ادب وفن

لوحات فيصل لعيبي أنموذجا ..الشعر والفن التشكيلي / داود سلمان الشويلي

الدراسات التي تجمع بين الأدب والفن التشكيلي تأتي لبيان وتوضيح مساحات اللقاء بينهما، وقد كان هذا اللقاء منذ القدم، قبل يحيى الواسطي كرسام قام بوضع رسوم لمقامات الحريري، وهي كذلك تأتي لرسم الحدود الفاصلة والموصلة في الوقت نفسه بين الفنين، ودراسة الأرضية المشتركة بينهما، إذ انها تكون مفتوحة على الجانبين، وهذه الأرضية تسمح بتداخل وتثاقف المفاهيم والأدوات بينهما، لأن الفنين شريكان في التاريخ الذي يحملانه، ويربط بينهما العديد من الروابط ذات العلاقات النوعية.
وقد استقبل الشعراء أعمال الفنانين التشكيليين، وكذلك استقبل الفـنـانون الشعر، لوجود علاقة بين الاثنين، ونجد من نتائج هذه العلاقة رسومـات ولـوحـات فـنـيـة كثيرة تصنف على انها قصائد شعرية مصورة أو مجسمة، منذ "امرؤ القيس" حتى يومنا هذا.
أمامنا الآن تجربة الفنان فيصل لعيبي التشكيلية التي تحمل خطابه التشكيلي، ورؤيته الفنية عن بعض الشعر العربي الذي قيل، وفي هذه التجربة سنقترب كثيرا من عالمه التشكيلي المجسد لما تمنحه القصيدة من رؤى وتصورات للفنان التشكيلي.
في هذه الدراسة سنقدم منجزه التشكيلي عن مجموعة من القصائد المختارة التي جسدها حسب رؤيته في لوحات تشكيلية تخطيطيا.
في هذه اللوحات قدم الفنان ليس رؤيته لقراءة القصيدة، وانما قدم قوة قلمه التخطيطي في انجاز لوحة تشكيلية معبرة دون ألوان سوى الضئيل منها، وهذا الضئيل لا يعدو الإكسسوار المؤثثة بها اللوحة والتي وضع فيها شيفرته التي حاول توصيلها الى المتلقي، وقد كان حريصا في استخدام الالوان، ومبدعا في المكان الذي يستخدمها فيه.
تتصف شخوص الفنان النسوية بأنها جميعا عارية، او شبه عارية، وهذا الأسلوب أتاحه له عيشه في أوربا المنفتحة على كل شيء، ومنها رسوم فناننا التشكيلي، وأيضا هي تجسيد للقصيدة التي تناصت معها، فهي تكون عارية كما قال الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في قصيدته سقط النصيف: سَقَطَ النّصيفُ، ولم تُرِدْ إسقاطَهُ.. فتناولتهُ واتقتنا باليدِ..
ثم يصف الجسد الانثوي وكل شيء فيه وكأنها عارية تماما، او شبه عارية كما في قصيدة لامرئ القيس التي يقول فيها :
فجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَـا.. لَـدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّـلِ..
من هذا البيت، راح الفنان لعيبي يتناص مع القصيدة، فهو على الرغم من انه يحاورها في فنه التخطيطي، الا انه راح يجسد رؤياه لما في البيت – والقصيدة – من فكر خلاق، وكنوز تخيلية.
قسم الفنان لوحته الى ثلاثة أقسام افقية، في القسم العلوي حيث الخيمة، أظهر شابا وسيما ينظر من باب الخيمة متلصصا، وقد بانت على محياه علامات الدهشة لما يرى، وفي القسم الوسطي وهو الاهم والذي يأخذ من الفنان جهدا كبيرا في تخطيطه، يظهر الفنان الثيمة الرئيسة للوحة، وهي الفتاة المستلقية على جنبها الأيمن "في الموروث الشعبي هذا استلقاء الملوك" وقد نضت ثيابها الا "لبسة المتفضل" أي انها غطت وسط جسمها بقطعة قماش.
أما القسم الثالث فقد اثثه الفنان بإناء مليء بالفاكهة، وقد لونه بألوان الفاكهة، ووضع تفاحة حمراء "في الموروث الشعبي وبعض الأدبيات الدينية ه ثمرة الجنة التي أكل منها آدم وحواء وسقطوا في الغواية" على الأرض لتدل على الغواية، اذ ان موضوع القصيدة واللوحة التشكيلية هو "الغواية" التي اتت من خطيئة جدنا آدم حسب الاسطورة التوراتية.
في لوحة أخرى يتناص الفنان لعيبي مع معلقة امرؤ القيس التي يقول فيها:
فَـلَمـَّا أجَـزْنَـا سَـاحَـةَ الـحَـيِّ وانْتَحَى.. بِـنَـا بَـطْـنُ خَـبـْتٍ ذِي حِقَـافٍ عَقَـنْقَـلِ
يقسم الفنان لوحته أفقيا الى قسمين، الأعلى يتركه فقيرا من الألوان الا ما كان من اناء الفاكهة والوردة الحمراء ذات الدلالة الحسية المعروفة عند المتلقي.
أما القسم الثاني فيلونه بألوان مكررة، انه نقش البلاط الأرضي. ان العلاقة بين رجل وامرأة هي علاقة تحكمها أشواق وهيام وتمنيات باللقاء ووردة حمراء.
وفي اللوحة امرأة أخرى تحمل الفراش بين يديها تقدمه لسيدتها استعدادا لما ستنتجه الوردة الحمراء من افعال حسية، والفراش كناية عن مخدع النوم.
ويرسم الفنان لوحة تمثل امرأة شبه عارية الا ما يستر وسطها، ورجل مختبئ تحت السرير، وامرأة أخرى تتلصص من خلف الستارة، وفي مقدمة اللوحة اناء مليء بالفاكهة، وخاصة التفاح "فاكهة الغواية".
ان تركيز الفنان على اناء الفاكهة بتلوينه، وعلى وضع هالة صفراء على المرأة المتلصصة، هو تأكيد على ان المرأة شبه العارية كانت في وضع سابق غير مريح للآخرين مع الرجل.
وقد تناصت اللوحة مع قصيدة الشاعر الأعشى أبو بصير ميمون بن قيس:
غرّاءُ فرعاءُ مصقول عوارِضَها. .. تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجلُ
كأن مشيتها من بيتِ جارتها.. مرُّ الســــــــــــحابةِ لا ريث ولا عَجـــَــــــلُ
ويتناص الفنان مع قصيدة "فلا تسألي" وهي من شعر بكر بن نطاح الحنفي، فيرسم رجل وامرأة تظهر ملامح الاكتناز عليها وقد وضعت لفافات غطاء على وسطها ووسط الرجل.
وعن قصيد احمد شوقي "يا جارة الوادي "التي يقول فيها:"لم أدر ما طيب العناق على الهوى.. والروض أسكره الصبا بشذاكِ
لم أدر والأشواق تصرخ في دمي.. حتى ترفق ساعدي فطواك
وتأودت أعطاف بانكِ في يدي.. وأحمر من خديهما خداكِ..
تناص الفنان فيصل لعيبي مع موضوعة هذه القصيدة، فرسم لوحة تشكيلية تفوح بعطر الاشواق للآخر الذي هو في عناق مستمر، وبالألوان راح يلون ما في النصف الوسطي من اللوحة.
ان وجه الرجل المعانق في اللوحة يعكس وجه الفنان فيصل لعيبي، هل هذه اللوحة تجسيد لحلم الفنان في أن يعيش في حالة عناق دائمي؟ اترك الاجابة للمتلقين.
وقد تناص الفنان مع قصيدة للشاعر عزيزي اباظة "همسة حائرة" ولحنها الفنان محمد عبد الوهاب، في لوحة تفيض رقصا، تقول القصيدة:
"لم نعتنق والهوى يغري جوانحنا.. وقد تعانق روحـــــــانا وقلبـــانا"
ومن الشعر الشعبي تناص الفنان لعيبي مع كلمات اغنية كتبها الشاعر رياض النعماني بعنوان "بساتين البنفسج" في لوحة رسمها لعشيقين، وقد اثثها بوسائل التواصل "السلم" وبرسول المحبين "حمامة"، وبالأجواء الرومانسية في ليل يظهر فيه هلال ونجمة، وعلامة العشاق الحسية "الوردة"، يقول فيها:
"بساتين البنفسج غفت بعيونج
وطاير بالشعر سرب الحمام
أنا مجنون.. أنا مجنون
انا مجنون وخذاني الهوه
واطوّح غرام. ......."
الفنان فيصل لعيبي استعار من الشعر ما يوصله الى رسم لوحة تشكيلية رائعة تقول اشياء واشياء للمتلقي، وتعيد نفسها وتولد دلالاتها ومعانيها مجددا كلما قرأها متلق اخر.
ويكرر الفنان الكثير من أثاث لوحاته فيما بينها جميعا، الا أن التكرار هذا ينضح ابداعا ودلالات ومعان متعددة، فإناء الفاكهة يتكرر في اغلب لوحاته وهو يحوي التفاح، ليكون موتيفة اساسية لها دلالتها الرمزية في اعطاء معنى الغواية، والوردة وما تمنحه من دلالات، والفراش – أو ما يدل على الفراش – هو الاخر يتكرر بصورة ابداعية مثمرة، والسرير الخشبي الدال على ارستقراطية المرأة وترفها، وجسد المرأة المكتنز باللحم والعري أيضا يتكرر بوضعيات تبرز حالة الابداع التي تقدمها تخطيطات الفنان لعيبي.
وقد تناص الفنان في لوحات كثيرة مع قصائد عربية قديمة، وقصائد مغناة، وشعر عامي، فكان خطابه التشكيلي يعكس رؤيته لما يقرأه أو يسمعه من شعر واغان، وقد قدمه في لوحات لم تكن الالوان من صفاتها الا القليل.. القليل لما يريد التركيز عليه.
وأخيرا يقول بيكاسو:" عد كل شيء، والفنون كلها واحدة، يمكن أن نكتب لوحة بالكلمات كما يمكن أن نرسم المشاعر في قصيدة".