيث طقوس الآخر التي تقترب من "الأنا" لتشكل أكثر من عملية فرز للأفكار والتطلعات.
وإذا ما تعددت الشخصيات تعددت معها الأزمنة، حيث يتمكن الشاعر من صناعة التحولات التي من خلالها لن يكون الإنسان "الشاعر أو سواه" يشكل الكائن الوحيد في النص بل استطاع الشاعر أن يحول الجمادات مفاصل تابعة للكائن البشري، وبالتالي استطاع أنسنة الجماد، ولتتحول القصائد إلى كائن يحاور ويستجيب ويرفض، ولتشكل المدن/ الجغرافيات بين يدي الشاعر إلى فعل يساير ويحاذي الساكن فيها، "الغراب السعيد/ أيتها المدينة/ فالنص يضحك/ والحصاة تبكي/ أنت عود ثقب يفجر نور العمى.. الظلال تجفل/ قال الهواء".
ورغم كل الكائنات الإنسانية و الكائنات الجمادية التي انسنها الشاعر تظل المرأة سيدة القصيدة، يتشبث الشاعر بأردانها من أجل اكتمال النص الشعري الذي يكتبه،
هل بإمكان القارئ أن يفصل أناه عن أنا الشاعر؟ أو أن يصنع حالة توازن أو تعشيق؟ هل تشكل المرأة /كائن الشاعر، الكائن/ المرأة المنتمية إلى القارئ؟
الشعر كائن منتج للأسئلة، للقلق، للتبصر، للاستقراء، للتأمل، للمعرفة، للاختلاف، من غير منتجات كهذه لا يمكن أن تتشكل القصيدة، أو يولد النص الشعري، أو أن يتحول الكائن الذي يحاذي الذي يكتب الشعر إلى شاعر، وإذا ما كان الشعر وفق مواصفات كهذه ، فإن الشاعر كذلك هو المنتج الأكبر للقطاعات و التصادمات.
وإذا ما كان هناك كائن لا يشكل مصدر إزعاج للثوابت والممنوعات فهذا أمر لا ينتمي إلى الكائنات الشعرية، و مهما كانت المواءمة ما بين الشاعر والقصيدة من جهة، و المجتمع المنتج للكثير من الممنوعات، حيث تنمو السلطات القامعة كما الفطر السام، كما الفايروسات، ومهما كان نوع المواءمة يظل الفعل العام للشعراء في موقف التضاد مع كل أشكال القمع و التسلط و الاستبداد،
وليعاين القارئ ما حوله، سوف يجد أن لا بقاء على الأرض إلا للإبداع، وسوف يجد أن لا بقاء ولا ديمومة للزعامات، للسلطات، للسلاطين، للأمراء، للملوك، والحروب والقتل، البقاء فقط للجمال الذي ينتجه الشعر، والحياة التي ينتجها الشعراء.
طرقات الشاعر صحراء لا تحمل جغرافيتها إلا القليل من آثار السالكين لطرقها، والساكنين الذين رحلوا قبيل دخول القارئ فضاء النص، هكذا هي ملامح النص المنتمي إلى قصيدة النثر، قد يعثر القارئ على بعض المتروكات أو بعض ما يترك الشاعر ورائه من بقايا خرائط أو منابع ماء أو آثار مركبة وهمية، قد لا تجدي نفعا الخرائط السابقة، فجغرافيات النص أفعال تنتمي الى المتغيرات، و المتبدلات، تنتمي إلى اللاواقع، حيث يكون الاختلاف الحاصل واقعا غير معني بالثابت.
قد لا تشكل القراءة الأولية مدخلا لفهم أو لمعرفة أو استساغة نص ما، قد لا تشكل دعوة إلى قراءة ثانية، إلا أن الكتابة تظل مهما كان موقف القارئ منها تظل منتجة للجمال والاختلافات، و المغايرة، والبحث لا عن الحلول --قد يتصور البعض من القراء أن المثقف و الشاعر هو "حلال مشاكل" وإن مفاتيح الحياة متوفرة تحت سلطته.
هل على القارئ أن يقرأ سبعة وثلاثين نصا ليجد قدميه تغوصان/ تقودانه إلى حيث النص الثامن والثلاثين، ليحس بجسده طافيا في مياه بوابة هذا النص الذي يعترف الشاعر ويقر من خلال كتابته ليقول:
"لا أحد في هذا النص سواك
أقول أنا وأعني أنت"
فإذا ما كان هذا القول يشكل اعترافا مباشرا، فإن النصوص الأخرى لا تخلو من تلميحات و إشارات لما سوف يكون، ليست من معاني هذا القول أن الشاعر سوف يكون على أكثر ما يمتلك هو، أو ما تمتلك القصيدة من الوضوح.
سوف لن يجد القارئ من الوضوح إلا ما يقوده إلى اللاواقع، إلى الدخول إلى النفق /المتاهة، إذ أن لا وضوح يدل على وضوح، الوضوح لا يشكل إلا نهاية النهايات، والشاعر لا يعمل، وكذلك القصيدة على صناعة النهاية، فليس من وظائف الشعر أو القصيدة صناعة "بر الأمان" أو "النهايات السعيدة" بل إن الشعر يسعى إلى تشكيل وجود دائم لشاعرية الحياة في دواخل الإنسان القارئ رغم توقف القراءة، حيث يكون الشعر ممارسة حياتية عبر صناعة الترسبات في باطنية القارئ.