ادب وفن

«ضياع في حفر الباطن» مثالاً .. حرب الخليج والجندي العراقي / د. اكرام المصمودي ترجمة عبد العزيز لازم

"ضياع في حفر الباطن" هي رواية تروى على لسان جندي كان هناك وشاهد الأحداث. لقد كتبت في 2005-6 بعد سقوط نظام صدام حسين، ونشرت بعد ما يقرب من 20 سنة على نهاية الحرب، ومن المؤكد كانت رقابة النظام هي واحدة من الأسباب التي أدت الى ذلك الانتظار الطويل.
إنها حكاية مباشرة رويت بضمير الشخص الأول، وهي تسجل بصوت واضح وفردي لجندي واحد ما حدث في صحراء حفر الباطن خلال الثلاثة والأربعين يوما من الحرب. إنها الشهادة الشخصية لرجل عادي كان موجودا هناك، وقصة تتحدث حول كيف تكون الحرب بالنسبة للجنود العراقيين في الصحراء – ماذا فعلوا وماذا كانت مشاعرهم وماذا فعلت الحرب بهم؟ نعم نحن نحصل من خلال تلك التفاصيل على "المعرفة العملية" وإلا فإنها ستغيب عن تقارير الإعلام الخاص بالحرب. يشدد الكاتب سامويل هاينز في روايته "حكاية جندي" على أهمية تلك "التفاصيل" في الرواية الشخصية حول الحرب. لأن حكاية الجندي تروى من قبل رجال مقاتلين بأنفسهم فتكون حكاية تفاصيل بين رجل واحد أو بضعة رجال في خندق أم على الساحل، يعملون، يشعرون أو يعانون في سفينة أو على متن طائرة. ولأنها حكاية شخصية فهي إذن الحكاية الانسانية للحرب.
إن هذه التفاصيل "اخضعت الحرب للميدان الانساني" كما لاحظ آهارون أبيلفايد في ملاحظاته عن الهولوكوست عن طريق جعل الحوادث تتحدث عبر الفردي ولغته لإنقاذ المعاناة من الأعداد الضخمة ومن حالة مجهولية الاسم المرعبة.
إن "الضياع" تصف ظروف نشر القوات وكيف اتسمت بالإكراه والفساد وتأثير الدعاية – إنها الممارسات الرئيسية التي دمرت البعد الوجودي للحرب من الداخل. لقد كشفت كيف أن الجنود يساقون بالقوة الى جبهة "حفر الباطن"؟ وكيف كانت فكرة الهرب حاضرة والتي كانت منتشرة فعلا كممارسة عملية حتى قبل بدء الحرب؟ فضلا عن ذلك فإن الرواية متحمسة لكشف الفساد المتفشي في جميع المستويات من السياسيين الى الضباط ومن الجنود الى المدنيين.
كان الراوي جنديا احتياطيا من البصرة ومحاربا قديما في الحرب العراقية الايرانية، وكان ضائعا ومفلسا وعاطلا عن العمل، وتم تأشير شبابه بحربين: إحداهما قد وضعت اوزارها قبل فترة قصيرة ويتعين على الأخرى أن تبدأ قريبا. يتوجب عليه الالتحاق في الجبهة بعد بضعة شهور من تسرحه من الجيش بعد أن قضى سبعة أعوام من الخدمة العسكرية في الحرب العراقية الايرانية. مع ذلك ورغم انه لم يتعاف كليا من تجربته الجريحة السابقة، المخربة اخلاقيا، لم يملك خيارا آخر غير العودة الى جبهة القتال. إن فكرة رسم الخطة قد استقرت في عقله، لكن عائلته حذرته من النتائج المرعبة للهرب. وقد كشف الراوي وهو يخضع لمصيره الظروف الحقيقية لأسر الجنود ونقلهم الإجباري اللاحق الى الجبهة وهو يعرض الفساد المستشري في مستويات مختلفة من السلطة.
تم أسر الجنود أولا ثم أخذوا كرهائن، وبعد ذلك تم سوقهم تحت التهديد الى السجن حيث يقضون الليل للتأكد من إنهم سوف لن يتمكنوا من الهرب من الجيش قبل أن يؤخذوا الى الجبهة. بعد قضاء ليلة في السجن وحسب الراوي كان هناك بشر يتكومون فوق رؤوس بعض ويتشابكون مع بعض حتى أن صديق الراوي "العمارتلي " وهو من مدينة العمارة الجنوبية صرخ متوجعا:"خايب لو ايذبونه بجهنم ولا طرگاعة أمس. بالعباس ما ظل بيه عرج صاحي ويريدوني أعارك. آنه وين والعرك وين"!
يستخدم الراوي فيض من العبارات التي تشير الى الحشرات والحيوانات في توصيفاته لمجاميع الجنود الأسرى المسوقين الى الصحراء. إنهم "كأسراب النمل الضائع، حشرات تتحرك ببطء، صراصر مسحوقة" و"حشود في طريقها الى الهلاك". هكذا ينظر الراوي الى رفاقه الجنود بعد أن قضوا أربعا وعشرين ساعة في سجن بانتظار نقلهم بالقوة الى صحراء "حفر الباطن" دون أن يتمكنوا من إيصال أي كلمة الى عائلاتهم. بعض الجنود لم يسمعوا في الأصل شيئا عن المكان ويعترضون على الطريقة التي اندفعوا فيها الى الجبهة:"ولكن كيف؟ أنذهب إلى حفر الباطن بهذه الثياب؟ بلا أمتعة ولا أفرشة ولا حتى وداع! هل هناك جنود يساقون للدفاع عن أوطانهم بهذه الوحشية؟ تساءل عدد من الجنود: ترى من سيبلغ عوائلنا؟ فرد عليهم ضابط التوجيه السياسي بغضب:"أي أهل، أيّ عائلات؟ وطنكم يتعرض للمخطط الإمبريالي الصهيوني وتسألون عن أهل؟ اصعدوا، بالحرام ترى أفين حظكم هالساع".
لكن كما حاولت "إليان سكار" في كتابها "الجسد والعقوبة: بناء العالم وتدميره" إثبات أن بنية الحرب تتطلب صلابة ممتازة من قبل الجنود لإعارة مادة لحكاياتها الوهمية. وتستكمل وسائل الإكراه الذي اعتاد الجنود تلقيها بالدعاية. بالاستيلاء على أولئك الجنود غير الجاهزين وذوي الأجساد المنهكة وغير المدربة، تحاول الدولة إضفاء المعاني الجوهرية والمصداقية على روايتها ونشاطها الدعائي. وهذا أمر واضح أيضا عبر أول محاضرة للتوجيه السياسي الأولى التي تلقاها الجنود في الصحراء. يلخص ضابط التوجيه السياسي أفكاره حول المؤامرات الصهيونية والإمبريالية مشددا على ضرورة عودة "الفرع الى الأصل" وعن أهمية الكويت كخطوة أولى لتحرير فلسطين. وقد ألقى رئيس التوجيه السياسي عبارات قديمة فارغة حول مؤامرة الأعداء ضد البلاد وحول تخاذل بعض البلدان العربية، ثم قال "ان الطريق لتحرير فلسطين يمر بالكويت أولا"!
ان ذخيرة روح الدعابة والتهكم هي أفضل سلاح يمتلكه الراوي لمواجهة مثل تلك المغالطات. ففي دعابة مظلمة لم يضيع الراوي أي فرصة لتذكّر كيف أن نفس خارطة الطريق لتحرير فلسطين اتخذت طريقا مختلفا في روايات سابقة، منوها بذات الدعاية التي سوغت الحرب ضد ايران. يشير الراوي بشيء من السخرية الى ديماغوجية النظام متحديا اياه ومتحديا صديقة بفكرة تقول ان اقتصار ذلك الطريق على غزو الدول الشقيقة والمجاورة يبقى هيِّنا، فالخشية كل الخشية من أن يبدأ ذلك الطريق المتخيَّل من احتلال "أوكرانيا" أو اجتياح جزر "غينيا بيساو" أو قصف "بوركينا فاسو" بـ "المطّال"!
إضافة الى الإكراه والدعاية يكون الهرب من الجيش كرد فعل متوقع بالنسبة لحالة نشر الجنود الإجباري هو مع ذلك ظاهرة اضطراب آخر يؤثر في الدور المبكر من الحرب. يذكر الراوي كيف أن العديد من المجندين الإلزاميين ينتهزون أيّ فرصة للهرب في نقاط التفتيش، بينما يلجأ آخرون الى المساومة سعيا وراء تحريرهم، ويلاحظ الراوي أيضا كيف يتعرض أولئك الذين يعاد القبض عليهم للعقوبة الوحشية المصحوبة بالإذلال بسبب محاولتهم الهرب.
بعد وصولهم الصحراء يشتكي الجنود من صعوبة الظروف، شحة المؤن والرطوبة والليالي المرة الباردة في الصحراء. يتشاركون قطعة الخبز، ومحظوظون حقا أولئك الذين يحظون بالماء لصنع بعض الشاي. "كأننا نعيش في العصور الأولى للبشرية، فظروف العيش هي في غاية الصعوبة هنا".
في تلك الأرض العابسة كان الفساد هو آخر ملجأ يمكن أن يذهب اليه الذين لا يستطيعون الفرار. من بين أولئك الجنود الضائعين الجائعين كان سائق الشاحنة يحتل موقعا رابحا لأنه الوسيط الوحيد بين الصحراء والمدن. إنه يستغل موقعه في تهريب جميع أنواع البضائع وبيعها للجنود بأسعار عالية. ففي الليل يستطيع سائق الشاحنة جمع مبالغ جيدة من وراء تهريب الجنود الذين يستطيعون دفع الأجور التي يريدها مستخدما شتى المهارات لإيصالهم بأمان بعيدا عن الجبهة. وجميع الضباط بمختلف رتبهم رأوا فيه "السائق" وسيطهم الوحيد بين الصحراء والمدن. لقد عرفوا كيف يروضونه ويجعلونه يعتني بتوفير حاجاتهم، وكانوا يتملقونه ويعدونه بالصفح عنه بعد الاندحار الوشيك. يتبع الجنود ضباطهم في خضوعهم لسائق الشاحنة وعليهم ان يدفعوا أسعاره الباهظة وخاصة عندما يتعلق الأمر بضمان هربهم من الصحراء. "أدرك السائق أهميته مبكرا. أما الجنود فعرفوا انه لص محترف، وحالف الحظ بعضهم لأن يخدموا تحت إمرة ضباط يعرفونهم في الأصل من علاقة الجيرة، الأمر الذي مكّنهم ضمان القيام بواجبات مراسلين بين الضباط وعائلاتهم أو عشيقاتهم، ويقومون برحلات أسبوعية الى المدن جالبين معهم الطعام والسكائر. لكن عندما تكون المعركة وشيكة، فهم اذكياء بما يكفي لإدارة ظهورهم لأسيادهم فيهربون من الجبهة.
يشكل آمر الوحدة والدائرة الأقرب له المكونة من الطباخ والمساعدين ورئيس عرفاء الوحدة والحرس مجموعة خدمة ذاتية نفعية، بينما يكون ضباط الصف والجنود هم الضحايا الحقيقيون في أوقات يستعدون فيها للعراك فيما بينهم من أجل جرعة ماء أو كسرة خبز أو قبضة رز. إضافة الى ظروف الصحراء القاسية المؤلمة وشحة الطعام ونقص التجهيزات والدعم اللوجستي يعدد الراوي المرض والصرع والتصرفات الغريبة بين بعض الجنود الذين حولتهم الصحراء وظروف العيش الى مخلوقات دون بشرية. أحدهم وهو مالك "العمارتلي" صديق الراوي الذي يتصرف بشكل شاذ بدفع من نوبات الصرع. بعض الجنود يعيشون وهم في حالة انفعال شديد وحزن وإحباط. وفي أجواء من الهستيريا المفرطة والتذمر والإهانات والتعبيرات الساخرة ضد النظام وشخصياته تنطلق بحرية من ألسنة الجنود المحبطين الغاضبين. تشرّب الراوي نفسه هذا الحال مستغربا ما يصدر من زملائه الجنود، مذهولا ومندهشا لمنظر الشمس وهي تشرق في الصحراء. ويقضي أيامه في عمق الصحراء يجمع الحصى النادر بأشكاله واحجامه المختلفة. يضع المذياع لصق اذنه بحثا عن آخر الأنباء حول الحرب. "في يوم نقاتل الأكراد، وفي آخر نقاتل إيران، ثم الكويت والآن نقاتل أمريكا. كيف يفترض بنا أن نلحق الهزيمة بهم وليس لدينا غير بندقية الكلاشنكوف"!؟
"لكن ابتداء من الآن كل الذي ترك لهم ولنا وللسماء هو فقط مراقبة ومشاهدة. فنحن جميعا أبناء الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، أبناء الحرب الجديدة".
في "الجسد والعقوبة" تناقش "سكيري" بنية الحرب التي ترى فيها انها بالأساس "صراع" حيث يقوم المشاركون بالمزيد من الإنجاز والمزيد من إنزال الضرر ببعضهم فيكون الطرف الذي يتلقى العقوبة الأكبر بصورة أسرع من الآخر هو الفائز. ورغم انها تسلّم بحقيقة ان مفردة "صراع" تتطابق عادة مع مفردات زمن السلام مثل "لعبة وتمثيل"، لكنها تصر على أهمية تعيين هوية الحرب على انها صراع. الحرب في الحقيقة الضخمة لبنيتها الضخمة هي "صراع". حيث ينظّم المشاركون أنفسهم بشكل فريقين وينخرطان في نشاط سيجعل من الممكن في نهاية المطاف أن يشار الى أحدهما على انه الرابح والى الطرف الثاني على انه الخاسر أو بصورة أكثر دقة سيجعل من الممكن بالنسبة للخاسر أن يعرّف نفسه بطريقة تجعل الجانب الآخر يعترف بأنه الرابح بسبب الإهمال.
ــــــــــــــــــــــــــ
* عن كتاب "الحرب والاحتلال في الرواية العراقية" للدكتورة المصمودي