ادب وفن

في ذكرى الخال نوري خضير ... الجيل والمدرسة / جاسم عاصي

تلقائياً حين تحضر في ذهني صورة المناضل الخال نوري خضير، تكون صورة المناضل إبراهيم دوباره حاضرة أيضا. وحسبي أن هذا مردّه إلى خصائص ذاتية لكليهما، تقترب في كل مرّة ولا تبتعد عن مواصفات شخصيتيهما الفذتين المؤثرتين. فكل منهما مناضل عنيد وشجاع تنتمي شخصيته إلى مبادئه فتكون مشعّة وقادرة على تقديم الصورة المثالية للأب السياسي.
يدخل "دوباره" غرفة الصف، فيجد اللوّحة على أتم صورة يلتقط قطعة الطباشير الأبيض ويكتب بحماس كما في كل مرّة "أمريكا عدوّة الشعوب" ثم يبدأ بشرح العبارة من خلال تقديم معلومة جديدة عن أفعال سلطتها الغادرة بحق الشعوب. بعدها يقوم أحد الطلاب بمسح العبارة، حيث يبدأ درس الرياضيات.
نوري خضير تحتل خصاله العمالية الشارع والمقهى. وحين يمر في السوق يستقبله الجميع بالتحية التي يسبقهم بها. كنت أنظر في كل مرة إلى حركته وهو قاصد محل آل "القيسي" فما تزداد في رأسي سوى صوّر جديدة لمفردات تخص تشكيلة الإنسان الذي يمتلك الاستعداد لأن ينتمي إلى شعبه ووطنه، معبراً عن رأيه وفق هذا السياق من المبادئ. فكان بالنسبة إلي صفاً في مدرسة. كيف لا وهو المنتمي إلى جيل كبير من المناضلين.
الخال نوري خضير لا يختلف عن مجايليه/ فهو مصاغ من طينة واحدة ، جبلهم الزمن في فرنه الساخن عبر تاريخ مصاغ منذ سومر. .. "آل شناوة" وهم كثر .. ونوع شاكر المصوّر وحارس مرمى فريق الفتيان .. كاظم شناوة مع صحبه حمادي وخزعل الدجيلي ومكتبة الوعي الوطني.. ماجد شناوة ودكان أبيه وعمله الحزبي الكتوم .. نعمان السيّد محمد وقوة شخصيته لاعباً للكرة وممارساً العمل السياسي، أول الداخلين إلى التوقيف حين تشن السلطة حملتها على الشيوعيين.. عبد الله ناصر المناضل الهادئ الطبع، ينظر إلى الأشياء بدقة، لكنه حاد حين تكون المبادئ فاصلة بين ما يحدث وميزان الفكر.
بينهم يتحرك نوري بكل جدارة وحيوية يدخل مواقف الأمن أو الشرطة بكل هدوء، ويخرج بشجاعة واصرار جديدين، لم تؤثر عليه فترة إقامته في سجن "نقرة السلمان" من عام 1963 حتى عام 1968. ولم تثنه عن مبادئه أساليب التعذيب البشعة في عام 1963 ولا استدعاءات دائرة الأمن المتكررة،. في كل مرة يعود إلى صحبه وانعطافته بعد أن يترك السوق وراءه، واضعاً مقهى اللواء على يمينه، قاصداً محل آل القيسي "رزاق ومنعم" حيث يلتقي مستقراً على كرسي خارج المحل، إذ تدور الأحاديث والنقاشات. بما يشغلهم أو يشغل عامّة الناس وسط فيض من مناخ ثوري خلقته ثورة تموز 1958 وضمن صراع سياسي لم يكونوا فيه طرفاً سلبياً. فقد خلقته زمرة من مروّجي السياسات المتآمرة من خارج الحدود. إنه ينظر إلى صحبه في الشبيبة الديمقراطية ورابطة النساء، وطلبة اتحاد الطلبة، ولا ينسى شخصية كانت لولب المجال الشعبي في المدينة.
شخصية دحضت تاريخياً افتراءات الدوائر الاستعمارية، وأبطلت فرية الكفر والالحاد التي ألصقت بالشيوعيين ظلماً فراح ضحيتها الكثير من أبناء الشعب. إنه "مجيد طخماخ". كان ينظر إليه ويلاطفه ناعتاً إياه بـ "يا عم" مجيد الذي اكتسب لقبه من الآلة التي يُدار بواسطتها طعام "الهريسة" في ليلة العاشر من محرم، وحصراً أثناء المراسيم والطقوس التي كانت تُقام استذكاراً لواقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين "ع". إنه صورة جلية لعمق إيمانه برسالة الحسين الذي اقتدى بفعله الثوري الكثير من مناضلي ومفكري الكرة الأرضية، إلا نحن!
مجيد "أبو سلام" الأب الحنون، القادر على عكس مزايا الحب للمناضلين، في اليوم السابع من العشرة الأولى بمناسبة استشهاد الإمام العباس "ع"، تبدأ مواكب العزاء تسير على طول شارع الحبوبي "شارع الهوى" وأبو سلام بجسده الضخم يتوسط الشارع لا لتوزيع بيانات أو نشرات الشبيبة الديمقراطية ونقابات العمال التي ينتسب إليها، بل ليقدم عهده إلى الإمام المناضل من أجل الإنسان. يتوسط الشارع حاملاً "الهودج" بمشاعله ذات النهايات الدخانية السود. يومها لم تكن تقنية الكهرباء كما هي الآن، بل توضع داخل كؤوس صفيحية قطع من الخيش، المغمس بالنفط، تُشعل جميعها، موزعة لهبها، ومجيد يحمل الهوّدج بساعديه. وبين فترة وأخرى يدور وسط الشارع فينفّض الجميع لائذين على أطراف الرصيف حيث أبواب البيوت، يخلق مساحة من الشارع خاصة به وبهودجه، بعدها يضع الطرف المدبب في تجويف مربوط بحزام على وسطه، ثم يواصل سيره مع الموّكب حتى نهاية الشارع. ، ونوري وصحبه ينظرون إليه بامتنان وبلا نفاق، لأن قضية الحسين هي قضيتهم، وما يوّحد المناضلين عبر التاريخ من وجهة نظرهم هي التضحية والعمل على صياغة حياة ومستقبل الشعوب.
وهذا ما فعله الإمام، وكما فعلوه ويفعلونه الآن. فنوري كادر عمالي، ينتمي طبقياً إلى مبادئ طبقته، ولا يتذبذب بين هذا وذاك، له حضور فذ للعقل يزن عبره الأشياء والأفعال. فعندما كنت أسمع منه "ها خالي شلونك"؟ أجيب باستحياء، لكنه استحياء مطمئن على حب وتقدير، ثم يكرر "وكيف حال خالك خلف ؟ ما هي أخباره"؟ فأقول بخير. مع علمي أن خالي جزء من الحركة الوطنية في مدينة البصرة، ثم يسأل عن "طالب وخالد رمضان" وهم بمثابة أخوّة لأمي. كل هذا دليل ساطع على وحدة العوائل وقوة محبتهم لبعض، إنه نسيج من ارتباط اجتماعي أسري سياسي.
عرفت المناضل نوري خضير محمد في مدينتي الناصرية، فعرفت جزءا غير يسير من الحياة، لأنه بالنسبة إلى جيلي مدرسة في النضال وصياغة الصبر وفق المبادئ. لا أستطيع سوى استحضار شخصيته وهو يتقدم التظاهرات بين أبناء شعبه، وأبناء مدينته الذين شكّلوا وجهاً مشرقاً عبر التاريخ، لمدينة أنجبت عزيز السيّد جاسم، خالد الأمين، سيّد وليد، فؤاد مكَطوف، حسين مكَطوف، زهير الدجيلي وأمه المناضلة، سعد الدجيلي، حسين السيد فليح اليعقوبي، حسن الخياط، رزاق النجار، طعمة مرداس، عطشان، والقائمة تطول.
فإليك يا خال، الذكر الطيّب، وأعلمك بأن ابن أختك قد تجاوز السبعين الآن وشهد أزمنة مرّة سارت على أجسادنا والبلاد، آخرها التحرير الذي قادته أمريكا. أرجو أن تهمس في أذن "إبراهيم دوباره" الذي تشبهه، والذي يشبهك، بأن "أمريكا الآن محررة الشعوب وليست عدوّتها"؟! وأننا نعيش عصرا رديْئا جداً؟!