ادب وفن

"صرخات الضوء" وقضايا ثلاث في الذائقة الشعرية / داود سلمان الشويلي

تطرح مجموعة "صرخات الضوء" ثلاث قضايا عن الذائقة الشعرية البكر للشاعر السوري ريبر هبون تحتاج الى بيان وتوضيح هي: قضية العنوان، وقضية الجمع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة أو قصيدة النثر في مجموعة واحدة، وقضية العلاقة بين الرجل والمرأة، العلاقة الرومانسية خاصة التي تربطهما.
يتكون العنوان من مفردتين ماديتين، احدهما مفردة محسوسة بحاسة السمع، هي مفردة "صرخات"، إذ تنطلق من أدوات النطق عند البشر "الشفتين واللسان" لتصل الى حاسة السمع "الاذن" فتميزها على انها صرخات عالية.
والمفردة الثانية كذلك مادية، محسوسة من قبل حاسة البصر، العين، وهي مفردة "الضوء" حيث لا تتأثر به سوى حاسة واحدة هي "العين" التي تراه.
نعلم جيدا ان الضوء ينير ولا صوت له، فهو لا يصرخ ولا يخرج اي صوت، لهذا فان الشاعر الذي استخدم هذا التركيب بين هاتين المفردتين وفي هذا المجاز يعرف جيدا ما هو فاعل.
فهو اما ان يكون مستشعرا ان للضوء صوت، فالضوء يصرخ وهو يسمعه في دواخل نفسه، كمن يتخيل ان في الظلام الدامس يسمع أصواتا غير معروفة المصدر وغير مفهومة، أي ان مخيلته تنشط جيدا لتخيل ذلك وهو الشاعر النبه الذي تكون مخيلته بهذه الدرجة من النشاط في اي وقت تصور له ذلك.
أو أن يكون التركيب بين المفردتين قد حدث لأن واحدة منهما، قد رمز بها الى شيء مادي آخر وهو الحب، الحب الذي تلهج به أغلب قصائد المجموعة، فيكون العنوان عند ذاك هو "صرخات الحب"، اذن هو تركيب شعري متميز، حيث تركب من مفردتين احداهما مادية حسية، والأخرى معنوية شعورية، فيكون التركيب هنا مختلفا عن التركيب الأول، عندها ينهض الشعر ابتداء من العنوان.
"صرخات الضوء" هو عنوان احدى القصائد التي يشم منها رائحة لغة أخرى غير العربية، أي انها كتبت باللغة الكردية، لغة الشاعر الاصلية، ثم عربت، فهي تحمل الكثير من أسلوب وصور والتركيب اللغوي للشعر الكردي.
في هذه القصيدة يخاطب الشاعر المرأة حبيبته فيقول:
"انصتي حبيبتي
لدقات قلبي".
في العنوان نجد ان التخريجين واردان، ان كان مخياله النشط يصور له ان الضوء له صوت فيصرخ، او كان يرمز الى شيء اخر، وهو الحب، لهذا قال في الاهداء:
"إلى هبون، الحقيقة المقيمة بي
وخميرة وجود يستحق العيش
امرأتي والجمال الذي يهزأ بالموت
لها صرخات الضوء".
اذن استعار عنوان المجموعة من عنوان احدى قصائدها، فتكون مجموعة القصائد، او جلها، تلهج بما يقدمه هذا العنوان من امور خاصة بالمرأة، ومن هذه الامور العلاقة بينها وبين الرجل وهي علاقة الحب على اقل تقدير.
***
القضية الثانية التي ستتناولها هذه السطور هي ان المجموعة احتوت على الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر الى حد ما، وهذا الأمر/ القضية يفعله الكثير من الشعراء، الا انه في هذه المجموعة يأتي من باب ان المصدر لكل قصائد الشعر العمودي هو واحد، وهو العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة، اي انها تتحدث عن موضوع اثير عند الشاعر وهو المرأة، فيما القصائد الاخرى تضم كل شيء، مثل قصيدة "أنا وانت"، وقصيدة "أصداء الخيبة"، وقصيدة "المهاتما غاندي".
تمتاز قصائد الشعر العمودي بقصرها، وتركيزها على وصف تلك العلاقة بصور رومانسية شفافة، أو بصور إيروتيكية في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى بصور ذهنية، فيما القصائد المبنية على غير البناء العمودي فطويلة، ومتنوعة الاغراض، لهذا جمع الشاعر في مجموعته الشعرية هذه "صرخات الضوء" جل ما كتب من أشعار، تتكون المجموعة هي حصيلة ما كتبه من قصائد وجد انها جديرة بان يضمها بين دفتي مجموعة واحدة.
***
القضية الثالثة التي ستناقشها الدراسة هذه والتي ستفرد لها السطور التالية، هي: العلاقة بين الرجل والمرأة.
تنوعت صور العلاقة التي تقدمها قصائد المجموعة بين الرجل والمرأة، بين ان تكون صور تبين و توضح هذه العلاقة على انها علاقة حسية تنهل من الوصف "الايروتيكي" مثلا، اذ يكون الشاعر اكثر حرية فيها، وحريته تلك هي حرية حسية "ايروتيكية"، وله مرجعية شعرية عربية في اشعار امرئ القيس والذبياني وابو نواس ومن المعاصرين ابو ريشة وحسين مردان ونزار قباني.
وبين أن تكون صور تنهل من الحب النظيف والبعيد عن ذلك الوصف لتلك العلاقة "أي عذرية العلاقة مثلا"، وتكون حريته فيها حرية عامة غير مربوطة بالمرأة، ومرجعيته فيها كل شعراء العربية والشعر المكتوب بلغات العالم كافة والتي اطلع عليه.
والنوع الثالث هو الصور الذهنية التي يسوح معها الشاعر، ويأخذ حريته في قول الشعر.
يقول الشاعر في صوره الايروتيكية التي تتصف بأنها ليست وصفا وانما تقرير الشخص المتحدث الذي يقول عن نفسه، أو ان يقول عن الآخر ما كان يراه:
"في زرقة العينين نبع صبابتي.. في روضة النهدين عاش حنين"
"أم خدك التفاح يسكنه الشذى.. أم صدرك الثلجي وهو حنون".
هنا يقوم الشاعر مقام من يصف جسد المرأة وصفا يمكن ان نقول عنه انه وصف "ايروتيكي" يأخذ من قاموس هذا الوصف الكثير من الفاظه ومعانيه.
***
النوع الثاني من صور العلاقة تلك هي صور توضحها على انها علاقة رومانسية لا شائبة حسية فيها، اي "عذرية":
امضي ويتعبني هواك حبيبتي... اعدو الى التحليق دون جناح
الشوق يعبر من جدار فجيعتي.... يبدو الكآبة يدعو للأفراح
ويقول كذلك:
"فهات ثغرك سوف ننسى كل شيء خلفنا. .
قبلاتنا الحصن الحصين
لقلعة العشق التي رممتها وحدي هنا. .
رغم الفناء نلم صرختنا".
هذه القصائد تبتعد عن مفردات القاموس الأول وتركيباتها، إذ انه يقدم قصائد وصفية بتراكيب ومفردات غير "ايروتيكية"، انها تنزع كل شبقها الشرقي وتلبس رداءها العذري كما عند الشعراء العذريين. "الدارس يرى ان الشبق المعني غير حاصل فقط عند الشرقيين بل يتعداه الى الشعوب والمجتمعات الاخرى، الا ان هذا التعبير يفهم منه الكثير".
***
النوع الثالث من الصور هو الصور الذهنية التي ينساب فيها عالم الشاعر الى مجاهل الذهن التي لا تحدها حدود.
يقول في احدى قصائده :
"لموسيقا أحلام تراءت من سجود النهر للزيتون
اغنية المضاجعة الاخيرة والسفر
في لحظة الاغماء ابكي كالفرح
وسأملأ العينين من شهقات هذا الليل من خمرات الندم".
ويقول في قصيدة أخرى:
"ويمنحني المطر جواز سفر
فأرميه بوجهه وأمضي عبر الحقول
لأقبض على النور العارب والمتجه
لبطن ارض جرداء
فأركض ويتبعني
ويتبعني. ..".
في هذه القصائد وغيرها ينساب زورق الشاعر – اذا كان يحق لنا ان نصف الشاعر كذلك - في نهر الذهن فيصور له كل شيء وكأنه يعيشه في الواقع الحسي المرئي دون ان يبتعد عن قاموسيه الايروتيكي والعذري.
***
ان مجموعة "صرخات الضوء" تضم ما كتبه الشاعر من قصائد تنهل من ذائقة شعرية بكر، ومصاغة بكل ما في النفس من حب لموضوعاتها الاثيرة على نفسه، إذ بدأت ذائقته الشعرية تكتب الشعر اعتبارا من عام 2007 وكما مثبت تحت قصائده بكتابة القصيدة العمودية، وكانت سنة 2011 سنة الشعر بالنسبة إليه، إذ حفل عام 2011 بذائقة شعرية نشطة، حيث ان جل قصائد المجموعة قد كتبت في هذا العام، اما قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر فقد بدأت ذائقته الشعرية بقولهما عام 2010، فكانت ذائقته الشعرية في كتابة الشعر بأنواعه الثلاثة هي عام 2011.
ان ما كنا نقصده من "الذائقة الشعرية البكر" قد تبينت عندنا من خلال قصر اطوال القصائد العمودية، وهذا القصر ليس مرده ان موضوع القصيدة قد استنفد في عدد هذه الابيات بل مرده الى النفس القصير للشاعر وهو يكتب القصيدة العمودية.
وكذلك في طول القصائد التي كتبت بطرق أخرى، وهذا الطول مرده الى انه قد ابقى ما كتبه كما هو دون تشذيب وتنقيح وابداء رأي، وقد قال ابن التعاويذي يصف شعره:
اماط عني الأذى شعر بعثت به منقحا كل بيت مــنه مصنوع
شعر يعلم نظم الشعر سامـــعه فيه طباق وتجنيس وترصيع
صحيح انني كنت في سطوري الاخيرة ناقدا بمفهوم ان النقد تقويم وتقييم ولم اكن دارسا كون ان قصائد المجموعة هي التي دفعتني الى قول ذلك.
تبقى قصائد "صرخات الضوء" تحمل الكثير من الشعر على مستوى الشكل والاسلوب، والكثير من الموضوعات الحياتية على مستوى المضمون.