ادب وفن

"فندق السلام" بين الواقعية والتشفير / مؤيد عليوي

تلوحُ في سماءِ مدينةِ النجفِ رواية "فندق السلام" لمحمد سعد الحسناوي، وتحث الخطى فوق غيوم الرواية التي أمطرتْ "يوم من أيام النجف" لمكي زبيبة، وروايات زهير الجزائري وعبد الهادي الفرطوسي، محمود جاسم عثمان النعيمي، فــراويات الجيل الجديد مرتضى كزار، وشهيد الحلفي، وعلي العبودي، ولتزاحم جميعها أسطورة هذه المدنية إلا وهو الشعر، النجف هذه المدينة الثرة باللغةِ وإبداعِها تنتج روايةُ "فندق السلام" من المدرسةِ الواقعية، والتي صوّرتْ بصدقيَّة الفنان المنتفض حركةَ اليومي المعاش في انتفاضة العراقيين آذار 1991 وما بعدها ضد دكتاتورية العصر، حتى نيسان 2003.
إذ أضحت الواقعية "منهجاً حراً في الإبداع الأدبي، لا يفتر التزامها باكتشاف الواقع والإنسان، فالواقعية تجاوزتْ المذاهب الأدبية الأخرى وشربتْ منها فتوسعتْ رقعتها الجغرافية على حساب تلك المذاهب".
تصوّر الرواية أحداثا واقعية ويستعمل المؤلف الرمزية الفنيّة في أسماء بعض الشخصيات وهذه الرمزية كانت وافرة في رواية "فندق السلام" ضمن شخصيات الصراع بين الشعب والسلطة، كما من الواقع أيضاً علاقة الحب وجوِّها الرومانسي بين بطلي هذه الرواية إيمان وعلي، ثم أن واقعيتها تتماهى من "الواقعية البسيطة" على حدِّ رأي "لي دا": لقد ظهرت الواقعية البسيطة المتميزة بحس جمالي أكبر والتي يتم فيها تصوير الحياة اليومية للناس البسطاء في البوادي والمدن والتاريخ والدول الأجنبية والمناطق الاقتصادية، بدل تصوير الوجود الإنساني، كما أصبحت تعطي الأهمية للشخصيات الواقعية ولاستقلالية الحياة ، بدل الشخصيات النمطية". نلحظ هذه الأهمية لشخصيات المتن أكثر من الحدث ضمن البناء الفني لرواية "فندق السلام"، إذ الثبات سمة ملازمة لشخصيتي إيمان وعلي، في المطالبة باستقلالهما الشخصي والوطني ضد الأعراف والتقاليد البالية والنظام السياسي الدكتاتوري في آن، وتصمد هذه الشخصيات الوطنية بمساعدة الوطنيين في داخل العراق النجف المكان الروائي، كأسلوب النخيل المزروع منذ آلاف السنين، في وجه الظلم السلطوي للنظام السياسي، وتمر أحداث كثيرة وكبيرة على الشعب العراقي من انتفاضة 1991 وفشلها إلى نيسان 2003، وحتى نهاية الرواية التي بقيتْ مفتوحة الأفق من حلم أن يسقط الصنم بيد العراقيين من الداخل للخلاص منه، وبغية عدم احتلال الوطن من قبل أية قوة خارجية بذريعة ما ، هذا الأفقُ الكتابي يفتح باتجاه جزء ثانٍ لما بعد سقوط صنم نيسان 2003.
لغة الرواية هي أداة الفن مثلما الفرشاة واللون للفنان التشكيلي، حيث تنسكب اللغة في قوالب جاهزة أبان المرور بالمواقف التاريخية التوثيقيّة والشخصيات الحقيقية الواقعية غير المرمزة، وتتحرر اللغة من هذه القوالب في السرد الروائي ذي التقنيّة الفنيّة كالتشفير وبعض الحوارات حتى يبلغ مستواها الوسط أو الجيدة في أغلب الأحيان، بتشغيل الاستعارة والكناية أحياناً أخرى في تركيبة الجملة الروائية ، ومن خلالها في السياق العام يتكوّن لدينا نسقان: نسق ظاهري للشخصيات ونسق مضمر ، فارتباط أحداث الرواية بمدينة النجف المكان، جعل شخصياتها المدونة عن الواقع- الحقيقية أو المُشفرة - تمثل نسقا ظاهرياً، بينما يتشكل النسق المضمر لشخصيات تشبهها في الحركة والفعل الروائي من مناطق أخرى، عبر الإشارة إلى انتفاضة تلك المناطق.
التشفير في أسماء الشخصيات:
ستتناولُ الدراسة رمزية أسماء طرفي الصراع في الرواية، التي تمثل الجانب الفني لذا سيكون تركيز البحث عليها في هذا المضمار دون الأسماء الواقعية غير المشفرة والمواقف التي ترافقها، فالرمزية أو التشفير الذي استعمله الروائي محمد سعد الحسناوي ليعبْرَ برمزية عالية يمتزج فيها عنصرُ المُتخيل الأدبي والواقعي بنسبة لا تفقد حقيقة الواقعي، متجاوزاً بهذه الرمزية ظاهرة الشخصية الواقعية وسلوكياتها - في المجتمع النجفي - جغرافياً إلى بعد يمثل أغلب العراق ، وستكون كآلاتي :
أولاً : الرمزية في أسماء المنتفضين
إيمان : رمز للالتزام بالمبادئ والقيم ، ورمز للروحي والفكري عند الإنسان على ظهر هذا الكوكب، مع امتلاكه الخصوصية النجفية حتى جاء اسمها في أول كلمة سر بين المُنتفضين المقاتلين، كما أن إيمان الشخصية الروائية لعبت الدور ذاته لمعنى الكلمة وأثرَت الحدث الروائي، لذا كانت مُعناتُها تتجسد في التزامها الوطني بسبب دكتاتورية النظام من جهة، و المعاناة ذاتها بالتزامها العاطفي بسب اعتراض أخوها زهير وابن عمها خالد في بداية الأمر، ولكن حتى بعد تمام الخطبة ظل خالد يبحث عن زلات لخطيبها علي من أجل إفشال الخطبة أو الشماتة به أمامَها، مما يشير إلى دكتاتورية اجتماعية لا قانون ولا شرع ديني يمنحها الإجازة بالسطوة على إيمان المرأة، وقد اجتمع مبدؤها الوطني وحبها العاطفي في شخص علي
علي: رمز لكل قائد مجموعة مقاتلة في النجف بخصوصية نجفية، كما يمثل رمزا سياسيا، وحلقة وصل بين عامة الناس في النجف والحوزة الدينية منذ انتفاضة آذار 1991 حتى يوم سفره إلى دولة الإمارات بفيزة عمل من داخل الإمارات سنة 1999، هرباً من النظام وبطشه بعد اكتشاف أمره السياسي، ثم أن شخصية علي بهذه الرمزية تنفتح من الخاص النجفي إلى العام العراقي والإنساني، وأنتجت النسق المضمر لشخصيات روائية مثلها تماماً في أغلب المدن العراقية، حتى في محافظات إقليم كردستان، مع اختلاف المرجعيات والتي انتفضت في الوقت وفي البعد الإنساني ذاته، لا يوجد على ظهر هذا الكوكب في تاريخ الشعوب أن رضخ شعب لنظام دكتاتوري إذ دائما المُحرك لهذه الانتفاضات والثورات هو البعد الإنساني، بوصف المنتفض إنسان يريد العيش بحرية وكرامة واستقلالية شخصيته - الأفكار والمعتقد الديني والتعبير عن الذات والانتماء السياسي – التي تهشمها الدكتاتوريات وهذا البعد الإنساني العراقي النجفي، يتأتى من كونه شجاعاً وواعياً وذكياً وعاشقاً يعيش الرومانسية والحب ويقرأ ويعيل أمه وعائلة أخيه ، ويعشق الوطن إنها تجربة إنسانية .
زيد: رمز للثورة نسبة لثورة زيد الشهيد بخصوصية النجف ومحافظات الفرات الأوسط والجنوب في الواقع اليومي المُعاش.
نوماس: رمز للضمير الحي الناصع البياض الذي يضرب بقوة كلّ الظلام .
سلمان الحافي: رمز للفئة المسحوقة والمهمشة اقتصاديا اجتماعيا في المجتمع النجفي والعراقي، فاسمه وعمله حوذي على عربة يجرها حمار، قد مثـّل مشهداً يومياً مألوفاً في أغلب المدن العراقية.
عباس: رمز للشجاعة والإقدام عند أغلب العراقيين.
ثانياً : الرمزية في أسماء أتباع السلطة
مصعب: رمزية إلى الغرباء عن النجف، والذين يعملون لدى السلطة إذ يندر اسم مصعب في النجف، مغموز به من بعيد إلى الإرهاب القريب "أبي مصعب الزرقاوي" خصوصا في مناطق يتخذ منها الإرهاب حاضنةً له في تجربتين من أحد أسبابهما الإهمال الحكومي اقتصادياً وسياسياً لتلك المناطق .
عبد الصمد: رمزية إلى الغرباء عن النجف، فهو اسم نادرُ جداً، وربما لا تجد لهذا الاسم مسمىً من دخل النجف،فهو رمزية للذين يتم تجنيدهم مِن أتباع السلطة.
مجيد: رمزية إلى رأس النظام ذاته وعائلته الحاكمة الدكتاتورية ، الذي نجا عبر ضابط جاءه من بغداد ودخل النجف متنكراً .
سرمد: يرمز إلى تخليد النظام السابق إذ هو برتبة لواء استخبارات وبقتله على يد نوماس 1991، يمنح الرواية سيميائية وإشارة إلى نهاية تأبيد الدكتاتورية في العراق على أعتاب نيسان 2003 ، في نهاية الرواية.
ان الرمزية لأسماء أتباع السلطة وهي نسق ظاهر في المتن ، يتشكل لها نسقا مضمرا، له الحركة والفعل الروائي ذاتهما ضمن عملهم السلطوي في مناطق ومدن أخرى ، تماما مثلما لرمزية أسماء الوطنيين في الرواية نسق ظاهر، ونسق مضمر في مناطق ومدن أخرى ، ليمثلان طرفي الصراع في الرواية بكلّ تشعباته وتفاصيله الدقيقة .
وبعد هذه السطور لا بد من كلمة نقدية بحق كاتب الرواية محمد سعد جبر الحسناوي.. فهذه الرواية هي تجربته الأولى في انجاز المتن الروائي، فكتابة الرواية هي هندسة وبناء عقلي ومزيج بين المتخيل والواقعي، قبل تسطير هذا وذلك باللغة الأدبية المفعمة بالجمال الفني لرسمها على الورق، باستثمار تقنية اشتغالها الفني، وقد نجح محمد سعد في تجاوز حاجز الإصدار الأول في رواية "فندق السلام" ودخل عالم الرواية العراقية، من خلال استعماله أدوات الراوي العليم بحرفيّة عالية إذ تم بناء شخصيتي بطلي الرواية إيمان وعلي بناءً مُحكماً وكذلك اغلب الشخصيات الثانوية، كما أجادَ لعبة تغيير المكان والزمان بين فصول الرواية ونقل الإحداث من خلال الشخصيات بأسلوبين: 1– بين التاريخي التوثيقي والأداء الفني ، 2 - وفي الاشتغال الفني : بين الموقف الروائي وذاكرة الشخصيات "فلاش باك".